خبر فلنحذر من يلبس لكل حالة لبوسها..علي عقلة عرسان

الساعة 06:32 م|18 فبراير 2011

فلنحذر من يلبس لكل حالة لبوسها..علي عقلة عرسان

 

انتصرت إرادة شعب مصر العظيم وثورته على الظلم والاستبداد والفساد، وعلى من وضعوا مصر في صف أعداء الأمة العربية، وضد قضاياها العادلة، ومقاومتها الباسلة، وتطلعها المبدئي للوقوف بوجه العدوان والاحتلال.. انتصرت ثورة شعب مصر التي حركها الشباب وحماها الجيش، على مبارك ونظامه وأعوانه ومن ساندوه واستثمروا معه وفيه، حتى غدا "كنز إسرائيل" الأكبر، وفق تعبير بعض قادة الصهاينة، وصاحب المليارات الأضخم، والحليف العربي الأول للولايات المتحدة الأميركية، وسند الكيان الصهيوني في عدوانه واستيطانه وتهويده للمقدسات الإسلامية والمسيحية، وممارساته العنصرية الوحشية ضد الشعب الفلسطيني وشرفائه، وضد المقاومة اللبنانية ونهجها التحرري ـ التحريري.. و شريكه في حصار غزة وشعبها، وتصفية المقاومة الفلسطينية ورموزها، وصنع شرق أوسط جديد يكون فيه الكيان الصهيوني مهيمناً، والأميركي سيداً.. انتهى حسني مبارك ونظامه، وتحولت بعض رموز ذلك النظام وعناصره الفاعلة من قوة قمع وقهر وابتزاز.. إلى عناصر تحت الإقامة الجبرية أو في السجن قيد التوقيف إلى حين الانتهاء من التحقيق في تهم الفساد والإفساد والقتل والفوضى التي ألحقت الدمار بممتلكات خاصة وعامة.. انتهى نظام مبارك، واستعاد الشعب المصري روحه ووعيه وإرادته، وتنفس هواء عليلاً مشبعاً بنسيم الحرية ونشوة الانتصار وعبق التاريخ.. بعد أن دفع ثمنين باهظين في ظل النظام المنتهي: ثمن الخضوع لبطش ذلك النظام لسنوات وسنوات كلها عجاف، وثمن الحرية والتخلص منه دماً ومعاناة، في أيام معدودات.. واستقر الآن على عتبة الأمل والحلم بأمن من جوع وخوف.

من المؤكد أن الشعب المصري الذي غيَّر، ودفع ثمن التغيير دماً ودماراً ومعاناة مرة، سوف يتحمل تكاليف ذلك كله.. وتكاليف الانتقال من البطالة والفقر وتدني الأجور إلى إيجاد فرص وسد الحاجات الضرورية للناس وزيادة دخل الفرد، وترسيخ الأمن والأمان وقدرة الوطن والمواطن، من خلال إعادة النظر بالكثير مما استقر كقوانين وسياسات وخيارات استراتيجية في العهد الذي سقط، وقد يقتنع بحقيقة أنه قوي بأمته في كل شيء، وأن أمته تقوى به في كل ميدان.. وليس له، وليس لها.. خيارات بديلة عن وحدة المسار والمصير، فحسن الخيارات يؤسس لتكامل المسارات. وهو شعب حاذق وقادر على العمل والإنجاز والإبداع، وسيصل بمصر إلى وضع الاستقرار والكفاية وما يقرب من الرخاء، بمرور الوقت، ومع بعض الصبر الذي لا بد منه، والمرونة التي لا تنقصه.. ذلك لأنه ورث تركة مرهِقة تمتد من ضفة المديونية والعجز ونتائج النهب والفساد إلى ضفة البطالة والإحباط وكساد الإرادة العامة، في عهد أفسد على النفوس رؤاها وإرادتها وثقتها وقراءتها لواقعها وما يحيط بها وينتظرها.. ولا يُخاف على مصر العظيمة من ألا تتجاوز الامتحان وما يمكن أن يراه البعض محنة.. فهي بتاريخها وتجربتها الغنية وشعبها وطاقات أبنائها وخبرتها الطويلة.. قادرة على الخروج من كل ذلك منتصرة.. ولكن الخوف يكمن في ألا ينتهي التدخل الأميركي، بل أن يتحول اعتماده من رموز وأدوات وأساليب إلى رموز وأدوات وأساليب أخرى.. لأن الأميركي وحليفه الصهيوني، طوال ثلاثين سنة ونيِّف، لم يتوقفا عن تهيئة عناصر يعززان مكانتها ودورها، ولا عن تكوين أعوان في الصفوف الأول والثاني والثالث..إلخ يهيئانهما لاستلام دفة الحكم والسيطرة على مقاليد البلاد وتسير الأمور أو التأثير في تسيرها لتكون مصر تحت السيطرة.. وقد تعب الأميركيون على تكوين من يسمونهم " قادة المستقبل" ليس في مصر وحدها بل في الوطن العربي كله، ليكونوا رصيده المستقبلي، والبدائل التي يقدمها في حال انتهى دور ومفعول رموز وأدوات كان يستخدمها، وسقطت أوراق يلعب بها.. وهو يحرص الحرص كله على زرع الأشخاص وعلى ألا تكشف أوراقهم أمام الشعب.

لقد أدركت الولايات المتحدة الأميركية أن الخيول القديمة لم تعد صالحة لدخول ميادين سباق تغيرت رهاناتها وشروطها وأمزجة المتفرجين فيها، وأخذت يزخر بالمتغيرات والمعطيات الجديدة والتطلعات الفريدة، ولذلك راجعت نهجها وغيرت سياستها، وتحولت من احتواء الأنظمة وتوظيف الحكام المستبدين والفاسدين.. إلى احتواء حركات وتنظيمات وشخصيات كانت لا تأبه بها، لتتعامل معها وتخرب ما لا يعجبها فيها من الداخل، وأخذت تعتمد على قوى واعدة وتعمل على احتوائها، وبدأت تدفع بمن سمتهم " قادة المستقبل" الذين استقطبتهم ودربتهم ورعتهم ونمتهم وسوقتهم وهيأتهم لأي يوم تشهد فيه البلدان متغيرات تستدعي تغيير قواعد اللعبة واللاعبين.. ليس في مصر وحدها بل في كل بلدان الوطن العربي الذي تضعه في موقع مهم من خياراتها واستراتيجياتها، رعاية منها لمصالحها الاستراتيجية الكبرى، وفي المقدمة من تلك المصالح، أو على رأسها، تقع " إسرائيل" وأمنها وازدهارها، وتفوقها على العرب مجتمعين، وهيمنتها التامة على المنطقة، لحساب الحلف المدنس الذي يجمعهما.. فهي المصلحة الأولى لها في المنطقة.

انتصرت ثورتان تاريخيتان لشعب مصري العظيم في الستين سنة الماضية، أولاهما ثورة الجيش المصري التي حماها الشعب بالتفافه حولها، ثورة تموز/ يوليو عام 1952، والثانية ثورة الشعب المصري التي حماها الجيش، ثورة 25 كانون الثاني/ يناير 2011، الأولى كانت ذات أبعاد سياسية بالدرجة الأولى فضلاً عن الأبعاد الاجتماعية، وأسست للجمهورية،  والثانية قامت ضد أوضاع اجتماعية وممارسات سياسية داخلية، ولها بعد سياسي خارجي وأسست للديمقراطية ونهاية حكم الفرد.. وقد أشرقت شمس الثورة المصر الثانية اليوم في فضاء الوادي من أسوان إلى الإسكندرية، فأحرقت الكثير من العفن، وغمرت الأنفس بالضياء، وبعثت في الأرواح العربية حياة وأملاً وثقة ونشوة، وكانت الشرارة التونسية قد أشعلت نيران تلك الثورة التي كانت إرهاصاتها ملء السمع والبصر، لمن كان يقرأ المشهد السياسي قراءة واعية، وستقرئ الأحداث والاحتجاجات والشكاوى والمعاناة، وما يعتمل القرى والمدن والشوارع والحارات، وفي الأنفس والعقول والقلوب، مصرياً وعربياً، لا سيما بعد حدثين كبيرين:

ـ العدوان الإسرائيلي على لبنان، الذي هدف إلى اجتثاث مقاومته الشريفة، وإنشاء " شرق أوسط جديد" كما قالت كونداليزا رايس، بعد أن فشل مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي تأجج بالعدوان عل العراق واحتلاله، وذلك بشن حرب تموز ـ آب 2006 التي أريد لنارها أن تستمر لتحرق، ولكن تلك النار أحرقت المعتدين وكشفت المتواطئين، وانتصرت فيها المقاومة اللبنانية..

ـ والحرب العدوانية الإسرائيلية على غزة التي استهدفت اجتثاث حركة حماس، ومقاومة الشعب الفلسطيني.. تلك الحرب القذرة التي أعلنتها "ستيبي ليفني" من القاهرة، بعد زيارتها للرئيس حسني مبارك، وأعقبها الحصار المستمر الذي ضربه الكيان الصهيوني على غزة وما زال مستمراً بوجهيه الإسرائيلي والعربي، وهو الحصار الذي في إطاره توعد وزير خارجية نظام مبارك في حينه، من يخرج من بوابة رفح باتجاه مصر بكسر رجليه كما عبر الوزير الخطير في ذلك الوقت العصيب.

لقد انتصرت مصر، وشفت أنفس أبنائها وقلوبهم، وأنفسنا وقلوبنا، نحن العرب جميعاً، مما تجد ونجد، فلها ولشعبها وشبابها التهنئة، ولشهداء ثورتها المجد والخلود.. وللأمة العربية كلها الغد والأمل والنصر، بعون الله.

لم يقف مد ثورة مصر عند حدود جغرافيتها السياسية، مثلما لم تقف ثورة الشعب التونسي عند حدود جغرافية تونس السياسية، بل امتدت شرارة الثورة إلى أقطار عربية أخرى، وهي تخمد هنا قليلاً لتشتعل هناك كثيراً.. وها هي اليوم تشعل ناراً في أربعة أقطار عربية في وقت واحد: اليمن، وليبيا، والبحرين، والعراق.. والحبل على الجرار، فيما يبدو. قد يقول قائل إن الأوضاع تختلف والأسباب تختلف، والمواجهات تختلف.. من قطر عربي إلى آخر، ومن تحرك إلى آخر.. وهذا صحيح، ولكن الهيكل العام لتطور الحدث أو " لسيناريو" الأحداث واحد، توجه في مظاهرة سلمية، والتمركز في " ميدان" أو ساحة رئيسة من ساحات العاصمة، والثبات هناك واستقطاب الشعب والإعلام والاهتمام، وإشعال فتيل الثورة في ساحات ومدن وقرى.. والمناداة بمطالب شعبية تتصل بالعمل والخبز والعدل، تتطور مرحلة بعد مرحلة لتبلغ حد المطالبة بتغيير النظام وإسقاط الحاكم ورموز الحكم، ومحاكمة المستبد ومن يشاركونه الظلم والقمع والفساد.. إلخ، وفتح سقف المطالب حيث يشمل كل ما هو أفضل للناس والأمة.. وحرص من قيادات التظاهرات على متابعة المطالب الشعبية حتى لا يتم إجهاض الثورة وأهدافها.

ويبدو أن الرياح التي تدير رحى الأنفس الثائرة وتحركها في مجتمعنا العربي اليوم، واحدة في منابتها ودوافعها وغاياتها البعيدة، فهي عربية بأهدافها ومضمونها وأجوائها وتفاعلاتها وانتشاءاتها، وعربية أيضاً في تفاصيل الدوافع والشكوى والمظالم والمعاناة، وفي أساليب التصدي لقوى الأمن وإرادة الحكام، والتدخل الخارجي.. ولكل منها بعد سياسي يتصل بكون هذا النظام أو ذاك، هذا الحاكم أو ذاك، يقع تحت تأثير قوة خارجية كانت توظفه وتحميه وتقيمه فوق إرادة شعبه بالقوة والقمع، وفي لحظات الأزمة يستشعر، من تطور الأحداث الثورية، خذلانها له وتخليها عنه، ورغبتها في استبداله بمن هو قادر على الركض في المسارات السياسية والاجتماعية الجديدة، ومن هو أكثر لياقة بخدمتها في التجليات المحدَّثة لمصالحها المستمرة.. وقد يتحسر ويتألم ويندم.. ولكن ولات حين مندم.

والسؤال الملح الآن هو: هل تنجح ثوراتنا في المحافظة على أهدافها ونقائها ووعيها وحضاريتها، فتخفف من تكاليف الثورة على الشعب والوطن، وتسقط الأنظمة الفاسدة، والحكام الطغاة، وتحدث التغيير المنشود بأقل الخسائر، وتحافظ على مناخ يمكن أفراد الشعب وفئاته جميعاً، من التمتع بحريات وحقوق وفرص عمل وأمل، وبحياة سياسية واجتماعية واقتصادية سليمة ونظيفة.. وتؤسس لحكم عادل تحميه شرائع وتشريعات ومؤسسات قوية، وتواكبه عقول وإرادات وطنية وقومية واعية وصادقة الانتماء للأرض والشعب والتاريخ والعقيدة والهوية والقيم، لم تتلوث ولديها من التكوين الخلقي والوعي المعرفي ما يحميها شر التلوث؟ وهل تقارب الثورات بين أبناء الأمة العربية وأقطارها وسياسات أنظمتها ومصالحها، وتجعلهم يجددون العهد بالولاء للأمة وقضاياها، ويعلون مصلحتها فوق المصالح الضيقة، أياً كانت تلك المصالح، وأياً كانت مسوغاتها.. وذلك في ضوء المشترك الذي يقيمهم ويجمعهم ويحميهم ويرفع شأنهم بين الأمم، ويدفعهم إلى التضحية والنهضة والتكامل في كل مجالات الحياة؟.. وهل يتجنب ثوارنا ويجنبون وطننا فخ الوقوع في براثن تجار المواقف والمبادئ والسياسة، ممن يغيرون جلودهم كل يوم، ويلبسون لكل حالة لبوسها، ويركبون كل موجة، ويبيعون ويشترون في كل سوق؟  وهل يتجنبون باختياراته ووعيهم، شر الوقوع في فخ القوى والدول التي تغير "أزلامها" وأدواتها وأساليب تواصلها وتعاملها، لتبقى مسيطرة ومهيمنة على السياسات والقرارات والمصالح والخيارات والتوجهات العربية والإسلامية، ومن ثم لا تحافظ سوى على مصالحها ومصالح حلفائها والمرتبطين بها، ومن تضعهم فوق القوانين والناس، بل فوق الأوطان والأمم.؟

إن ذلك يحتاج إلى مراعاة سلم القيم، والخلق الرفيع، والوجدان الحي، والعقل الراجح، والانتماء الوطني والقومي الصادق، وإلى معرفة تاريخ الأشخاص والتنظيمات والأحزاب والحركات التي تندفع إلى الميادين الجديدة بصراخ الحريصين على الصالح العام والمد والنقاء الثوريين.. و.. و.. وهي لا تحرص على شيء من ذلك.. وقد يكون من بين أولئك الكثير ممن يلبسون لكل حالة لبوسها، ويتقنون المروق إلى مواقع صنع القرار، وتكوينهم العقائدي لا يمت لتكوين الأمة الأصيل بصلة، وتاريخهم يغص بما لا يبيض صفحاتهم وتوجهاتهم وممارساتهم.. كما يحتاج الأمر إلى الاستفادة من خبرة ذوي الخبرة من المجربين الأتقياء الأنقياء، ومن الكفاءات المشهود لها ممن هم أهل للشهادة، وليس من المروجين لوصول واجهات إلى سدة الحكم ومواقع المسؤولية يدفعونها ويقفون من ورائها، بعلمها، ليفعلوا بعد ذلك ما يريدون، ويحرفون الثورات عن أهدافها، ويكثرون من الصراخ والضجيج والعجيج، والتزوير والتشهير، وحين ينكشف بعض أمرهم يغيرون جلودهم ليلبسوا ثوب الثوار، ويصنِّعوا مناخ ثورة جديدة توصلهم من جديد إلى الإمساك برقاب الناس ومصائر الأوطان.. إلى أمد جديد.

فلنحذر.. ولنحذر.. ولنحذر.. فالتاريخ يعج بشخصيات وأحزاب وفئات وتوجهات، تكتب عهودها الخاصة المشبوهة بدم شهداء الثورات ودموع أبناء الشعوب، ويكون كل ذلك على حساب الأوطان والأمم، والحقائق والقيم.

والله ولي التوفيق.