خبر كتب عزمي بشارة : الثورة المصرية الكبرى: آفاق ومخاطر

الساعة 10:57 ص|06 فبراير 2011

كتب عزمي بشارة : الثورة المصرية الكبرى: آفاق ومخاطر

 

بعد عقود من تراكم الشعور الشعبي بالقهر، انتفض الشعب المصري أخيرا ضد النظام الحاكم. لقد ربطت غالبية الشعب ما تتعرض له بطبيعة النظام الحاكم. وأصبح النظام عنوان المرارة من الظلم في أقسام الشرطة ومن الفساد في المعاملات الرسمية ومن الشعور بالفاقة في ظل الإثراء بواسطة الفساد والتقرب من ذوي السلطة.

 

لقد رُبط كل هذا أخيراً بنظام الحكم السائد، تجلى ذلك بالنقمة والنكتة الشعبية على حد سواء، كما تجلى في السخرية والقصائد والأغاني، وفي الاكتئاب وعدم الارتياح الشامل الذي لاحظه كل من زار مصر في السنوات الأخيرة. وبلغ الأمر حد أزمة الهوية، إذ مس النظام بالكبرياء المصري وفهم المصريين لذاتهم ولدورهم. وكان على النظام أن يؤجج وطنية مصرية على شكل عصبية فارغة مجوفة غير مستندة إلى المصلحة الوطنية ولا إلى افتخار الناس بإنجازات اقتصادية أو علمية أو سياسية، عصبية جوفاء غاضبة يسهل التحكم بها لتتحول إلى غضب ضد الآخر، أو إلى مجرد ولاء للنظام، أو تعصب ضد منتقدي الرئيس كأنهم ينتقدون البلد. واستغلت حتى لعبة كرة قدم لهذا الغرض.

 

ومثل بقية الأنظمة العربية نشر هذا النظام المرتكز إلى الاستبدال من الكفاءة مراءاة ذوي السلطة والنفوذ حتى في ميادين الثقافة، والمهنية بالقرابة والقربى، والإنتاج بالاستهلاك، كما نشر أخلاقيات الكذب والرياء في التعامل مع الدولة والنفاق في التعامل بين المرؤوسين ورؤسائهم والفظاظة في التعامل مع النقد، كما نشر عنفا شارعيا على مستوى التعاملات بين البشر يتحول بسهولة إلى طائفية وغيرها، كمسارب لتفريغ نقمة ومرارة الناس من نظام سياسي اجتماعي مجحف شحَن النفوسَ وحقنها بالعنفِ.

 

 

ربما كانت ثورة تونس المجيدة هي السبابة التي ضغطت على الزناد، وربما بلغ السيل الزبى على أية حال. وكان الزناد هو الشباب المصري الواعي والمثقف الذي يمثل نقيض الثقافة التي نشرها النظام. إنه الشباب المتواضع والمهذب والمنفتح على العالم والرافض للفساد وعدم الكفاءة، والنافر من الظلم والبلطجة السياسية والتهريج الإعلامي. دعي هذا الشباب للانتفاض بعد "بروفات" عديدة قبل ثورة تونس أهمها إضراب 6 أبريل/نيسان الذي دعي إليه في المدونات والمحاولات المستمرة لنقل معاناة المواطنين عبر الإنترنت من الكاميرات التي يحملها الشباب على هواتفهم، و"حركة كفاية" التي كسرت حاجز الخوف واستمرت بالتظاهر فترة طويلة في مرحلة الركود، والاعتصامات المستمرة أمام نقابة الصحفيين، وتجاوز بعض الصحفيين المصريين حاجز الخوف في توجيه نقدهم لما كان يعد محرما على النقد مثل الرئيس وعائلته.

 

وكانت النفوس محتقنة جاهزة لاستقبال النداء، وكانت العقول مقتنعة تنتظر الفعل والممارسة. فوقعت دعوة الشباب يوم 25 يناير/كانون الثاني وقوع صاعقة في السهوب بعد صيف طويل. لم يكن واضحا حين خرجت الجموع هل يوم الغضب هو يوم احتجاج أم ثورة سياسية جامعة. جاء هذا اليوم بعد أسابيع معدودة من ثورة سياسية شاملة في تونس قامت في ظروف شبيهة، أي من تولدت عن حركة احتجاج غير مخططة. فتولد فورا الوعي بأن المصريين يتظاهرون ليس ضد خطوة محددة قام بها النظام ولا للتعبير عن تضامن مع ضحية بعينها، بل ضد النظام بشكل عام.

 

لكن الثورة المصرية اختصرت الطريق من العيني إلى العام، إذ بدأت بالشأن العام مباشرة. لقد انطلق أهالي ناحية سيدي بوزيد في تونس احتجاجا على ما يتعرضون له من بطالة ومهانة بعد أن أشعل شاب نفسه احتجاجا، ثم انتشر الاحتجاج بالتدريج وتحول عبر تفاعله مع ظروف الناس ووعيهم بظروفهم إلى ثورة شاملة سعت الى تغيير نظام الحكم. ونستطيع الجزم بأن هذا لم يكن هدف المواطنين الأصلي في ناحية سيدي بوزيد. ولكن وضع الناس، بما فيه وعيهم، كان مهيأ لذلك. أما في مصر فقد كان يوم الغضب عاما منذ اللحظة الأولى، لم يكن مطلبيا موجها لرفع الأجور أو احتجاجا على رفع الأسعار بل كان عاما ضد كل ما يعانيه الشعب المصري في العقود الأخيرة، ويعد النظام سبباً له.

 

أما في العنوان فقد رُبط هذا الأمر بالرئيس وعائلة الرئيس كما يحصل في أي نظام استبدادي، فرمز النظام الديكتاتوري هو الحاكم. وكانت مسألة التوريث رمزا لسلوك النظام بأنه يملك البلد ولا يحكمها فحسب. وشكلت موضوع التندر والنقمة في أحاديث الشارع المصري في الأعوام الأخيرة، كما استحوذ موضوع توريث المنصب من الرئيس لابنه على أحاديث هذا الشارع. لا غرابة إذاً أن يتركز الاحتجاج بشعار إسقاط الرئيس ومنع التوريث.

 

هذا لا يعني طبعاً أن هدف الشعب المصري هو الإتيان بديكتاتور جديد أو الاستبدال من الرئيس رئيسا مخابراتيا ليعيش الشعب ثلاثين عاماً أخرى في ظل نفس نظام الحكم. يحتاج المرء الى خيال من نوع خاص لكي يتخيل أن عنوان رحيل الرئيس يعني الاكتفاء برحيله شخصيا. وكل من حاول أو يحاول أن يلخص مطلب المتظاهرين بذهاب الرئيس إنما يسعى إلى احتواء الثورة أو إجهاضها والالتفاف عليها بإبقاء نظام الحكم كما هو. وفعلاً لو كان الهدف التخلص من الرئيس المريض والمتقدم في السن لكان بالإمكان انتظار وفاته، أو انتظار  انتهاء مرحلته بعد ستة أشهر مادام تعهد بعدم الترشح مرة أخرى. وكما قال رئيس الحكومة المعين الجديد على محطة الـ"بي. بي. سي -BBC" العربية يوم 3 فبراير/شباط إن عدم الترشح في هذه الحالة يعني الرحيل وكفى.

 

هنالك عملية استخفاف بعقول الناس واستهانة بتضحياتهم. لا يصنع الناس ثورة نادرة في تاريخ العرب والإقليم بهذا الاتساع والشمول وبهذا الزخم الشعبي وبهذا الكم من التضحيات (واسمحوا لي أيضاً أن أقول بهذا الجمال) لكي يسلم الرئيس السلطة لنائب الرئيس. فالرئيس يسلم السلطة لنائبه في حالة فقدان قواه العقلية أو الجسدية أو في حالة الوفاة أو في حالة صراع قوى وانقلاب داخل النظام. أما اختزال العمل الثوري إلى مطلب تولي نائب الرئيس مهام الرئيس فقد يعني نوعا من دعم جناح ضد آخر داخل نظام الحكم نفسه.

 

يقوم نظام الحكم، أي نظام حكم، بإصلاح نفسه إذا لم يعد قادراً على الحكم بنفس الأساليب. والنظام الذي يُدرك ذلك يستبق الثورات الاجتماعية الشاملة ضده بإصلاح ذاته. وفي كثير من الحالات يشمل الإصلاح انفتاحاً على فئات اجتماعية يستوعبها نظام الحكم، وقد يتجنب بذلك مخاطر الإطاحة به بشكل كامل. أما في حالة مصر فيبدو أن النظام لم يستنتج الحاجة إلى إصلاح، بل فوَّتها عن سبق الإصرار والترصد في عدة مناسبات. بل وقد ازداد غروراً وتبجحاً وتدهورت حالته عبر السنين، وانعزل الحاكم عن شعبه في شرم الشيخ، وازداد خطابه استهانة بالنقد، وازدادت ممارساته أمنية ضد خصومة. ووصلت الدعاية الإعلامية الفارغة حد العبث غير المتقن الإخراج. (كما جرى في مونتاج صورة الزعماء المعروفة في الأهرام، حيث بدا مبارك يتقدم الرؤساء الذين يصغرونه سناً بثلاثين عاماً لكي تُظهره صحيفة الأهرام شاباً) وكما ظهر من خطابه وخطاب بعض المثقفين إبان الحرب على غزة، وفي تبرير عدم معاقبة مرتكبي فظائع فساد في قطاع البناء وفي قطاع المواصلات أدت الى مقتل آلاف المصريين في حريق العبارة وحريق القطار وغيرها.

 

إن التوجه القاضي باعتبار الثورة احتجاجاً له مطالب، وهذه المطالب ستُلبى بمجرد ظهور الرئيس أو نائبه ليعدوا المتظاهرين بقبول بنود الدستور 76 و77، وعدم ترشيح الرئيس لدورة رئاسة إضافية، والتعهد بعدم ترشيح ابنه هي ليست تشخيصا خاطئا فحسب، بل يرجح أنها كاذبة عن قصد. من يريد الإصلاح يُفترض أن يقوم به قبل تفجر الثورة. فالثورة ليست مطلباً موجهاً له بل هي حركة ضده. وليس مطلوباً منه أن يستجيب لمطالب الثورة بل مطلوب منه أن يستنتج أن عليه أن يرحل لأنه غير قادر على البقاء.

 

من المثير للاستغراب أن يظهر نائب رئيس الجمهورية المُعين كنتيجة من نتائج هذه الثورة ويشكر :الشباب" لأنه من دونهم لما حصل هذا الإصلاح، أي لأنه من دونهم لما عُيِّنَ نائباً للرئيس، هذا لو قصد أن يشكرهم على تعينه نائباً للرئيس. ولكنه لم يقصد ذلك بل حاول أن يخدع الثورة وأن يلتف حولها. فمن يشكر لا يمكن أن يحاصر من يشكرهم في الوقت نفسه، وأن يطلق عليهم الزعران والمجرمين، وأن يعتقل الصحفيين لكي لا يُغطوا نشاطهم وأن يحرض على وسائل الإعلام التي ترفع صوتهم بل وأن يتهمهم بالعمالة لقوى أجنبية.

 

ليس هنالك شك بأن النظام غير صادق في استجابته لما يسميه "مطالب الشباب". فهو قادر على تنفيذ قسم كبير منها الآن لو كان صادقاً: مثلاً أن يرفع حالة الطوارئ الآن، ومثلاً أن يُعلن أن انتخابات مجلس الشعب غير شرعية الآن، وأن يوقف ملاحقة الصحفيين الآن. ولكنه يقدم الدليل تلو الدليل على أنه غير صادق في قبولها الآن، فما بالك بتنفيذها بعد حين إذا اقتنع الشعب المصري بالمناشدات وفض الثورة، وعاد إلى المنازل. ما الذي سيدفع النظام حينها إلى التنفيذ، وهو الذي اعترف على لسان نائب الرئيس المعين أنه لولا الثورة لما فكر أصلاً بقبول المطالب نظرياً؟ فهل سينفذ وعوده عملياً في غياب الثورة من الشارع، أم ستبدأ حملة تحريض على "شبكات الجواسيس" و"العملاء" و"المخربين" و"مثيري الشغب"، خاصة بعد أن يثبِّت النظامُ نفسَه، ويستعيد علاقاتِه الدولية معتمدا على براغماتية الغرب بقبول حلفائه القائمين كما هم في غياب الثورة.

 

ألم يقبل الغرب النظام المصري كما هو قبل الثورة؟ ألم تتحرك في عروقه دماء حقوق الإنسان والديمقراطية بعد أن نشبت الثورة؟ لا بد من الافتراض أنه سيعود لقبوله والتحالف معه إذا نجح في فض الثورة. لا يجوز إذًا العودة إلى الحياة الطبيعية الا بعد تنفيذ المطالب. فالوعود في ظل الثورة لا تعني شيئا في غيابها. وقد ينتقل النظام إلى الهجوم على الثوار وفتح معسكرات الاعتقال لهم إذا سمح له بالاستمرار وفضت الثورة لأنه وعد.

 

هذا كله مفهوم، لكن ما هو غير مفهوم هو أن يروج مثقفون يعتبرون أنفسهم نقديين لمثل هذا المزاج السياسي الذي يعتبر الثورة مأزقاً، ويرى أن مصر في مأزق، وفي أزمة تحتاج إلى حل، وأن في جعبتهم حلولاً تتلخص في نقل صلاحيات الرئيس إلى نائبه بشكل "سلس" كما يقولون، و"تهدئة" الشارع ثم التفاوض مع نائب الرئيس على مطالب الثورة. هذا لا يليق بمثقفين نقديين بل بـ "Think Tank" يعرض على النظام سيناريوات مختلفة لكيفية الخروج من المأزق.

 

والترويج لرئيس مخابرات النظام الذي أصبح نائبا لرئيس بأنه نظيف ومحترم هو أمر غريب إلى حد الاستهجان، خاصة مع علم المروجين بدوره المحلي والإقليمي في تثبيت النظام طيلة عقود، ومع علمهم بأنه ليس مجرد موظف في خدمة الديكتاتور، كما كان محمد الغنوشي في خدمة زين العابدين بن علي، بل أحد أركان الديكتاتورية المؤدلجين كما تجلى في علاقاته الخاصة مع إسرائيل والولايات المتحدة في كل الأزمات التي مرت بها المنطقة وفي قضية فلسطين وضرب المقاومة الفلسطينية بشكل خاص.

 

ولن نعلق هنا كيف ولماذا يجتمع مجموعة من المثقفين ويسمون أنفسهم "لجنة حكماء" وما المقصود بـ"الحكماء" ومقارنة بمن؟ ألا يتضمن هذا افتراضاً غير مقبول في مراحل الثورات أن الجماهير الثائرة هوجاء وأن النظام متشدد وأنهم هم الحكماء؟ أليس هذا تهرباً غير حكيم على الإطلاق؟ أو ربما يكون "حكيماً" ولكنه مكشوف وغير ذكي في التهرب من اتخاذ موقف والبقاء على الحياد في هذه المرحلة.

 

تحتاج الثورة إلى مثقفين يبلورون ويصيغون أهدافها ويشرحونها وخططها الإستراتيجية، وليس أن يستغلوها في ترتيب علاقاتهم مع نظام قائم يفترضون دوامَه، أو لنصرة جناح على جناح داخل النظام. ولا شك أن جناح الأمن داخل النظام قد انتصر على جناح الحزب الوطني، وأن جناح الأمن في داخل النظام سيضحي ببعض رموز من داخل الحزب الوطني لكي يظهر وكأنه جاد في محاربة الفساد، فيمنع تنقلهم ويقوم بمصادرة أموالهم ليبدو وكأنه يلبي "مطالب الشباب". لا يستبعد عن هؤلاء حتى الغدر بأصدقائهم لكي يبدوا كمن يقومون بعملية محاربة للفساد، والحقيقة أنهم جزء من الفساد. ولفت نظري في هذا السياق أنهم أعلنوا عن شخص غادر البلد إلى دبي وهو وزير الاقتصاد رشيد محمد رشيد أنه مُنع من السفر وحُجزت أمواله وغير ذلك، مع أنه ليس معروفاً ولا مذكوراً في أي مكان كأحد رموز الفساد، لا في الإعلام ولا في الوعي الشعبي.

من المثقفين والسياسيين المصريين الذين انتقدوا كيفية إدارة النظام بشؤون البلاد أو لم يجدوا لأنفسهم موطئ قدم في داخله أو كانوا نقاداً له بحق وبإخلاص، ولكنهم اعتادوا على سقف معين للنقد هو سقف النظام القائم. هؤلاء جميعاً لا يمكنهم استيعاب ماذا تعني مجازفة الخروج لتغيير النظام. في مثل هذه الحالة يلتزم هؤلاء الصمت ويجلسون في منازلهم بانتظار النتائج أو ينتقلون لأحد المعسكرات. أما أن يحاولوا تأطير الثورة في إطار هذه العقلية التي تعتبر الاجتماع بعمر سليمان إنجازاً مقارنة بالاجتماع بمباحث أمن الدولة، فهو أمر غير مقبول ويجب أن ينتقدهم المثقفون على ذلك.

 

كانت الثورة المصرية عفوية وانضمت إليها القوى السياسية ذات الحيثية الشعبية بشكل طبيعي. وهي الآن في طريقها نحو الهدف ولم أسمع في تاريخ الثورات كلها عن ثورة أخرجت هذا الكم من المتظاهرين ضد النظام بشكل متزامن. لم تعد هذه الثورة بحاجة إلى أدلة بأنها شعبية، لكنها بحاجة إلى تصميم وإستراتيجية للوصول إلى الهدف، فالنظام المصري يقاوم مصيره المحتوم بوسائل عديدة، من ضمنها ترويج الأكاذيب والتخويف من الفوضى وادعاؤه قبول مطالب المحتجين حين يلزم وادعاؤه أنهم جواسيس حين يلزم وقمعهم حين يلزم.

 

ويخطئ من يعتقد أن المسألة مسألة عناد شخص أو أنها مسألة شخص. ليس الموضوع طباع مبارك العنيدة ولا معاندته. وأستطيع أن أخاطر بالقول إنه لم يعد يحكم مصر، وإن من يحكم مصر فعلياً الآن هم عمر سليمان ورئيس الحكومة المعين الجديد أحمد شفيق وإنهما يحاولان تثبيت نفسيهما في النخب الحاكمة وداخل الدولة كرموز لنظام الحكم. ليس الموضوع عناد شخص وطباعه الشخصية بل إنها زمرة حاكمة تحاول الدفاع عن نفسها وعن مصالحها وأن تنقذ نفسها في الصراع. إنه صراع سياسي وليس شخصيا.

 

يُحسم هذا الصراع عندما يعرف هذا النظام أنه إما أن تستمر الثورة حتى تتحول إلى حالات من الصراع العنيف والمحتوم بالتدرج وبطبيعة الأمور، أو عندما يقبل بعملية نقل للسلطة على مرحلة انتقالية، فعندها تبدأ عملية تفاوض على كيفية تطبيق الشروط. ليس هنالك حوار على مطالب. والتفاوض على كيفية تطبيق المرحلة الانتقالية لرحيل النظام يمكن أن يكون مع أي كان. فليس الموضوع شخصيا، بل هو هو معرفة الحكام وإدراكهم واعترافهم بأنه لا بد من نقل السلطة سلمياً وأن هذه العملية تحتاج إلى مرحلة انتقالية وأن التفاوض معهم يتم فقط على آليات المرحلة الانتقالية، هذا تفاوض وليس حواراً. إنه تفاوض على نقل السلطة عبر آلية موثوقة. ولا يستطيع النظام نفسه أن يدير المرحلة الانتقالية.

 

هذا صراع يحتاج إلى تصميم وإستراتيجية ويجب فهم طبيعة هذا الصراع.

 

  دخل النظام المصري في طور العزلة الدولية الكاملة. ويجب تعميق هذه العزلة لأنه يضعف النظام ويضعف ارتباط أصحاب المصالح به، ولتعميق عزلته لا بدّ من الاستمرار ولا بدّ من الوضوح دولياً أن الثورة هي المنتصر، وقد يحصل ارتباك في ذلك إذا سُمَح للنظام بالتقاط أنفاسه.

 

يجب التمييز بين أعمال احتجاجية يعقبها تفاوض على مطالب في إطار النظام القائم وبين ثورة لتغيير النظام. الثورة لتغيير النظام ليست مجرد احتجاجات تتوقف في ظل النظام، بل هي سلسلة من الأفعال المستمرة طالما بقي النظام قائماً. وهذا يعني منع تحول الثورة إلى فعل بعينه، اعتصام مثلاً أو مظاهرة. ولا بدّ من الانتقال إلى شكل آخر غير متوقع حيث يُربك النظام بكافة أطرافه، فقد يعتاد النظام على مجرد اعتصام في ميدان التحرير إذا لم يكن هذا الاعتصام مركزاً لقيادة الثورة خارجه. فبالإضافة إلى الاعتصام يتم التظاهر في كل مكان، وأن تندلع الثورة  في مصنع وفي صحيفة وفي وسيلة إعلام وفي كل مكان. الثورة شاملة، إذا شملت كافة فئات المجتمع، فيثور الطلاب في الجامعات، ويتمرد الصحفيون في وسائل الإعلام ضد الإملاء عليهم، ويثور العمال في مصانعهم. ليس مطلوبا أن يقوم هذا دفعة واحدة بل أن يجتاح كافة القطاعات والمجالات، حتى يقود بعد وقت إلى انتقال جماعات المصالح ومؤسسات الدولة، وأهمها الجيش. وما من شك بأن العديد منهم ينضمون كأفراد لهذه الثورة.

ولكن في مرحلة ما ينتقل هذا التفاعل الكمي المحسوب بأعداد البشر إلى نقلة نوعية تشمل مؤسسات القضاء والجيش، ولكن الجيش لن يختار ذلك إلا إذا وصل إلى قناعة نتيجة تفاعلات دولية ومحلية، أو إذا وصل إلى مرحلة يُخيّر فيها الثوار الجيش عبر أفعالهم بين مصادمتهم وبين الانتقال إلى صفهم. وهذا أمر تصلح له المظاهرات المليونية المتحركة نحو مؤسسات الدولة التي يصعب على الجيش أن يُطلق النار عليها ويضطر إلى التصالح معها. وهذا لا يتم إذا اعتقد الناس أنهم يقنعون الجيش بمجرد الإكثار من مديحه.

 

لقد أخرجت الثورة المصرية من الشعب أفضل ما فيه، وأظهرت صورة من التمدن والتنوع والحوار والتواضع غير مألوفة في الحياة السياسية المصرية في ظل النظام. فمتى سمعنا آخر مرة خطيب يوم الجمعة يتحدث عن ملايين المصريين والمصريات أو يتحدث عن أخلاق الإسلام والمسيحية، ومتى رأينا هذا الكم من الرجال والنساء المحجبات وغير المحجبات دون ظواهر التحرش، ومتى رأينا الملايين تُنشد سوية وتسير في مظاهرات منظمة من دون فوضى؟

 

هذه الأنظمة المستبدة تخرج أسوأ ما في مجتمعات العرب عن تعصب وطائفية وجريمة في ظلها النظام. وقد رأينا عينات من قطعان البلطجية التي أطلقها النظام أو رجالاته ضد المتظاهرين، فظهر وجه النظام المتخلف والبدائي في مقابل الشعب المتحضر، خلافا لما يروج هو عن شعبه في الغرب الذي يحتاج برأيه إلى حكم الاستبداد لأنه متخلف.

 

أما حين يخرج الشعب ضدها فكأنه يمر لعملية تطهر من أوساخ وقذارات ثقافة هذه الأنظمة الاستبدادية. لم يبق إنسان مصري أو عربي إلا وانفعل وأبدى انفعاله من مظاهر الزهو والفرح التي رافقت مظاهرات يوم الثلاثاء (1 فبراير/شباط) أو يوم الجمعة (4 فبراير/شباط)، في مقابل وحشة وتخلف يومي الأربعاء والخميس 2 و3 فبراير/شباط.

 

لقد عاد الشعب إلى ذاته وعادت مصر متصالحة مع ذاتها، ويبدو أن العرب في المرحلة الحالية إنما يتصالحون مع ذاتهم عندما يخرجون ضد الأنظمة الاستبدادية الحاكمة حالياً.