خبر الآن وليس بعد ساعة..علي عقلة عرسان

الساعة 03:43 م|18 مارس 2011

 

الآن وليس بعد ساعة..علي عقلة عرسان

 

فرض مجلس الأمن الدولي في الساعة الأولى من صباح الجمعة الموافق 18 آذار / مارس 2011حظراً جوياً على ليبيا، بأكثرية عشرة أعضاء من أصل خمس عشرة عضواً. وكان من بين الممتنعين عن التصويت، المؤيدين ضمنياً لصدور القرار، دول دائمة العضوية مثل روسيا والصين، وأخرى كبيرة وذات تأثير مثل الهند والبرازيل وألمانيا. وعلى الرغم من أن القرار 1973 أشار إلى أن الحظر يأتي لحماية المدنيين الليبيين، ويحافظ على وحدة الأراضي الليبية،  ولا يعني تدخلاً عسكرياً.. إلا أنه يشي بالكثير مما يناقض ذلك، أو ينطوي تطبيقه على ما يناقض النوايا التي تتصدره وعلى رأسها حماية المدنيين، على أهمية حماية المدنيين وضرورة حمايتهم في الصراعات الدامية. فتنفيذ القرار الدولي يعني عملياً إمكانية التدخل العسكري من جانب بعض الدول على الأقل، وقد جاء في القرار ".. فرض منطقة حظر طيران فوق ليبيا والتفويض بتنفيذ عمل عسكري لتنفيذ الحظر.". وعلى الرغم من موافقة ليبيا على التعاون مع مجلس الأمن الدولي لتنفيذ القرار المشار إليه، في خطوة سياسية استباقية مدروسة تهدف إلى لقطع الطريق على من " يتحمَّضون" لتوجيه ضربات عسكرية، إلا أن الدول المتحفزة لتوجيه ضربات للمواقع العسكرية الليبية، فور صدور القرار، مثل فرنسا وإنكلترا وكندا، وإيطاليا التي وضعت قاعدة " سيغونيلا الجوية" في صقلية التي يستخدمها الأسطول السادس الأميركي في البحر المتوسط، تحت تصرف الدول التي تعمل على تنفيذ القرار.. إن تلك الدول ستباشر بالعمل العسكري فوراً، ولا تنقصها الحماسة ولا الذرائع.. فالحظر الجوي بقرار دولي، وهو يستدعي تأمين الطيران الذي سيفرضه، وهذا لا يتم إلا بتوجيه ضربات عسكرية لقواعد المضادات الأرضية وللقواعد الجوية التي قد يقوم منها طيران ليبي باعتراض القوة الجوية الدولية التي تفرض الحظر. 

وقرار الحظر الذي وافقت ليبيا على التعاون لتطبيقه، لا يعني للعقيد القذافي عدم استخدام القوة على الأرض لاستكمال المهمة التي أعلن عن تأكيده القيام بها في حديثه الإذاعي لأهالي بنغازي يوم 17 حيث أنذرهم فيه بأنه سيحرر بنغازي خلال 48 ساعة.. وهذا الأمر الدموي فعل قوة من طرف يملك تفوقاً في السلاح والإمكانيات، وينطوي على مساس بالمدنيين الذين يحميهم القرار الدولي، وهو تصرف يفتح الطريق أمام تنفيذ شق آخر من القرار 1973 ينص على ".. السماح للمنظمات الدولية والدول المنفردة، باستخدام «كافة السبل الضرورية» لإنهاء قمع القذافي للمتظاهرين المدنيين..". وحين ندقق في عبارة "استخدام السبل كافة"، نجد أنها عبارة واسعة شاسعة يمكن أن يدخل من بابها احتمال تزويد المعارضين بالسلاح في إطار تمكينهم من الدفاع عن أنفسهم، مما يدخل في باب العمل على حمايتهم.. ومعنى هذا فتح الأبواب أمام استمرار الصراع، وأمام صيغ من الحرب الأهلية، على غرار ما جرى بين الكوريتين، وبين فيتنام الشمالية والجنوبية، وفي كمبوديا.. إلخ في القرن العشرين.. حيث وقفت قوى دولية خلف المتحاربين، وكلف ذلك تلك البلدان والمدنيين الأبرياء فيها أثماناً فادحة.

 وتطور ذلك النوع من الصراع، أو تطويره بخبث الأشرار المحترفين الذين يغذونه، سوف يسمح للدول الاستعمارية الراغبة في التدخل العسكري المباشر في ليبيا لتحقيق أهداف ومصالح، ولتلك التي تدخل من نافذة المنظمات الدولية للتدخل في الشأن الليبي بشكل غير مباشر تحقيقاً لأغراض ومصالح، سوف يسمح لهم جميعاً بالوصول إلى ما يريدون، ويفتح الأسواق السوداء أمام تجارة الدم والسلاح وصناعة الموت، وأمام تجارة الأغذية والأدوية والمواد الاستهلاكية والبترول وسواها على مصراعيها، في أوقات الحصار والحروب. وسيقبض الغربيون الثمن غالياً جداً من العرب عموماً ومن الليبيين خصوصاً.. سيقبضونه أموالاً وثروات ونفوذاً وهيمنة.. و.. إلخ، فضلاً عن تغريمهم بتحمل تكاليف تنفيذ قرار الحظر الجوي علي ليبيا، وسوف تستنفد الأموال الليبية، كما استنفدت في الماضي في رفع الحصار وفي هذا الاتجاه أو ذاك، وكذلك في موضوع رفع الحظر الجوي مستقبلاً، أياً كان النظام الذي سيحكم ليبيا.. فشهية الذين ابتزوا ليبيا في الماضي انفتحت على آخرها لابتزازها في المستقبل. وسوف يتم تقسيم ليبيا إلى قسمين، قسم تحت إمرة العقيد القذافي في طرابلس ومعظم الغرب الليبي، وقسم تحت قيادة المجلس الوطني الليبي في بنغازي ومنطقة ليبيا الشرقية.. وكل يستعين بغير الليبيين على الانتصار على الليبيين، وعلى حكم ليبيا، ويغدق من " عطاءاته" ووعوده على من يقف إلى جانبه. ولن يسلم العرب الذين يتدخلون ولا أولئك الذين يقفون على الحياد من الشرر الذي سينبعث من الأرض الليبية، لا سمح الله.. ولن تبقى دول إفريقية غير العربية بمنأى عنه.

وإضافة إلى الخسائر في الأموال والأرواح والعمران، سوف تزرع الأحقاد والضغائن، ويزداد العرب والمسلمون ضعفاً على ضعف، وتمزقاً على تمزق، وتخلفاً على تخلف، وتتعرض المنطقة كلها إلى مخاطر لا يعلم شدتها ومداها إلا الله، لا سيما إذا ما نظرنا إلى المشهد بتكامله، عربياً وإسلامياً على الخصوص، في ليبيا والبحرين واليمن..إلخ، وما جره ويجره ذلك من تحالف وتحزب وتدخل خارجي، وصراعات طائفية، معلنة وخفية.. وجهل وجهالة، وعَمَه وعماية، وارتباط وعمالة.. مما يتواشج ويتفاعل، وينمو وينتشر كالفطر السام في مساحات العقول والأنفس، المسؤوليات والأنظمة، والحكومات والمعارضات، ويملأ ساحات الوطن بالخطر الداهم الذي يعم ولا يخص.

لقد وقعنا مرة أخرى في الفخ، وسواء أكان ذلك من فعلنا أو من فعل أعدائنا، فإننا الجرح والسكين، الضحية والجلاد.. وها نحن جرح على جرح، وموت على موت.. فبعد العراق يأتي دور الجماهيرية، وفي عمق غصة الحلق مما ينتظرنا هناك تتفطر أرض البحرين عن أزمة ذات أبعاد تثمر الفتنة أو تزرعها وترعاها.. ويبقى الحبل على الغارب.

وليس لنا من مخلص سوى أنفسنا.. ليس لنا إلا الهدى والحكمة والتبصر بالنتائج، وقراءة الحاضر المحرق في ضوء رماد الماضي القريب.. لكي نتخلص من الفخ الذي وقعنا فيه، ونخرج بحلول لما نحن فيه من أزمات وصراعات ومشكلات، لن يستفيد منها ومن تفاقمها إلا أعداء الأمة.

ولا أزعم الحكمة ولا الهدى إذا فكرت، وسألت نفسي وتساءلت، وتمنيت على المسؤولين والقادرين وأصحاب القرار والرأي.. فعل شيء منقذ قبل فوات الأوان، واجتراح ما يمكن أن يسمى معجزات يدحر الانتحار وفعل الموت ويشجع الابتكار وفعل الحياة.. قبل أن تتفاقم الأمور ولا ينفع معها علاج.

 في ليبيا القذافي وعهده بحكم المنتهيين، شرعياً وخُلُقياً، فلا يقوم حكم على استمرار القتل والظلم واستخدام قوة الشعب ضد الشعب الذي يأتي الحكم بإرادته، ويكون لمصلحته، ولا يستمر إلا برضاه. وإذا كان الشعب أو نصفه، أو يقل عن ذلك قليلاً أو يزيد عليه كثيراً، يرفض حكماً ونظاماً ويخرج عليهما، ويدفع ثمن ذلك الخروج أمنه واستقراره ودمه وأرواح بعض أبنائه.. فلا يجوز تجاهل معاناته ومطالبه وإرادته، فهو المعني أولاً وأخيراً بحياته ومستقبله وخياراته، وهو الذي يتحمل نتائج تلك الخيارات.. ولا يجوز أن يُفرض عليه حاكم وحكم ونظام بقوة القهر وتهديد السلاح.. تحت أي شعار.

وحين يقول حاكم ونظام: إن الشعب معه، وإن من مسؤوليته، بناء على شرعية حكمه ومشروعية ما يتخذه من إجراءات.. أن يحفظ الأمن، ويحمي الوطن والناس، والممتلكات العامة والخاصة، من الفوضى والتخريب وعبث العابثين.. فتلك مسؤوليته التي يُحاسب عليها، وحقه الذي يرتب عليه المسؤولية.. ولكن لا يجوز له، بأي حال من الأحوال وتحت أية ذريعة من الذرائع، أن يكلف الشعب أو شطراً منه، حياة ذلك الشعب بذريعة حماية ممتلكاته وتوفير الأمن له.. فلا يمكن أن يكون ثمن بسط الحاكم لسلطته التي هي من الشعب أصلاً وفي خدمته ومن أجله.. لا يمكن أن يكون ثمنها حياة ذلك الشعب وراحته وأمنه وكرامته.

فمن هو الحاكم حيال شعب، أياً كان ومهما فعل؟ وما هي مكانته وقيمته حيال قيمة وطن ومكانته.. وما أهمية مستقبله وكرامته حيال مستقبل أجيال وكرامة أمة.؟!. وإذا لم يكن الحاكم رجل دولة، وكبيراً إلى الدرجة التي يستشعر معها أهمية التضحية بصغائر الأمور وبما يخصه هو منها، من أجل كبرياتها وما يعود على الوطن والشعب منها بالخير والأمن والمنعة.. فلا يجوز أن نرفع الصغار إلى المواقع الكبيرة لمجرد أنهم يريدون ذلك، أو لأن فريقاً منا يدعيه لهم، ويغريهم باستخدام قوة الشعب لإرغامه على الانصياع لما يريد وما يريدون.. وهل ترانا نصدق يا ترى، في هذا العصر، تزلف المتزلفين، ونفاق المنافقين، وأناشيد الانتهازيين المخادعين التي يرفعونها طمعاً، ويسوغونها عند اللزوم خوفاً.. وهي تنسب للحاكم الإنجازات والمعجزات وكل ما ينجزه الشعب بعرقه وجهود أبنائه ودمائهم.؟! ونلحق بهم الأوطان الناس، العبقرية والشعب، الخير والبركة، الإحياء والإماتة.. وما لا ينسب إلا لله سبحانه وتعالى.؟!

وفي حالة التنازع بين قويتين شعبيتين يقف الحاكم مع إحداهما، ولا نعرف بالتحديد ما إذا كانت هذه القوة أو تلك تمثل الأكثرية الشعبية الفعلية، فإن المنطق والعقل، الدستور والقانون، الشرع والحكمة ـ ولا نتكلم هنا عن الأخلاق والدين اللذين لو اتبعناهما بدقة وفهم وإيمان، لهرب أكثرنا من مسؤولية الحكم وتبعاتها وأحمالها الثقيلة، بدلاً من الاقتتال عليها، وقتل الناس وتدمير البلدان من أجل الوصول إليها!! ـ  كل ذلك يمكِّّن من اتخاذ إجراءات تؤدي إلى معرفة الحقيقية التي تلك يُحتكم إلى إليها وتمثل قرار الشعب وإرادته، وبذلك نحسم الخصام ونطفئ نار الصراع، على أرضية ديمقراطية وإنسانية وعقلانية تأخذ برأي الأكثرية التي على الأقلية القبول بها والانصياع لها، إلى أمد معقول ومقبول يحدده الدستور وتحميه القوانين من عبث العابثين وتزوير المزورين وشهوة المتسلطين، يتم بعد بلوغه الرجوع إلى الشعب لمعرفة رأيه وتنفيذ إرادته وقراره، بقبول وتسليم، ومن دون تزييف أو تحريف.؟

لا يفيد القذافي أن يربح المعركة ضد المعارضة ويخسر ليبيا، ولا يفيد المعارضين الليبيين أن ينفذ الطامعون بليبيا وثرواتها وموقعها من خلالهم، وأن يسيطر المستعمر على ليبيا لينتصروا على القذافي.. فذلك كله يدفع ثمنه البلد ويتحمل تكاليفه الشعب الليبي، وينعكس سلبياً على ليبيا والأمتين العربية والإسلامية، ولا يستفيد منه إلا الكيان الصهيوني وتجار السلاح والدم والقيم في الغرب الاستعماري. على القذافي أن يتنحنى الآن وليس بعد ساعة، ليجنب شعبه وبلده الكوارث، إذا كان لا يعنيه أن يتهم بالإجرام، وأن تبقى له مكانة المضحي بكبرياء من أجل وطن وشعب وأمة.. وعلى المعارضة الليبية ألا تحتكم للسلاح، وألا تستقوي بالتدخل الأجنبي على الشعب والبلد، وألا ترتهن للغرب.. وعلى الجميع أن يحكموا العقل والمصلحة العليا للوطن، وللأمتين العربية والإسلامية، وأن يتقوا الله فيما قد يجرونه عليهما من ويلات. وعلى القادرين من المسؤولين العرب والأفارقة وغيرهم، أن يتدخلوا بقوة وسرعة وحنكة، لحقن الدماء، ووقف الانهيار، وإبعاد الاستعمار، ووضع الأمور ليبيا العزيزة في نصابها الصحيح.. إذا كان الحوار بين الأطراف المعنية فيها قد توقف وفقد أية جدوى.

والله من وراء القصد

دمشق في 18/3/2011