خبر وثائق « التفريط » ومسؤولية الشرعية الفلسطينية ..محمد السعيد إدريس

الساعة 12:55 م|30 يناير 2011

وثائق "التفريط" ومسؤولية الشرعية الفلسطينية  ..محمد السعيد إدريس

في الوقت الذي ترفض فيه الولايات المتحدة طرح أي مشروع قرار على مجلس الأمن الدولي يتعلق بإدانة سياسة الاستيطان "الإسرائيلية"، بعد أن عجزت الإدارة الأمريكية عن إقناع حكومة الكيان الصهيوني بقبول الصفقة السخية جداً المتعلقة بالتجميد المؤقت للاستيطان لمدة شهرين لا أكثر، وفي الوقت الذي شددت فيه المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن على معارضة بلادها لطرح أي مشروع قرار على المجلس يتعلق بالمستوطنات والتمسك بالموقف الذي يصر على أن كل قضايا الحل النهائي يجب حلها عبر المفاوضات، وليس عن طريق قرارات تصدر عن مجلس الأمن، التعامل مع موضوع الاستيطان على أنه من قضايا الحل النهائي التي يجب أن تخضع للتفاوض الثنائي "الإسرائيلي" الفلسطيني وليس كشرط لبدء هذا التفاوض، كشفت الوثائق التي نشرتها قناة "الجزيرة" الخاصة بعملية المفاوضات الفلسطينية "الإسرائيلي" التي تدافع عنها المندوبة الأمريكية ولا ترى أي بديل لها عن فضائح شديدة الخطورة تؤكد مدى التفريط في الحقوق الذي تورط فيه المفاوض الفلسطيني، كما تفضح سياسة التواطؤ الرسمي الفلسطيني في المخطط "الإسرائيلي" المدعوم أمريكياً وبريطانياً لضرب كل قواعد وأسس حركة المقاومة الفلسطينية من خلال التنسيق الأمني الواسع المدى بين الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية وأجهزة الأمن والاستخبارات "الإسرائيلية".

 

ربما يكون السؤال المباشر بهذا الخصوص هو: هل بعد انكشاف هذا كله مازال التفاوض خياراً فلسطينياً؟ السؤال مهم لأنه يعيدنا إلى جانب شديد الأهمية من عملية التفاوض تلك، وهو ما يتعلق بكسر الحاجز النفسي بين المفاوض الفلسطيني والمفاوض "الإسرائيلي". فعلى ما يبدو أن اللقاءات والحوارات والمناقشات المنتظمة الرسمية وغير الرسمية بين طواقم المفاوضين الفلسطينيين مع نظرائهم "الإسرائيليين" وعلى مدى سنوات التفاوض الطويلة قد نجحت في كسر الحاجز النفسي بين الطرفين، ولم يعد المفاوض الفلسطيني يرى في المفاوض "الإسرائيلي" عدواً أو حتى خصماً، بل ربما تكون قد نشأت صداقات وعلاقات وجرى ترتيب مصالح من هذا النوع أو ذاك إلى درجة جعلت بعض هؤلاء ينسى أو يتناسى أنه يخوض صراعاً دبلوماسياً لا يقل ضراوة أو يجب ألا يقل ضراوة عن الصراع العسكري وممارسة الفعل المقاوم، وينحدر في تفاعلاته وانفعالاته التفاوضية بأبهة اللقاءات لدرجة قد تقوده، سواء كان يدري أم لا يدري، إلى درك التفريط في حقوق بلاده الوطنية.

 

بعض هذه الوثائق وبالذات ما يتعلق بموقف قيادة السلطة من الحرب "الإسرائيلية" الإجرامية على قطاع غزة (ديسمبر/ كانون الأول 2008 يناير/ كانون الثاني 2009) يثير الغثيان عندما تتحدث بعض هذه الوثائق عن الموقف التحريضي لقيادة السلطة من أجل تكثيف الضرب والضغط على حركة "حماس" كي لا تخرج منتصرة. أما ما يخص التنازلات في الحقوق وبالذات ما يتعلق بالقدس وما يتعلق بحق العودة، وتبادل الأراضي، فهو يفوق أي قدرة بشرية على التحمل أو التصديق، بشهادة أحد كبار هؤلاء المفاوضين في تعليقه على التنازلات بخصوص الحرم القدسي والبلدة القديمة للدرجة التي دفعته ليعلن بنفسه عن تنازلاته بقوله: "إن الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن أقوم به هو أن أتحول إلى صهيوني".

 

وإذا كانت تلك التنازلات مازالت أسيرة الأفكار أو المقترحات فإن ما يتعلق بما حدث من تحولات في ما يسمى "العقيدة الأمنية" التي تعتنقها أجهزة أمن السلطة تجاوز الأفكار إلى الأفعال. فمن خلال التفاوض والانخراط في ما عرف ب "عملية السلام" ووفقاً لما جرى تحريفه من اتفاقيات أوسلو، وإعلان القيادة الفلسطينية الجديدة الوريثة لقيادة الراحل ياسر عرفات ب "خريطة الطريق" كمرجعية لأدائها وليس لأن مواثيق فلسطين أو حتى عربية ودولية أخرى جرى الانحراف بالعقيدة الأمنية لأجهزة السلطة، التي تحولت عبر إدارة الجنرال الأمريكي دايتون وأجهزته، وعبر التنسيق الأمني الذي ارتضته قيادة السلطة من حماية المواطن الفلسطيني ومكتسبات الشعب الفلسطيني والدفاع عن حقوقه ضد الأطماع والسياسات "الإسرائيلية" إلى استهداف المقاومة، كخيار وطني، وكمؤسسات ومنظمات وقيادات وأفراد، والتنسيق مع الأمن "الإسرائيلي" ضد كل فعل أو سياسة أو عمل قد يضر بالهدف الاستراتيجي الذي انخرطت السلطة في أوهامه وهو هدف "الدولة الفلسطينية".

 

فمن خلال انخراط واقتناع القيادة الفلسطينية الجديدة في خريطة الطريق، والوثوق بأن مسار هذه الخريطة والالتزام به هو الذي سيقود الشعب الفلسطيني إلى الحصول على دولته المستقلة، قبلت السلطة بكل مطالب الجنرال دايتون ابتداء من تغيير "العقيدة الأمنية" من القتال ضد "الإسرائيليين" دفاعاً عن الحقوق الوطنية إلى التنسيق مع "الإسرائيليين" للحصول على الدولة، وامتداداً إلى القبول بالتنسيق الأمني مع أجهزة الأمن والاستخبارات "الإسرائيلية" ضد المقاومة والمقاومين، والتخلص من الجيل القديم في الأجهزة الأمنية الذين خاضوا غمار المقاومة واستبدال أجيال جديدة من الشباب الذي جرى تدريبه تحت قيادة الجنرال دايتون على العقيدة الأمنية الجديدة بهم.

 

ومن خلال هذا التنسيق الأمني، والاستبدال الذي حدث في قيادات وأفراد الأجهزة الأمنية أخذ الأمن الفلسطيني يتورط في جرائم وطنية، حتى جرى التورط في اغتيال قيادات المقاومة، وبعضهم تورط في جريمة اغتيال الرئيس عرفات، وجرى تسليم المئات من النشطاء ومن شباب الانتفاضة والاستشهاديين إلى الأمن "الإسرائيلي"، كما جرى التنسيق عبر خطة أمنية بريطانية، في عمليات استهدفت مصادرة الأسلحة، ومنع تهريبها إلى قطاع غزة أو الضفة، لكن الأهم كان يتعلق بصواريخ القسام وبأنفاق غزة لإنهاء كل عمليات تهديد "إسرائيل".

 

وهكذا تحولت أجهزة الأمن الفلسطينية إلى أذرع لأجهزة الأمن "الإسرائيلية"، كمحصلة أولى للتنسيق الأمني، وكإحدى نتائج الانسياق في عملية التفاوض، لكن ما هو أخطر كان يتعلق بتمكين سلطات الاحتلال من التوسع في سياسة الاستيطان وتهويد الأراضي وتهجير العائلات وتدمير القرى والمباني والتوجه نحو القدس والحرم القدسي الشريف لإكمال مشروع بناء "إسرائيل"، كدولة يهودية تحت وهم وستار سلام زائف ومراوغ عنوانه المباشر هو "التفاوض".

 

ما تكشف في الوثائق هو النذر اليسير وما خفي كان أعظم، وإذا كان ما تكشف يحمل من المبررات "الإسرائيلية" والأمريكية ما يبرر أسرار الإصرار الأمريكي و"الإسرائيلي" على استمرار هذا التفاوض، فما مبررات السلطة للقبول به طيلة كل تلك السنوات؟ هل هي الشرعية التي تدعيها سلطة هي التي أعطتها كل هذا المدى الخطير من التنازلات؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن هذه الشرعية هي التي يجب أن تحاسب، ومن هنا تتحدد مسؤوليات المؤسسات الوطنية الفلسطينية أو ما تبقى من هذه المؤسسات.

 

 صحيفة الخليج الإماراتية