خبر د.علي عقلة عرسان يكتب : كم يكلف الرئيس العربي شعبه..

الساعة 12:01 م|11 فبراير 2011

د.علي عقلة عرسان يكتب : كم يكلف الرئيس العربي شعبه..

 

أتساءل بمرارة، وأنا أتابع ما يجري في مصر العزيزة: كم يكلف رئيس/ حاكم عربي شعبه وبلده حين يختاره الشعب، أو حين يقرر عزله.. وأستثني من هذه التكلفة المليارات التي يحصل عليها هو وأفراد أسرته بطرق غير مشروعة، وما يمارسه المقربون منه ومنهم من فساد سلب ونهب، وما تحصل عليه حاشيته والموالون له من مكاسب وامتيازات وثروات، على حساب البلد والناس.. وما يلحقه بالاقتصاد والناس من كوارث؟!

إذا قلنا إنه يكلف البلاد والعباد فوق ما يطيقون وما لا يمكن تخيله، مادياً ومعنوياً، نكون مبالغين في التهاون ولتقدير، وبعيدين عن الحقيقة، وربما خارج حدود الواقع.. لأننا حينذاك نستبعد تبديد جهود الشعب وكرامته وحقوقه وحرياته وقدرته على الإبداع، ونغض الطرف عن الاستهانة بإرادته، وهو مصدر السلطات، ولا نعطي قيمة فعلية لما يلحق بالمواطنين من ظلم ومعاناة وبؤس روحي ويأس وإذلال، وما يلحق بالحالة العامة للروح الوطنية ومؤسسات الدولة ودور تلك المؤسسات من عطب وخلل وتهافت في الأداء.

ويزيدني درجات في المرارة أن يكون اعتماد كثير من الرؤساء العرب على التدخل الخارجي مدخلاً لبقائهم في الحكم وتسلطهم على الشعب، ونهبهم لثرواته، وأن يستندوا إلى تحالفهم الخارجي مع أعداء وطنهم وشعبهم وأمتهم، ومع من لا تهمهم سوى مكاسبهم ومناصبهم ومصالحهم الخاصة في الداخل، ليبقوا هم في الحكم، حتى لو ضحوا بالشعب والأمة والقيم، وقدموا البلاد هدية ومطية للأعداء والمنتفعين والانتهازيين، مستهينين، بل ناكثين، بالقسم الذي أقسموه لدى تسلمهم السلطة، أو مفسرين بقاءهم على أنه البر بالقسم، وتحقيق مصلحة البلاد العليا.. لأن الإخلاص للوطن والشعب، ورعاية المصالح العامة، بنظرهم، يتلخص ببقائهم في الحكم، ومنحهم عصمة بلا ضفاف تبقيهم فوق المساءلة والمجادلة والرأي الآخر، وإحاطتهم بهالة قداسة فوق نبوية.   

لقد بدا لكل ذي بصر وبصيرة، بعد ثمانية عشر يوماً من الثورة الشعبية العارمة في مصر كلها، وسقوط مئات الشهداء، وآلاف الجرحى، واستمرار معاناة ملايين الأسر من الخوف والجوع والقلق، وتكبد البلاد خسائر فادحة ملية ومعنوية.. لقد بدا بوضوح كم يستهين الرئيس المصري حسني مبارك بإرادة شعبه، ومصالح بلده وصورتها في الخارج، وبدماء شباب مصر التي أريقت على طريق المطالبة بالتغيير والحرية والديمقراطية والقضاء على الفساد والاستبداد.. فهو لم يحترم، ولا يبدو أنه يريد أن يحترم، إرادة شعبه، وأن يعامل كل تلك الملايين من المحتجين الذين يرفضون وجوده رئيساً لمصر، معامل الوصي المتجبر للقاصر الصغير.. فهل هو معزول عن الشعب والوقائع، محاصر بالوهم، يقدَّم إليه من المعلومات والتقارير ما يرضيه ويشبع غروره، ويزيده مكابرة وعناداً، ويؤمن مصالحه ومصالح أسرته وحاشيته، ويعطل حواسه وسرعة استجابته للأحداث وتقديره للوقائع والمعطيات، أم أنه وأن من حوله يسيئون التقدير ويخطئون الحسابات ويستهينون بالشعب، أم مغرر به إلى الدرجة التي يستهين معها بملايين المصريين ومصالح مصر وأمنها واستقرارها.. أم تراه دخل في معادلة التحدي التي يبدو أنها برزت بين قوى خارجية أخذت تتدخل في الشؤون الداخلية لمصر، فعوَّمته في زمن دقيق صعب، وجعلته يتمادى في عناده، وشجعته وبعض أعوانه على الأخذ بما وصفه في خطابه الأخير "رفضاً للتدخل الخارجي في شؤون مصر، حفاظاً على سيادتها واستقلالها وكرامتها".؟! 

من الواضح الآن أن الولايات المتحدة الأميركية ومن خلفها إسرائيل، قررتا التخلي عن مبارك " كنز الدولة العبرية كما صرح بذلك أكثر من مسؤول إسرائيلي"، لأنه استنفد دوره، وسقطت آخر أوراقه، وتقدمت به السن، وفشل في مشروع التوريث، ولم يعد هو ونجله يشكلان مصلحة أولى لها ولحليفتها إسرائيل، وأنها اكتشفت وجود قوى ومتغيرات في أكثر من ساحة عربية، بعد ثورة الشعب التونسي المباركة التي شكلت شرارة جماهيرية عربية، أهمها الساحة المصرية، وأن ذلك يستدعي منها إعادة حساباتها، ومراجعة سياساتها واستراتيجياتها لاحتواء قوى وتنظيمات مؤثرة في الأحداث، تتقدم نحو المستقبل بثقة وقوة وترسم صورته باقتدار.. فبدأت تطالب الحكام العرب بالتغيير والديمقراطية، وتداول السلطة، وتطالبه الرئيس المصري تحديداً بنقل السلطة سلمياً وبسرعة، وعدم الاكتفاء بإصلاحات وتسليم صلاحياته لنائبه عمر سليمان. ولذا غيرت نهجها، ودفعت إلى المشهد السياسي ـ الشعبي وراء شخصيات موالية لها، كما كان مبارك موالياً لها، من بينهم نائب الرئيس.. وأن الولايات المتحدة الأميركية تريد أن يصل إلى السلطة من يضمن لها بقاء رئيس مصر " كنزاً لإسرائيل"، وحليفاً مطواعاً لها، وعامل تأثير كبير في المنطقة وفي السياسة العربية يؤيد سياساتها، وأن يضمن لها تنفيذ استراتيجياتها ونفوذها وحماية مصالحها.

وبالمقابل دخلت روسيا الاتحادية على الخط، في تحرك مضاد للتحرك الأميركي، فأبلغت مبارك بأنها ترفض التدخل الخارجي، " أي الأميركي"، في شؤون مصر الداخلية. وهو ما انعكس بلهجة حادة في خطاب مبارك المخيب لآمال الشعب المصري ليل الخميس 10 شباط/فبراير 2011 الذي كان يتوقع منه أن يعلن فيه عن تنحيه عن السلطة ويرحل، وقد بدا في مقطع من ذلك الخطاب، بلهجة حادة واستثمار لنزوع وطني في مزاوِدة مكشوفة، ما يُعتبَر رداً على خطاب الرئيس أوباما ومطالبته لمبارك بتغيير أشمل وأعمق وأسرع، وعدم الاكتفاء بتسليم الصلاحيات لنائب الرئيس، ذلك لأن الموفد الرئاسي الروسي الكسندر سلطانوف نقل إلى الرئيس مبارك وإلى نائبه ووزير خارجيته رسالة واضحة من القيادة الروسية مفادها: "أن مصر دولة رئيسية في سياسات الشرق الأوسط، وأن كل ما يحدث في مصر يؤثر على المنطقة بأسرها»، وأنها « حليف استراتيجي لروسيا.. وستخرج من الأزمة بسلام من خلال خطوات على رأسها الحوار."، وأن «موسكو تقف ضد أي تدخل أجنبي في التطورات الجارية في مصر»، وأن «أي تأثير من الخارج على الأحداث الداخلية يعتبر أسلوبا غير مجد من شأنه أن يضلل المشاركين فيها.".. مع إشارة إلى احترام إرادة الشعب المصري.

وفي تقديري أن هذا ما جعل مبارك يزداد عناداً ومكابرة وتشبثاً بكرسيه، متذرعاً بعدم خضوعه وإخضاع مصر لإرادة خارجية، ورفض التدخل في شؤونها الداخلية، من أية جهة جاء ذلك التدخل. وكأنه لم يكن طوال ثلاثين عاماً تحت تأثير التدخل الخارجي، وأداة للتدخل "الأميركي ـ الإسرائيلي" في المنطقة، على حساب مصالح مصر، وانتمائها العربي، ومواقفها القومية التاريخية المشرفة، وعلى حساب وجدان الشعب المصري ودوره العربي.؟

من المؤكد أن لعبة الدول الكبرى التي لم تحسم بعد لمصلحة طرف من الأطراف، وأنها جعلته يستثمرها لنفسه مؤقتاً، ويرى فيها مدخلاً لبقائه الشكلي وبقاء مناصريه في الحكم، بذرائع وطنية، والتحكم بمصر وشعبها لمدة أطول، بعد ثلاثين سنة من الحكم، والمساهمة في رسم مستقبلها القريب، والبحث عن مخارج تبقي السلطة بيد مقربين منه ومن أسرته، بعد أن عجز عن جعلها وراثة في أسرته.

من المؤكد أن الرئيس حسني مبارك انتهى، وأنه إن بقي في الحكم حتى السابع من أيلول/ سبتمبر القادم سيبقى رئيساً صورياً، ولن ينفعه ركوب موجة تنافس الدول الكبرى على مصر، وسعي أنظمة عربية لإبقاء أحجار " لعبة الدومينو" العربية في أمكنتها حتى تلتقط الأنفاس وتمل على تثبيت دعائمها. ومن شبه المؤكد أنه سلم الأمور لمن ترضى عنه إدارة أوباما وحليفتها، ومن المؤكد أيضاً أن الشعب المصري العظيم الذي صنع الثورة المجيدة في ميدان التحرير، أو ميدان الحرية، أو ميدان الشهداء، يعي لعبة الأمم وأنظمة بأكثر مما وعاها حكام ومسؤولون سابقون في مصر، وأنه على الرغم مما حققه من مكاسب كبيرة، وانتصارات هائلة، هي في رصيد الشعب المصري وحريته وانطلاقته الجديدة وطاقته الخلاقة، سيرفض أن يسلم البلد إلى أدوات وموالين وتابعين لهذه القوة الدولية أو تلك.. وإنه سيعمل على تحقيق ذلك ما استطاع إليه سبيلا، وأن حضوره ونضاله ومواقفه واستعداده للتضحية من أجل الوصول إلى ما يتطلع إليه أمر لا يمكن تجاوزه.. ولكن.. ولكن.. بعد البيان الأخير، البيان الثاني للمجلس الأعلى للجيش والقوت المسلحة المصرية، الذي قدم للشعب الثائر ضمانات بتنفيذ ما وعد الرئيس مبارك وحكومته الأخيرة بتنفيذه، وناصر ثورة الشعب وطمأنهم، وأعلن عن وضع جديد يحفظ فيه الأمن ويعود الناس إلى أعمالهم، وبقاء الرئيس مبارك رئيساً بصورة ضمنية، وإقرار نقل صلاحياته إلى نائبه في الوقت ذاته.. وكل ذلك جعل المكاسب التي حققتها الثورة بأمان وبضمانة الجيش، وجعل تحقيق الأفق والمطالب الأعلى للثورة الشعبية مهمة صعبة الآن، وأسس لاستمرار الحلم والعمل على تحقيقه، ولجولات ثورية شعبية دائمة أو قادمة، قريبة أو بعيدة، حتى يصل الشعب المصري إلى أفق الحرية والاستقلال اللذين ينشدهما.

إن الجيش المصري يتصرف بحكمة وحنكة، وهو ضمانة للجميع، ودرع الوطن والمواطنين، وسوف يحول دون وقوع فوضى أو مواجهات دموية متوقعة، إذا ما تصدى الحرس الرئاسي للمتظاهرين الذين قد يزحفون إلى القصر الجمهوري " قصر العروبة" لإجبار الرئيس على التنحي، القصر الذي لم يعد الرئيس مبارك فيه كما تناقلت الأخبار، فهو في شرم الشيخ التي يستسيغ جوها أكثر من جو القاهرة. وبمناسبة الإشارات التي انطلقت تلوح بإمكانية حدوث مواجهة محتملة بين الحرس الرئاسي الموالي للرئيس بشدة وقوة، وبين الشعب المصري الذي يرفض بقاءه في الحكم، نتساءل عن جدوى وجود حرس رئاسي بهذا الحجم، ليس في مصر وحدها بل في الكثير من دولنا العربية، وهو كما يعرف من توصيفه قوة " دفاع وهجوم" عالية لقدرة القتالية والتجهيز.. فلمن يُدخر هذا الكم من القوة المسلحة يا ترى.؟ إنه يكرس لحماية الرئيس المنتخب من الشعب إذا ما ثار عليه الشعب وأراد تغييره، وفي هذه الحالة يصبح قوة تفرض إبقاء الرئيس بالقوة، عنوة عن الشعب الذي اختاره.. أفلا تكمن في ذلك مفارقة كبيرة، بين قوة تحمي من اختاره الشعب وقدمه وحماه من الشعب ذاته، حين يقرر تغييره وسحب ثقته وممارسة حقه في القرار وتنفيذ إرادته سلمياً، وهو صاحب القرار والسلطة العليا التي تنبع منها كل السلطات.؟!       

إن من العقلاني والعادل والمنطقي تحويل الحرس الرئاسي إلى كتلة قليلة العدد، محدودة الصلاحيات، خفيفة السلاح، أقرب إلى الحرس البروتوكولي منها إلى الجيش المقاتل وعدم تجهيزه كقوة هجوم ودفاع مدججة بأحدث الأسلحة، قابلة للتصدي للشعب، وقادرة حتى على التصدي للجيش في بعض الظروف.. ذلك لأنه ليس من مصلحة الوطن أن نقيم فيه قوى قابلة للتصادم والاقتتال وإراقة دماء أبنائه، عسكريين أو مدنيين، بل من مصلحته توطيد الديمقراطية وسلطة الشعب ودور المؤسسات. إن من مهام الحرس الرئاسي أن يحمي شخص الرئيس لا أن يفرضه على الشعب والجيش، ويضعه فوق إرادة الشعب بالقوة المسلحة، في نظام ديمقراطي يُحتكَم فيه إلى مؤسسات الدولة وإرادة الشعب، مصدر السلطات.

فهل إلى إعادة النظر بمثل هذا الأمر من سبيل، تحاشياً للصدامات، وضغطاً للنفقات أو توجيهاً لها لتكون في خدمة القوة التي تحمي الوطن والشعب، وتدافع عن الدولة والشرعية والمؤسسات.؟!.

دمشق في 11/2/2011