خبر في أنها أنظمة تتشابه أكثر مما تختلف../ ماجد كيالي

الساعة 10:37 ص|26 فبراير 2011

في أنها أنظمة تتشابه أكثر مما تختلف ماجد كيالي

كنا سمعنا من الرئيس المصري المخلوع بأن الوضع في مصر يختلف عنه في تونس، وبدوره ادّعى القذافي (الأب والابن) أن ليبيا تختلف عن تونس ومصر، وأن القذافي ليس كمبارك وبن علي، حتى أن الرئيس اليمني ذهب إلى أن مايحدث في بلده غريب عن شعبها، وأنه مجرد "عدوى" طارئة، لا أكثر!

 

لكن سلوك الحكام بدا على الضدّ من هذه الادعاءات، في الواقع، فمثلما خرج الرئيس التونسي على شعبه، في أواخر عهده الطويل، بخطاب "الآن فهمتكم"، واعدا إياهم بعهد جديد، من الحرية والعدالة وقطع دابر الفساد، خرج بعده الرئيس المصري حسني مبارك، ثم القذافي الابن (وريث أبيه المفترض)، بذات المعزوفة؛ التي بات يعزف عليها، أيضا، معظم الحاكمين في البلدان العربية.

 

ويمكن الاستدلال على تشابه هذه السلطات بانقطاع أولي الأمر عن شعوبهم، وعن الواقع الدولي المحيط بهم، وميلهم لإخراج بلدانهم من التاريخ العالمي، وخشيتهم من تأثير التطورات السياسية والاجتماعية والعلمية والتكنولوجية الحاصلة في العالم على مجتمعاتهم، بدعوى الحفاظ على الخصوصيات "الوطنية"، والتطور التدريجي، والموروث الديني، وصدّ التدخلات الخارجية!

 

 وتتشابه هذه النظم مع بعضها من جهة تعظيم القائد أو الزعيم، الذي يماهي بين سلطته والوطن، والذي يختصر الشعب في شخصه، والذي تكاد صورته تفيض عن إطارها، فهو أكبر من الشعب، والولي على الوطن، بل هو الوطن مشخّصا. وبديهي فإن هذا التعظيم والتماهي والاختصار يقيم مسافة شاسعة بين القائد وشعبه، فصورته جد كبيرة، إلى الدرجة التي تجعل الحشود الجماهيرية ضئيلة بالقياس لها، والقائد المبهور بذاته ينظر إلى هذه الحشود من عليائه، ومن خلف نظارات قاتمة، نظرة كلها غطرسة وامتهان. لذا لم يكن مستغربا اعتبار القذافي (في خطابه الأخير) لشعب ليبيا، الثائر في وجه طغيانه، بأنهم غرباء، وأنهم مجرد خونة وعملاء ومهلوسين وجرذان ومجانين، كاشفا عمق كراهيته لشعبه؛ وهذا، في الحقيقة، سمة لمجمل الأنظمة السلطوية، التي تستهر بشعبها، وتستخف بإمكانياته؛ ما يفسر ذهولها وقلقها الشديد مما حصل في تونس ومصر.

 

ولعل القذافي هو التجسيد الكاريكاتوري الأكثر فجاجة وضحالة للسلطان العديم المواهب، فهو يعتقد بأنه الثورة والمجد، فلا شعب ولا وطن من دونه، أما مابعده فالحريق والدمار والخراب.

 

وهذا السلطان يعتقد أن التاريخ بدأ من عنده، والحقيقة تنبع من بين يديه، والمستقبل رهن إشارته. بل إنه يعتقد جازما بأنه هبة من الله، وأنه آت من الأسطورة وليس من الواقع، لذلك فهو فوق القانون والبشر والبلد؛ بل هو صانع التاريخ (ألم يدع في هلوساته الأخيرة بأنه يقود آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا؟!).

     

أيضا فإن هذه النظم تتشابه مع بعضها بتضخيمها للبني السلطوية، على حساب المؤسسات الدولتية، وبميلها إلى بعثرة مراكز القوى الأمنية، لتركيز السيطرة عليها، وتوظيفها، وللحؤول دون تولد قوة مركزية مهددة لها.

 

الأخطر، أن هذه النظم التي أضعفت الدولة، أمعنت في إضعاف المجتمع وشرذمته، أيضا، لتشكيله وتنميطه بناء على هواها ومصالحها، وبناء على مقتضيات التحكم والتلاعب والسيطرة، وليس بناء على مقتضيات الاندماجات الوطنية، التي تحوّل الكتل البشرية في إقليم معين إلى شعب، وهو الواقع الذي نجم عنه ترسّخ البني والانتماءات القبلية (المذهبية والطائفية والعشائرية والاثنية) في البلدان العربية. ولعله لم يأت من باب العبث، أو الصدف، تهديد القذافي (الابن والأب) بإثارة الحرب الأهلية القبلية في ليبيا، في حين أن نظامه يستحق المساءلة والمحاسبة على بقاء الواقع القبلي على حاله، رغم مرور أكثر من أربعة عقود على ما يسمى "الثورة" الليبية!

 

ولعل أبرز السمات التي تجمع نظما كهذه ببعضها إنما تتمثل في التزاوج بين السلطة والثروة، أو بين واقعي الاستبداد والفساد فيها، وهو الواقع الذي يسمح بخلق قاعدة اجتماعية واسعة للنظام، ويمنحه بعدا شعبويا. هكذا تكشفت ثروة بن علي وزوجته (وأخواتها) عن مليارات الدولارات (هذا فضلا عن الأموال والحلي النفيسة المكدسة في خزائن القصور)، وهذا ماحصل بالنسبة لثروة مبارك وزوجته ونجليه، والمحاسيب من حولهم، وهذا ما ستكشفه الأيام عن ثروة القذافي وأولاده. والمشكلة أن هذه الثروة المنهوبة، من موارد شعب تونس ومصر وليبيا وعرقه، لا يجري استثمارها داخل البلاد، وإنما يجري استثمارها في البنوك والعقارات والاستثمارات الخارجية؛ ما يعني أن هذه السلطة هي سلطة استبداد وفساد وإفقار في وقت واحد.

 

جانب آخر تتشابه به هذه النظم، ويتمثل في تشبثها في السلطة، ومعاندتها لروح التغيير والتجديد والإصلاح، برغم أن الشيخوخة تدب في جسمها من كل النواحي. هكذا شهدنا في كل التجارب التي عايشناها، في الأسابيع الماضية، بأن الحكام لايتوصلون إلى قناعة بضرورة الإصلاح، أو التغيير والتجديد، بوسائل الحوار، ولا بوسائل المناشدات، وإنما يصلون إليه مضطرين، إما عبر وسائل الضغط والتهديد الخارجية، أو عبر الانفجارات والثورات الداخلية.

 

هكذا، مثلا، لم يقتنع الرئيس المصري المخلوع طوال السنوات الماضية بضرورة تعديل بعض مواد الدستور، ولكنه رضخ لذلك مؤخرا، تحت ضغط الثورة الشعبية، وهذا ماحصل، أيضا، مع الرئيس التونسي المخلوع، أيضا، ومع القذافي، وحتى أن الرئيس اليمني عدل عن الترشح لولاية ثانية، وعن توريث الحكم لابنه، رغم أن كل المؤشرات كانت تدل على أنه مصر على الذهاب في هذين الاتجاهين.

 

أخيرا، تتشابه الأنظمة بالادعاءات التي تروج لها، لصد دعوات الإصلاح والتغيير، متحججة بأن البديل سيقود البلاد نحو الفوضى، أو نحو هيمنة تيار الإسلام السياسي (القذافي الابن تفتقت "عبقريته" عن التخويف بعودة الاستعمار!). وفي الحقيقة فإن هذه الأنظمة تتناسى أنها هي المسؤولة عن واقع الفوضى، لأنها لم تبن مؤسسات دولتية حقيقية، وهي المسؤولة عن تفجر النزعات الطائفية والقبلية لأنها لم تعمل على صياغة الإجماعات الوطنية، ولم تمكن من تطوير الانتماءات الأولية إلى شعب، وهي المسؤولة عن نمو التيارات الدينية المتطرفة، بمحاربتها مسارات التطور والحداثة في بلدانها.

 

  لكن الادعاء الأكثر ابتذالا، وانكشافا، بين ادعاءات الأنظمة، لصد التغيير والتجديد والإصلاح، إنما يتمثل بادعائها رفض الإملاءات والتدخلات الخارجية، وهذا ما لم يخجل حتى نظام مبارك من التشدق به، بالنظر لسجله في الخضوع للإملاءات الأمريكية. ومعلوم أن هكذا نظم مستعدة لأن تحني رأسها لمجمل التدخلات الخارجية في شؤون بلدانها، السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية، ولكنها مستعدة لمقاومة أية تدخلات خارجية فقط إذا كانت تمسّ بقدرتها على التحكم والسيطرة على شعبها، ما يفسر ممانعة هذه الأنظمة لدعوات الإصلاح والتغيير الديمقراطي.

 

وخلاصة الأمر، فإن النظم العربية تختلف عن بعضها في كل شيء، في التوجهات السياسية الخارجية، في الثقافة والاقتصاد، وحتى في السياحة، ومناهج تعليم العلوم الطبيعية والفيزيائية والرياضية، وفي الفن والرياضة، ولكنها جد متفقة، أو متواطئة، فيما بينها، بما يتعلق بشؤونها الأمنية، وبما يتعلق باستقرار أنظمة الحكم، فهنا تتجسد "الوحدة العربية"، بأعلى تجلياتها.

 

الآن، بانكسار صورة القذافي، الذي هيمن على شعب ليبيا طوال أكثر من أربعة عقود من الزمن، متغطيا بادعاءات ديماغوجية ثورجية وقومجية، تنكسر إلى الأبد الصورة النمطية للطاغية في النظم السياسية في هذه المنطقة من العالم