خبر العرب والثورة المصرية .. مصطفى الفقي

الساعة 07:09 ص|19 ابريل 2011

جاء على مصر حينٌ من الدهر كانت تجسد فيه أحلام أمتها العربية وآمال شعوبها في التحرر الوطني والتنمية الشاملة والعدالة الاجتماعية، عندما تزعم قيادتها تيار قومي في مواجهة الضغوط الأجنبية والقوى الخارجية، ورغم أننا نعترف أن لتلك المرحلة من المد القومي الذي قادته القاهرة سلبياتها أيضاً، وأن الصورة لم تكن “وردية” تماماً، كما أن مساحة الديمقراطية كانت ضيقة، كما غابت الرؤية البعيدة للمستقبل القومي، وتقلصت مساحة السياسة والدبلوماسية لمصلحة أجهزة الأمن وأدوات التوجيه المباشر، ولكن ظلت مصر تحتل مساحة كبيرة في قلب أمتها العربية، إلى أن جاء حينٌ آخر من الدهر، خصوصاً في العقدين الأخيرين، فتراجع الدور الإقليمي لمصر، ولم تعد شيئاً مذكوراً! وكنا نشعر بالخزي والخجل لمواقفها الانسحابية في كثير من المجالات، فتركت مساحة فارغة على ساحة الشرق الأوسط حتى حاولت الدبلوماسيتان “الإيرانية” و”التركية” ملء ذلك الفراغ، ومصر ترقب ما يجري في صمت وترفض الاشتباك الدبلوماسي أو الحوار السياسي مع الغير، وهماً منها بأن ذلك منجاة ودليل على ادخار الجهود للبناء الداخلي والانصراف عن المشكلات الخارجية، وذلك تفكير مغلوط لأنه يعني ببساطة أن مصر تبدو وكأنها تفرط في عروبتها، وتتنازل عن دورها، استجابة لضغوطٍ خارجية ومؤثرات أجنبية . وكنا نرى نظرات الإشفاق والتعاطف من أشقائنا العرب في المناسبات المختلفة وهم يتساءلون في لوعة وقلق “أين أنتم؟”، ولم نكن نستطيع تقديم الإجابة الشافية، إلا أن تكفل جيل جديد من أبناء الشعب المصري بصيحاتهم المدوية في “ميدان التحرير” من تغيير المشهد كاملاً، عندها قال العرب في صوتٍ واحد (مصر عادت)، ولكي لا أستغرق في تحليل لا يخلو من عاطفة، فإنني أتقدم برؤيتنا لطبيعة الدور العربي لمصر في إطار مسؤولياتها القومية ودورها التاريخي وتضحياتها المشهودة وأقول ما يأتي:

أولاً: إن تاريخ “نظرية الدور” بالنسبة لمصر طويلٌ وواضح، فلقد حكمت الجغرافيا طبيعة الموقع الوسطي لمصر في قلب العالم العربي، فضلاً عن وقوفها على البوابة الشمالية الشرقية للقارة الإفريقية . ولقد كانت مصر دائماً تبيع دوراً سياسياً نشطاً تشترى به تعاوناً اقتصادياً ملموساً . فمصر القوية هي التي تمارس دوراً يجذب إليها الغير ويسمح بتدفق الاستثمارات وأفواج السياح ووفود طالبي العلم وراغبي متابعة التجربة المصرية في مراحلها المختلفة . فلا يتوهم أحد أن قضية الدور هي طريق من اتجاه واحد تعطي فيه مصر ولا تأخذ، بل هو طريق مزدوج يؤدي إلى التضامن السياسي والتعاون الاقتصادي والاندماج الثقافي .

ثانياً: إن الصورة الذهنية للدور المصري وتحريكه مستقاة لدى الكثيرين من مرجعية واحدة، وهي “العصر الناصري” بما له وما عليه، وربما عصر محمد علي أيضاً بفتوحاته وانتكاساته، وواقع الأمر أن الدور السياسي الخارجي لا يعني على الإطلاق التورط في مغامرات عسكرية أو الدخول في مواجهات إقليمية حادة، ولكنه يعني فقط الاشتباك السياسي والحوار الدبلوماسي مع التسليم ببعض النفقات المطلوبة والتضحيات المحسوبة، ولكن العائد دائماً إيجابي بالنسبة لمصر، فالدور لا يعني فقط “حرب اليمن” أو “نكسة يونيو” في ستينات القرن الماضي، ولكنه أمر أوسع من ذلك وأشمل، فإذا كانت الطموحات الإمبراطورية ل”محمد علي” تختلف عن التطلعات القومية لجمال عبدالناصر، فإنهما معاً يختلفان عن توجهات قائدٍ آخر هو أنور السادات الذي أظنه ثاني رجل دولة في التاريخ المصري الحديث بعد محمد علي، ولقد قلت ذلك صراحةً في مناسبات كثيرة وأثناء نظام الحكم السابق على اعتبار أن عبدالناصر قامة قومية عالية هي أقرب لفكرة الزعيم البطل منها إلى فكرة رجل الدولة أو الرئيس المناور .

ثالثاً: إن الدور المصري التزام سياسي لا يمكن الخروج عنه لأن مصر بلدٌ لا يعيش وحده، ولا يقبل العزلة، وهي تجد في عروبتها “مجالها الحيوي” مع اعتراضي على ذلك التعبير لما ينطوي عليه من مرجعية ترتبط ببعض مراحل الفكر النازي قبيل الحرب العالمية الثانية، ولكني أستخدمها هنا للدلالة على أن البيئة الإقليمية لمصر هي عربية الطابع، حتى ولو كانت إفريقية الموقع، و”المجال الحيوي” هنا تعبيرٌ مشترك ينسحب على مصر وشقيقاتها العربيات في تكافؤ وندية وتوازن .

رابعاً: إنني أتساءل هل يمكن لمصر التي تملك واحداً من أقدم الأجهزة الدبلوماسية في عالمنا المعاصر أن تترك  هي وغيرها من الدول العربية  الدولة الفارسية لكي تكون متحدثاً وحيداً حول مستقبل المنطقة واحتمالاته بدعوى الحوار أو النزاع حول الملف النووي، وهل نترك أيضاً للدبلوماسية التركية  مع تقديرنا لبعض جوانبها  أن تتحرك وحدها على الساحة الإقليمية؟ إن الأمر مختلف إذ يجب أن نتصرف كقوى فاعلة، وليس مجرد أرقام على خريطة، ومن يتصور أن هناك تعارضاً بين القطرية والقومية هو قصير النظر، عاجز الرؤية لأن الانتماء إلى الكيان الأصغر يعزز بالضرورة الانتماء إلى الكيان الأكبر، فالوطنية المصرية لا تتعارض مع القومية العربية بل هما انتماءان متكاملان بشهادة التاريخ وواقع الجغرافيا أي بالزمان والمكان بل والسكان أيضاً .

خامساً: إن كلمة “الدور” ليست تعبيراً سياسياً معيباً حتى ينتقده المتحمسون للانكفاء القطري والنظرة الشعوبية، كذلك فإن كلمة “لا” في الدبلوماسية لا تعني استئناف الحرب في اليوم التالي، ولا تدل على أن الدور يمضي في اتجاه سلبي بل هي تأكيد لوضوح الحوار وسلامة الرؤية وعمق التفكير، ولقد لاحظت في السنوات الأخيرة أن موافقة مصر على كثير، مما طلب منها واستجابتها للضغوط عليها قد أطاحت بجزءٍ كبير من هيبتها الإقليمية ودورها الحيوي ووضعتها في موقف لا تحسد عليه، ولعله من حقي شخصياً أن أسجل هنا أنني رفضت الضغوط الشديدة التي مورست عليّ لزيارة “إسرائيل” عام ،2004 لتمثيل مصر في الاحتفال بمرور ربع قرن على توقيع اتفاقية السلام، حيث أكدت أنني لا أتقبل نفسياً زيارة “إسرائيل” في ظل ممارساتها العدوانية في العقود الأخيرة، ومع ذلك فإنني أسجل التزامي بالسلام والمحافظة عليه، فهناك فارق بين أن نقول “لا” وبين أن نقرع طبول الحرب التي لا نريد لها أن تعود، ولكننا نطالب الدولة العبرية باحترام قرارات الشرعية الدولية والدخول مع العرب والفلسطينيين في مفاوضاتٍ جادة لا توقفها بالاستيطان ولا تجمدها بمواصلة العدوان .

. . إن قضية الدور المصري هي معطاة تاريخية وواحدة من المسلمات التي لا يجب التشكيك فيها أو الحد من قيمتها، وأنا أتذكر أن الوطنية المصرية تقدم دائماً الأرضية الصالحة للقومية العربية انتماءً وفكراً وسلوكاً، وأنه مما يدعو إلى الارتياح أن يكون من تداعيات “ثورة يناير” المصرية صحوة في الجهاز الدبلوماسي بقيادته الجديدة لكي تصلح أخطاء الماضي وترمم آثار انكماش الدور وتراجع المكانة، فمصر تفتح ذراعيها للدول العربية والإفريقية وجميع القوى العالمية التي تتفهم طبيعة الدور المصري وتدرك أبعاده .

إنني أريد أن أقول بإيجاز إن الدور القومي المصري هو ركنٌ ركين من شخصية الدولة المصرية منذ إبرام المعاهدة الأولى مع “الحيثيين” أو الاشتباك العسكري مع “الهكسوس”، ولقد توالت على أرض الكنانة الحضارات، ووفدت إليها الثقافات، ولكنها ظلت دائماً معقد الأمل وموطن الرجاء، لأنه لا يوجد من يعيش وحده، كذلك فإننا لم نعثر بعد على من عاش الزمان كله وتواجد في كل مكان على نحوٍ دائم حتى يجعله ذلك قادراً على أن يحتكر الحكمة ويفرض رأياً على غيره، فالقضية مفتوحة والجدل مطلوب والحوار حضارة .