خبر كلنا للوطن.. والوطن لنا كلنا .. علي عقلة عرسان

الساعة 09:14 ص|23 ابريل 2011

كلنا للوطن.. والوطن لنا كلنا .. علي عقلة عرسان

                                                                           

القراءة الآنية للمشهد السياسي العربي، خلال الأشهر القليلة الماضية، تفيد بوجود ستة من فصول الإصلاح أو التغيير أو الثورة، اثنان منها انتهيا إلى نتائج سياسية واضحة، بخسائر متفاوتة الحجم، ولكن خواتيمهما التي توجت بالتغيير الشامل، وتغيير النظام، وحل الحزب الحاكم، وتغيير الدستور.. إلخ  ما زالت مفتوحة على احتمالات يحددها المستقبل، وهما الفصلان التونسي والمصري بدروسهما.. وفصل ثالث هو الفصل البحريني الذي انتهى بسيطرة السلطة بالقوة على المشهد، وبقي جمر الاحتجاج تحت الرماد ومطالب المعارضين في الصدور.. وفصلان دخل كل منهما في دوامة خيارات قاسية وخضم مخاض أعسر من عسير، على تفاوت كبير فيما بينهما في التوجهات، وهما الفصل اليمني في ساحتي التغيير والتحرير، حيث تتقابل قوة تأييد وقوة تغيير في إطار النسيج القبلي والحزبي اليمنيين، وقد كلفتا اليمن الكثير من الأرواح والخسائر المادية، ولكنهما قد تنتهيا إلى وفاق بحنكة خليجية تضاف إلى "الحكمة اليمانية"، ليتم إنهاء الفصل اليمني الدامي، إن شاء الله، بالتوافق على تدابير تفضي إلى التغيير العُضال، وانتقال السلطة عبر ديمقراطية يرتضي نتائجها كل اليمنيين. أما الفصل الخامس وهو الفصل الليبي، فهو الأكثر مأساوية ودموية من بين الفصول العربية كلها، حيث الخسائر البشرية والمادية والمعنوية لا تتوقف عند حد المنظور الحالي من جهة، وتفتح الباب واسعاً على الأسوأ، لأن التدخل الخارجي تحت مظلة مجلس الأمن بطلب عربي غير مدروس النتائج، يتجه عملياً  ـ لا سمح الله ـ نحو تقسيم ليبيا، وتقاسم السلطة عليها والنفوذ فيها، واحتلالها فعلياً، ونهب ثرواتها.. بصرف النظر عن المسوغات والواجهات والشعارات، الليبية وغير الليبية التي تُرفع هنا وهناك..   

ـ ليبياً: من قبل سلطة تتمسك بالبقاء وتحتكر الشرعية، ومعارضة تريد التغيير وتستعين بالخارج على الداخل، وكل منهما كلف الشعب الليبي والبلاد ما لا يُطاق يغتَفر ولا يتوقف تأثيره عند حدود الوضع الراهن..

ـ ودولياً: من دول عربية بذريعة حماية الشعب الليبي من سلطة تقتله.. ومن دول استعمارية تلعب بالأطراف كلها، وهي ذات أطماعٍ لا تُحد، وتاريخٍ إجرامي أسود، وحقد صليبي متأصل ومقيت، على العرب والمسلمين، وقد ظهر جلياً في إبان الحقبة الاستعمارية التي شملت الوطن العربي كله وبلدان إسلامية كثيرة، وفي احتلال العراق وتدميره، وفي الحرب المستمرة على أفغانستان وباكستان.. وفي الحرب على لهوية والعقيدة باسم مكافحة الإرهاب.. وهي تتلطى تحت شعارات إنسانية، بينما تذبح الإنسان وتستبيح البلدان. وعلى من يريد أن يستذكر ويعتبر أن يعود إلى صفحات تاريخ الاستعمار الغربي في دول شمال إفريقية على الخصوص، وهي تنبئه بالكثير الكثير، وتجعله يستنتج ما لا يمكن أن يتجاهله عقل أو يَغفل عنه ضمير.

والمحزن المؤلم إلى أبعد الحدود أن أحفاد الشهيد عمر المختار يقودون بلادهم في مسارات تتناقض مع ما بذره في تلك الأرض هو ورفاقه وأبناء الشعب الليبي من بذور، على طريق الحرية والتحرير ووحدة الشعب والأرض والدفاع عن الهوية والعروبة والإسلام. ومن المؤسف أن المواجهة الحالية هناك لا تحترم قيمة ولا علاقة ولا صلة رحم ولا أصولاً ولا أصالة، مما ينبغي أن يفتح العيون على مخاطر الحروب والفتن والتدخل الخارجي وأشكال الحمق السياسي وقصر النظر.

إن تفاصيل الفصول العربية الخمسة التي أشرت إليها، وتطورات الأحداث فيها من البدايات إلى ذرى الأزمات، وصولاً إلى النتائج والعبر، تختلف وتتفاوت نسبياً من هذا البلد العربي إلى ذاك، وقد تختلف فيها أيضاً بعض الظروف والمعاناة والتكاليف بين ساحة وأخرى، ومن ثمة النتائج النهائية.. ولكن المطالب الأولية وتسلسلها والتصعيد والتدرج فيها.. كل ذلك متقارب وأحياناً متطابق إلى الدرجة التي يغري معه تشابه الأساليب والأدوات أيضاً بالقول بأن هناك محرك واحد خلف الفصول المشاهد، يريد إعادة ترتيب أوراق الوطن العربي وقواعد " اللعب" فيه؟!.. ولكن الواضح أن الهدف النهائي المضمَر في كل فصل من الفصول محدد بوضوح منذ البداية وقبل تدحرج الأحداث في مسارات معينة، وهو هدف منشود بوعي وتصميم في أثناء تطورها أو تطويرها حتى تبلغ نهاياتها، بما يوحي بوجود استراتيجية تعتمد "تكتيكاً" متحركاً من أجل الوصول إلى غايات معينة بدقة. ويساهم المشترَك العربي والتشابه في التكوين والمعاناة والطموح والتطلع الشعبيين من جهة، وفي ممارسات الأنظمة وأساليبها واستجاباتها من جهة أخرى.. يساهم في الإقبال على تمثُّل الحدث، وانتقال العدوى، وتكرار التجربة وحتى الشعار.. وانتشار كل ذلك من ساحة عربية إلى أخرى.. فكلنا في الهم عرب. 

وهذا الوضع بما ينطوي عليه من تفاصيل وخلفيات، وما يتضمنه من استخلاص ويسفر عنه من نتائج، يفرض نفسه بقوة ويتوضَّع أمام العناصر المحركة في الفصل السادس من فصول الأحداث العربية والمعنيين به، وهو الفصل السوري الذي بدأ في درعا منذ السابع عشر من آذار/ مارس 2011. وربما لا يصح الرأي الذي يقول إن الأحداث التي جرت هناك، وأدت إلى إزهاق أرواح، وإراقة دماء، وانتهاك حقوق وحرمات، وشكلت انطلاقة لحركة الشارع السوري.. كان يمكن أن تنتهي ويزول تأثيرها، لو أن رئيس الجمهورية ذهب إلى درعا مواسياً و.. و.. فالشرارة التي أدت إلى اندلاع الحريق لم تكن لتفعل فعلها المتدحرج ذاك لو لم يكن هناك من يتلقفها، ليشعل هشيماً في مواقع أخرى.. فهناك تدبير وتنسيق من جهة ومعاناة وتراكم وممارسات مرفوضة من جهة أخرى، وكل ذلك أدى إلى تفاعل النار مع الهشيم، وإلى سرعة في تلقف من ينتظر الشرارة ويتلهف عليها ليستثمر في الحدث، ويجعله يأخذ هذا البعد العام.. وكل تلك الأسباب والأساليب والعوامل والتصرفات الرعناء من بعض المسؤولين أدت إلى أن تنتقل الشرارة بسرعة إلى مناطق أخرى فيها من ينفخ في النار وقبلية للاشتعال.. ومما يعزز هذا المنحى من مناحي التفكير والتفسير أن المطالب قد تطورت من مطالب متعلقة بحدث معين وظروف معينة في مدينة محددة إلى مطالب أعلى وأوسع واشمل وأبعد من نطاق الحدث والمدينة، وأخذت مساراً متنامياً وفق تسلسلٍ وتدرجٍ مدروسين بتغذية وتنمية وعمل في إطار الهدف الأهم الذي كان مضمراً، وكانت تشير إليه أحداث وأوضاع وحالات ومطالب لفئات تمت معالجتها بطرق وأساليب ثبت أنها لم تكن ناجعة، مع أن الجهات المعنية بالتعامل مع تلك المطالب والحوادث والأوضاع، استشعرت ضرورة التعامل معها من خلال توجهها نحو سياسات وإجراءات لم تأخذ طريقها إلى التنفيذ الفعلي، ومداها العملي في وقت ملائم.

وكما حصل في تونس ومصر على سبيل المثال أخذ سقف المطالب يرتفع، ويحاول البعض أن يدفعه بتسارع ملحوظ، على الرغم من الإعلان عن التجاوب السياسي مع المطلوب، والتفهم للأوضاع والظواهر التي بدت. وبدأ الدفع باتجاه التحول من الإصلاح الذي طرح منذ البداية إلى التغيير الذي لا يتوقف عند سقوف، مع استمرار حركة مطلبية، تشكك بالاستجابة الرسمية، ولا تعمل في إطار معادلة " خذ وطالب"، بل يذهب بعض عناصرها إلى حد المطلبية المتطرفة استجلاباً لفعل متطرف لتدور عجلة دموية، وذلك من خلال أساليب استفزازية أحياناً، مستهدفة إثارة رد فعل يقوم على التحدي ويغرِق الطرف الآخر في العناد وأوحال العنف لتثبيت رؤية مسبقة ورفع سقوف المطالب.. وقد بدأ رفع سقف المطالب فعل، كما حصل في تونس ومصر.. فقالت جهات بتعديل الدستور، وحل الحزب، وحل مجلس الشعب، وتغيير النظام.. إلخ، وما يتبع ذلك من تطورات ومطالب تضمنتها بيانات، وشعارات، وهتافات، ودعوات تحريض وردود عليها في وسائل التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام..إلخ.

ولا يفيد السوريين جميعاً الدخول في مماحكة وصراع دامٍ يزعزع الجبهة الوطنية الداخلية، وأمن الشعب والوطن، ويرهق المواطن، ويغرق الجميع في مستنقعات التحدي والعنف الدامي والحقد الذي يعمي القلوب.. وليس من مصلحة أحد التغاضي عن حقوق المواطن وحريته وكرامته وتحقيق كل ما يخفف من معاناته، ولا عن طلب الحقيقة ومناصرتها، ونشدان الموضوعية، وتحكيم العقل والمنطق، وتحاشي الكذب والتشويه والتحريض وتبادل التهم، والإسفاف في الفعل والقول، ونبش تاريخ الخلاف، وشحن الأنفس بالبغضاء.. وقطع الطريق على مسار الإصلاح والمطالبة بالمزيد منه، وعلى التوافق الوطني المطلوب وأبعاده وأولوياته وخططه وأزمنته والسبل المؤدية إليه، وعلى التوجه الرسمي نحو الإصغاء للصوت الآخر الشريك في الوطن والمواطنة والمصير، والتعامل مع الأفكار والأقوال والمطالب الشعبية بجدية ومسؤولية وسرعة، ضمن أطر دستورية وقانونية مقبولة ومعقولة تتم وفق الأصول التي يقرها العقل والمنطق والشرع والعرف الإنساني.. لأن نشر الفوضى والتعامل بالعنف وانعدام الثقة وتجاهل المنطق والأصول القانونية والأخلاقية يقود ببساطة متناهية إلى نتائج سلبية، ولا يحقق مصلحة لأحد، ويضر بالشعب والوطن، ويلجئ كل طرف إلى أساليب ووسائل لا يريدها ولا يرضها هو نفسه، وقد يفرض عليه كل ذلك صلات وعلاقات وتحالفات مع جهات تعود على كل الأطراف بالخسارة، وعلى الشعب والوطن بالكوارث والويلات. والدروس أمامنا تنطق بأعلى الصوت ولا تحتاج إلى كثير من الفقه للوصل سبر أغوارها. إن التمترس في المواقع، والتراشق بالكلام أو بالرصاص، والذهاب إلى تحليل وتفسير وبحث في الظواهر وأسبابها.. كل ذلك مفيد وضروري ولكن ليس الآن في وقت يصب فيه بعض الأشخاص الزيت على النار، سواء بتعاليهم على الحق والمنطق، أو بلجوء آخرين إلى القوة، وترك فئات قاصرين أو موتورين يزينون طريق الفرقة والفوضى والفتنة. والمطلوب الآن تحمل مسؤولية أخلاقية ووطنية وإنسانية حيال الشعب، كل أفراد الشعب، وحيال الوطن كل مصالح الوطن قيمه.. ومطلوب التفاهم، والحوار، ومد جسور الثقة، وتعزيز اطمئنان الأنفس إلى مستقبلها والسياسات التي تسوسها، وإعلاء مصلحة الوطن والمواطن باحترام الحقوق والحريات العامة وشروط المواطَنة وواجباتها، وبحث القضايا التي من شأنها أن تحل مشكلات كل المواطنين السوريين أينما كانوا، وتلك التي من شأنها أن تقضي على السلبيات ومناخ التحديات المتبادلة، وتحول دون الانتقال إلى مواجهات دامية يذهب ضحيتها الأبرياء، وتُعرِّض الوحدة الوطنية للضعف، والبلد لخسائر بشرية ومادية ومعنوية لا طاقة له بها.   إن اتخاذ خطوات على طريق الإصلاح المنشود، والوعد باستكمال الخطوات المؤدية إلى مزيد من الإصلاح، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بالمحافظة على كرامة الوطن والموطن.. بتدرج منطقي سريع وصولاً إلى الأهداف المشروعة التي ترفعها التظاهرات الشعبية، فعل واجب التنفيذ، وتقع مسؤوليته على كل معني بالتشريع والتنفيذ والمساهمة في خلق المناخ الصحي الذي يضمن الوصول إلى أفضل النتائج بأسرع الأوقات وأسلم الطرق.. وتلك مسؤولية كل من يعنيه الوطن ومستقبل الأجيال وسلامة الحكم، وانتفاء أية حالة من حالات التضييق أو القمع أو الانتقاص من الحقوق. إن ارتفاع الأصوات منادية بالحد الأقصى من المطالب المتطرفة، سوف يقودنا إلى موجات فعل ورد فعل توصلنا إلى مرحلة اللاعودة.. ولا أظن أن المسؤولية الوطنية والأخلاقية والعقائدية والدينية تجعل أياً من الحريصين على المصلحة الوطنية العليا، يصل بالناس والبلاد إلى ما لا يريده ولا يرغب فيه أي سوري على درجة من الوعي والأخلاق، مؤمن بربه، منتم بوعي وإخلاص لوطنه وشعبه وأمته، متيقظ لما يدبَّر من خطط لتغير سورية توجهاتها وخياراتها الوطنية والقومية التي تميزها تاريخياً.. وعلى كل من يجد نفسه معنياً بمستقبل البلاد، وأمن الناس وحرياتهم، وسيادة الوطن وقوته ومنعته، والوحدة الوطنية الحقيقية أن يلاقي الآخر في منتصف الطريق، سواء أكان مسؤولاً أم مواطناً عادياً، في السلطة أم في المعارضة، في بؤرة الاهتمام السياسي أم على هامشها.. فكلنا للوطن، والوطن لنا كلنا.