خبر الديمقراطية مسارات إصلاح وتغيير..علي عقلة عرسان

الساعة 10:45 ص|13 مايو 2011

الديمقراطية مسارات إصلاح وتغيير..علي عقلة عرسان

 

ربما جاز القول: إن الديمقراطية مسارات إصلاح وتغيير، وتنقيح  للسياسات والممارسات والدساتير والقوانين، ومسيرة تدبُّر وتبصُّر في الأحوال والأوضاع والحقوق والواجبات. ومبدأ الديمقراطية يقوم على احترام شراكة الآخر وحقه في الشرط الإنساني والمصير الإنساني، خاصة بعد أن أصبح للتجمّع البشري جغرافية سياسية يُحكم المنتمون إليها بما يحفظ حدود الوطن وقيمه. من هنا يصح القول بأن أي عمل تنافسي يرمي إلى الوصول إلى السلطة لا بد أن يكون محكوماً بالشرط الإنساني من جهة، أي أن يتم على أرضية المساواة والحرية، وأن يكون في خدمة المجتمع والوطن وصالحهما من جهة أخرى. وكل ممارسة لا تحافظ على حقوق الإنسان واستقلال الوطن وأهدافه ومصالحه تدلّ على سلطة طغيانية يمارسها فرد أو مجموعة أفراد، أو على رغبة مغامرين في الوصول إلى السلطة بأية وسيلة، وتحكمهم العقلية ذاتها التي للسلطة التي يناوئونها، بصرف النظر عن الكلام والمواقف والشعارات والتحركات والتحالفات التي يتبعونها بغية الوصول إلى ذلك.

وكل من الأنموذجين ينبذ الآخرين الواقعين تحت "الحكم" في النتيجة، مغتصباً حقوقهم في الرأي والشراكة والمواطنة والقرار، وبعض ما لهم من حقوق وحريات وكرامة.

يقول أرسطو في السياسات: "إن قسماً من المظالم، تجترحه القحة، وقسماً يجترحه الخبث"، وأيّاً كان السبب الذي يكمن وراء المظالم، فإنه اجتراء على حق إنساني لا يجوز الاجتراء عليه، واجتراء على مستند الديمقراطية الذي هو المساواة والضمير والأخلاق وسلم القيم، واجتراء أيضاً على حق الآخرين وانتزاع شيء منهم يخصهم، بغير حق وربما بالقوة. وبتقديري أن ممارسات كثيرة جعلت الديمقراطية في مختلف العصور، منقوصة دائماً، حتى في أحسن أشكال الممارسة الديمقراطية وأفضلها. فإذا كانت الشكليات الديمقراطية في الغرب المعاصر، تنفّذ اليوم بصور منها تحكّم الشركات الكبرى بسوق الانتخابات وإلغاء إرادتها ومصالحها بالمال والإعلام واللعب أو العبث السياسي، فإنها إنما تنفّذ على أرضية شراء الناس والتحكّم بهم اقتصادياً، وإفساد آرائهم ورؤاهم ومفاهيمهم ومعاييرهم وسلوكهم، وأحياناً تضليلهم إعلامياً وخداعهم دستورياً وقانونياً.

وهذا يعني إفساد الممارسة الديمقراطية شكلاً ومضموناً، في أفقها الإنساني الأسمى والاجتماعي الوضعي، وتسويقها إعلامياً بشيء من التوسّع الرامي إلى ترسيخ صيغة من صيغ وصول حكام وأحزاب وقوى إلى سدة الحكم بأي ثمن، وبأية وسيلة. إن الصحافة ووسائل الإعلام لها دور كبير في تقديم صورة ما أو صيغة ما للحياة والتصرفات، تقدّمها إما مغلوطة عن جهل أو تضليل أو ضلال، أو تناضل من أجل تصحيحها تحت تأثير دوافع معرفية وجدانية، أو لحساب رؤية أخرى تدفع التكاليف وتطالب بتعميم صيغتها الخاصة التي تراها ملائمة لها وتريدها عامة، وإكسابها البعد الإنساني والأخلاقي والمنطقي والحقاني. ولذلك يكون هناك دور كبير للدعاية والإعلام في تقدّم ديمقراطية حسب الطلب، أو الحكم على وقائع وأحداث حسب الطلب أيضاً. و أشير إلى واقعة أنموذج آخذها من خارج الوطن العربي تتألف من شقّين: في موسكو تحديداً، يوم كان (يلتسن) في البرلمان ولم يُقصف البرلمان في ظل ثورة عسكرية احتجاجية عليه، كانت تلك ديمقراطية احترمها الغرب وهلل لها، وباركتها أمريكا.. ويوم أصبح يلتسن خارج البرلمان وقَصف البرلمان وقضى على من فيه ـ معنوياً ـ فإن ذلك أيضاً اعتُبر ديمقراطياً، وهلل له الغرب بدل أن يعترض عليه. وهو موقف ينطوي على تناقض، بل يقع حداه على طرفي نقيض تماماً.

أيّاً كان الموقف والرأي وأياً كانت المصلحة والسياسة، فهذا أنموذج لتزييف الديمقراطية باسم الديمقراطية ولخداع الناس باستغفال الناس. وأبرع من يجيد هذا النوع من الفعل في عالمنا اليوم هم ساسة الولايات المتحدة الأميركية وأجهزتها ورجال الإعلام فيها، ومن يتحالف أو يتعاون معها، منتفعاً أو منخدعاً.

نحن نعرف أن الديمقراطيات تحكم المجتمعات مدنياً، استناداً إلى الدساتير والقوانين وشرعية صناديق الاقتراع، وتؤسس للأمن والاستقرار فيها بقوة القانون وقوى تحمي الوطن وتأتمر بأمر الشعب، وتوفر للناس كافة أمناً من جوع وخوف، من دون أن يكون ثمن ذلك حريتهم أو كرامتهم أو حقوقهم. وعندما يكون تداول السلطة ديمقراطياً وفق أحكام الدستور والقوانين وإرادة الشعب الحرة، يكون النظام الذي وصل إلى الحكم شرعياً، ويبقى كذلك وفق أسس الأداء القانوني والتداول الديمقراطي للسلطة.. والقرارات التي تُتّخذ ضمن هذه المعطيات هي قرارات يتّخذها ممثلو الشعب بالإنابة عنه ولمصلحته ومصلحة الوطن ضمن القانون، ولا تتخذها قوّة بمفردها على حساب مصالح الشعب أو الوطن، مهما بلغت تلك القوة، أو مهما كانت ذرائعها ومسوغاتها، ولا يجوز لأي سلطة أن ترى نفسها بديلاً  للشعب إنما ناطقاً باسمه، ومنافحاً عن مصالحه، وحارساً لأمن المواطنين وحرياتهم وكرامتهم وممتلكاتهم، ولأمن الوطن وحريته وحدوده وسيادته، في أثناء مدة توليها الحكم، وفق الدستور والقوانين التي ترسخ الديمقراطية والحكم المدني وتحترم إرادة الشعب وتبقيه مصدر السلطات، وصاحب المصلحة والقرار، وبما يحفظ مؤسسات الدولة ومصالحها.

لكن في بعض الحالات يفسُد النظام المدني إلى درجة يتمنى فيها الشعب أن يتغيّر، فإذا لم تغيره القوى الوطنية عبر الممارسة الديمقراطية، فإن خللاً كبيراً يكون في تكوينها وممارستها وإجراءاتها والقوانين والمعايير الناظمة لعملها والمصالح التي تتطلع إليها، ومن ثم فهي لا تقوى على مجاوزة أزماتها وأزمة الوطن ما لم تقم بمراجعة في ضوء مصلحة الوطن وإرادة الشعب. وإذا لم تفعل ذلك بمبادرات مسؤولة وخلاقة، فإنها تؤسس لاضطراب وما يقرب من الشلل والفوضى، ولحالة اجتماعية وسياسية غير صحية ذات انعكاسات سلبية خطيرة. وفي هذه الحالة قد يجيء التغيير عبر العنف الذي يقود الأطراف المعنية ـ بصرف النظر عن النوايا ـ إلى ممارسات غير ديمقراطية تضر بالوطن والمواطن والمواطَنة وبالديمقراطية ذاتها. وفي هذه الحالات توجد بيئة غير صالحة للتغيير الديمقراطي المسؤول، وقد ينمو الفطر السام، وتجيء بالتغيير قوى وطنية في الداخل بأساليب غير ديمقراطية تؤسس لاضطرابات قادمة وتبقي الجمر تحت الرماد، أو يتم التغيير بقوة عسكرية تعطل الحكم الديمقراطي المدني.. أو يتم ذلك باستعداء الخارج على الداخل، ولأهداف ومصالح سياسية، بتواطؤ فئات اجتماعية مع جهات وقوى خارجية، فيحقق أهدافاً سياسات ومشاريع ومصالح إقليمية لا يتطلع إليها من ينشدون التغيير. ولكل من هذه الحالات انعكاساتها وسياقاتها وأحكام تطلق عليها.

إن حالة التغيير في الإطار الوطني الداخلي، وبالأساليب الديمقراطية المستندة إلى إرادة شعبية، تبقي الوطن والمواطن أقرب إلى بر الأمان، أما في حال التغيير بقوة أمنية أو عسكرية تنفذ مطلباً شعبياً أو تتذرع بتنفيذ مطلب شعبي عام، لا يستطيع الشعب أن ينفِّذه لأنه لا يملك أدوات التنفيذ المطلوبة، فقد يكون الضرر محدوداً إذا أعادت القوة العسكرية الوطنية الأمور إلى حالة صحية من الممارسة الديمقراطية وفق الدستور وإرادة الشعب، ولم تحل هي محلّ الحكم المدني فتلغيه أو تقيم واجهة مدنية هي أقرب إلى الدمى تحركها وفق أوامرها.. لأنها تقوم بعملية جراحية بهدف استئصال المرض ولكن قد لا يشفى المريض. وفي حالة تغييب إرادة الشعب واستمرار حكم عسكري مطلق، أو ديكتاتورية مدنية تستخدم القوة العسكرية ولا تخضع للقانون، في مثل هذه الحالة لا يوجد إلاّ طغيانية واضحة وتغييب للديمقراطية.

أما إذا تم تغيير منظّم، بتنسيق مدني ـ عسكري يحتكم إلى الحق والشرعية والديمقراطية التي تحترم الدستور والقوانين وتضمن الحقوق والحريات، فإن القوة العسكرية تكون ذات فعالية إيجابية، ضامنة وحامية ومؤازرة وصاحب حق في الشراكة الوطنية، فالجيش مصدر القوة العسكرية في هذه الحالة جزء من إرادة وطنية شعبية مسؤولة، فهو شريحة من المواطنين لهم أيضاً رأي فيما يجري في الدولة، وليس مجرد قوى تُساق إلى الموت عندما يُطلب إليها ذلك، من دون النظر في الشرط الإنساني والمصير الإنساني الذي لكل منهم بوصفهم مواطنين وشركاء. إن للعسكر نوع من الشراكة، ولكن ليس لهم القرار المطلق، في ظل ديمقراطية سليمة جوهرها احترام الحريات والحقوق والمواطنة والإنسان.. إن فصل السلطات وسيادة الشعب والحكم المدني وسيادة القوانين والقيم والمعايير النظيفة الدقيقة هي التي تحفظ المجتمع وتشكل جوهر الديمقراطية وبقاءها من دون فساد أو إفساد.. وتلك بداية حقيقية للديمقراطية المعافاة. وإذا شكونا من عيوب الديمقراطية في أية حالة فلا يوجد أي علاج لعيوبها إلا بممارسة المزيد من الديمقراطية بمسؤولية ووعي وأفق إنساني مفتوح، وتطوير لأفق الحرية وتوسيع له بالوعي المعرفي والانفتاح المنتمي لهوية وأمة وثقافة وقيم.

 أما في حالة التواطؤ مع الخارج، أو استعداء الأجنبي على الوطن بأي شكل من الأشكال وتحت أية ذريعة من الذرائع، فإننا أمام تدخل خارجي، واختراق للسيادة ولإرادة الشعب وسيادة الوطن وحرمته.. إنها تضعنا أمام غزو واحتلال وعدوان وتدخل خارجي في الشؤون الداخلية لبلد وشعب، وأمام خيانة وطنية ـ إن وجدت ـ وتعاون عملاء مع المحتل ضد الشعب والوطن والسيادة والمصالح وضد القوانين ونظم الحكم بما فيها الديمقراطية ذاتها.. ومثل هذا الوضع لا يوصف إلا بصفة الاحتلال والعدوان والتآمر.. وكل ما ينتج عن ذلك الفعل لا يعبر عن أي صيغة وطنية وديمقراطية وإنسانية سليمة، لأنه يلغي الحرية والاختيار والسيادة والإرادة، ويملي خيار القوة الأجنبية ومصالحها وإرادتها. ويمكن القول، استناداً إلى قراءة تجارب الشعوب والبلدان واستقرائها، أن النظام الذي يصلح لحياة الناس في وطن ويصلحهم ويصلح الوطن هو نظام نابع من خصوصية انتماء لجغرافية وتاريخ وخصوصية قومية ووطنية، ومن حالة ثقافية واجتماعية وسياسية صحية تنمو في تربة الثقافة والمواطنة والانتماء.. إن الشعب تستفيد من تجارب الآخرين ولكنه ليس حقل تجارب للآخرين ولا المستنبَت التابع لهم.

إن الديمقراطية مسارات إصلاح وتغيير، وهي من أفضِّل صيغ الحكم إذا حكمتها قيم اجتماعية وخلُقية ووطنية سليمة وعقول نيرة وضمائر حية وقلوب تبصر وأبصار ترى، وإذا أتت ممارستها ضمن صيغ دستورية وقانونية عادلة ودقيقة وشاملة ونابعة من مساواة ورؤية إنسانية عميقة وأصيلة، تعلي شأن الإنسان والقيم والأخلاق، ويتم احترام صيغها وأصولها ومراعاة كل ذلك بصرامة في أثناء التطبيق والممارسة والتداول، على أن تُرسَم وتُرسَّخ في تلك الصيغ حدود الصلاحيات والسلطات والحقوق والحريات، ويتمثَّل المواطنون جميعاً تلك الصيغ: فهماً ووعياً وسلوكاً وتطبيقاً.

إن النفس الاستبدادية والنظم الاستبدادية والمناخ الاجتماعي الاستبدادي، والاستعداد الأصلي لدى الأفراد لممارسة الاستبداد أو لقبوله أو مواجهته بالتمرد والعنف، كل ذلك يغذي حالة غير صحية ويشكّل أكبر تدهور نعيشه في الوطن العربي، ويجعلنا نستهدَف ممن يتاجرون بالديمقراطية ويستخدمونها سلعة سياسية ضد الشعوب والدول، وهم أحوج ما يكونون لإعادة النظر بأنموذجهم الديمقراطي وسلوكهم السياسي، لأنهما لم ينتجا سوى التعسف والعدوان وابتزاز الآخرين وتشويه صورتهم وقيمهم.

هل هي حالة صحية أن يؤدي حب السلطة وشهوة السلطان بالبشر، كل البشر، إلى هذا النوع من السياسات والممارسات وإلى تنازل عن قيم وأخلاقيات ومرجعيات؟ هل هذا في طبيعة الإنسان، أم في طبيعة الحكم، أم في طبيعة الشعب الذي يرغب في التفرّج على من يتصارعون على السلطة ويغرقونه في العنف، وكأنه يشاهد مسلسلاً عجائبياً؟! السؤال مطروح على الناس كافة، والمواطن العربي أحد الأفراد الذين يُطرح عليهم هذا السؤال، وهو دائماً يتهرّب منه.

وهنا تبدو مقولة: "كما تكونوا يولّى عليكم" كأنما جاءت للدلالة على أن الناس شركاء مع الحكّام بتحمّل المسؤولية، حتى مسؤولية جور الحاكم وتشبثه بالحكم وعنف من يطالب بالإصلاح ويختار الفوضى مدخلاً للتغيير.. وربما من هنا كان القول: إن الحكمة ضالة المؤمن، وأفضل الجهاد كلمة حق في وجه سلطان جائر، لأن في ذلك أمل بالعودة إلى الحق والعدل والحكمة العقل.

 

دمشق في 13/5/2011