خبر الحدث التونسي وأجراسه../ فهمي هويدي

الساعة 08:19 ص|25 يناير 2011

الحدث التونسي وأجراسه فهمي هويدي

نُعذر إذا لم نستطع أن نغادر الحدث التونسي، ليس فقط لأنه استثنائي وتاريخي في العالم العربي، وليس فقط لأنه أحيا فينا أملا ظننا أن تحقيقه يحتاج إلى معجزة، ولكن أيضا لأن تفاعلاته المثيرة مستمرة منذ أكثر من شهر ورسائله تتدفق بغير انقطاع وأجراسه ترن طوال الوقت.

 

(1)

 

حتى الآن الشارع هو البطل الحقيقي، هو الذي أطلق الثورة، وهو الذي أجهض محاولة الالتفاف عليها، وهو الذي لا يزال مصرا على تحدي الحزب الذي احتكر السلطة واختطف البلاد بعد زوال الاحتلال الفرنسي في عام 1956.

 

أما كيف أطلق الثورة فقد بات ذلك معلوما لدى الكافة. أما قطعه الطريق على محاولة الالتفاف على الثورة واختطافها بدورها، فقد تبدى حين خرجت الجماهير معربة عن غضبها بعد إعلان تشكيل الحكومة، التي ظل على رأسها أحد رجال نظام بن على، في حين استولى رجال الرئيس وأعضاء حزب التجمع الدستوري الحاكم على الوزارات السيادية فيها (الداخلية والدفاع والمالية والخارجية)، الأمر الذي جاء مؤكدا على أن الدكتاتور رحل حقا لكن نظامه ثابت القدم كما هو.

 

الجماهير لم تنطلِ عليها الحيلة، ولم تقتنع بأن رحيل الدكتاتور وتشكيل حكومة جديدة تضم بعض قيادات المعارضة المدجنة يعني طي صفحة الدكتاتورية. ولم تصدق شعار القطيعة مع الماضي الذي رفعه رئيس الوزراء وآخرون من قيادات التجمع الدستوري. وسمعنا أناسا عاديين يقولون لمراسلي الفضائيات العربية إنه لا يعقل أن يكون أعوان الطاغية وأركان الاستبداد أنفسهم دعائم الانتقال إلى المرحلة الديموقراطية، وأن القطيعة الحقيقية يجب أن تتم مع الحزب الفاشي الذي ظل ركيزة النظام الدكتاتوري طوال العقود التي خلت.

 

غضبت الجماهير لمجرد وجود ممثلي الحزب الدستوري في الحكومة. وكان مطلبها صريحا في ضرورة إخراجهم منها. وعبرت عن ذلك المطلب بطرق سلمية ومتحضرة. فبقيت في الشارع لم تغادره. واحتل بعضهم عددا من مقار الحزب وانتزعوا لافتاته. وفى بلدان أخرى فإن هذه الرسالة كانت توجه بأساليب أخرى، عبر إسالة الدماء والفتك برموز القمع والاستبداد. لكن ذلك لم يحدث، بل مارس ذلك الحضور ضغطا قويا على النقابات والقوى الوطنية، التي تبنت مطالب الجماهير الواقفة في الشارع. وكانت استقالة أربعة من الوزراء يمثلون التيار الوطني عنصرا ضاغطا أسهم في إحراج الحكومة واهتزاز صورتها. وحتى كتابة هذه السطور فإن مأزق الحكومة لا يزال مستمرا. حيث الجماهير ما زالت تعرب عن احتجاجها في الشارع. والحزب الدستوري يخوض معركته الأخيرة في الدفاع عن هيمنته وسلطانه.

 

(2)

 

إذا كنا قد رأينا مشهد الشارع كاملا، فإنه لم يتح لنا أن نتابع ما يجري في السراديب. لست أعني ما يحيكه أركان نظام بن علي من حيل وألاعيب للحفاظ على قبضته، ولكن أعني دور القوى الخارجية التي فوجئت بما جرى وأقلقها السقوط السريع للنظام، وما يمكن أن يترتب على ذلك في المستقبل. إذ ليس سرا أن ثمة تنافسا صامتا بين الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا حول النفوذ في دول المغرب العربي. وهذا التنافس مشهود في جميع تلك الدول بغير استثناء. إذ لكل منهما رجاله وأدواته. خصوصا في أوساط القوات المسلحة، التي تعد على رأس قوى التغيير والتأثير. إذ يتحدث المتابعون للشأن الموريتاني مثلا عن أن فرنسا كانت وراء سيطرة الرئيس الحالي على السلطة، ويشيرون إلى أن بعض قوى المعارضة لجأوا إلى الولايات المتحدة لمقاومة نظامه. وليس سرا أن الولايات المتحدة كانت وراء استيلاء زين العابدين بن علي على السلطة في تونس عام 1987. لكن فرنسا لم تغب مع ذلك عن الساحة. وقد بات معروفا أن وزيرة الخارجية الفرنسية ميشيل اليوماري عرضت تدريب الشرطة التونسية في بداية الانتفاضة لقمع المتظاهرين. وتحدثت وسائل الإعلام عن اتصالات ملحة كان يجريها أثناء الثورة النائب اليميني الفرنسي إريك راؤول بالنظام السابق للتحذير من إتاحة الفرصة للإسلاميين في ظل الوضع المستجد. ولم تغب الولايات المتحدة عن متابعة المشهد، ففي حين أعرب الرئيس أوباما عن تقديره لشجاعة الشعب التونسي، فإن كبير مستشاريه الأمنيين سارع إلى الذهاب إلى الجزائر لكي يكون قريبا من الأحداث في تونس، وقيل إنه نقل رسالة أيدت إجراء انتخابات حرة ونزيهة هناك، مشترطا عدم تمكين الإسلاميين من الوصول إلى السلطة.

 

(3)

 

أصبحت مشاركة الإسلاميين في العمل السياسي أحد العناوين المثيرة للغط، محليا وإقليميا ودوليا. والإسلاميون المعنيون هم بالدرجة الأولى حركة النهضة (أول مكتب سياسي لها تشكل في عام 1981)، ويقودها الشيخ راشد الغنوشي الذي اختار لندن منفى له. أما كوادر الحركة فقد توزعوا بين المنافي والسجون التونسية. والذين تابعوا أدبيات ومواقف الحركة منذ إنشائها أدركوا في وقت مبكر أنها قدمت نموذجا فكريا منفتحا ومتقدما على كثير من الحركات الأخرى. وهذا النموذج كان ملهما لحزب العدالة والتنمية الذي تشكل بالمغرب في وقت لاحق، وهو الاسم الذي اقتبسه الفريق الذي خرج من عباءة حزب الرفاه الإسلامي في تركيا تحت قيادة الأستاذ نجم الدين أربكان، وشكلوا في عام 2000 حزبا بذات الاسم الذي عرف في المغرب. وكان في مقدمة قادته عبد الله جول رئيس الجمهورية الحالي ورجب طيب أردوغان رئيس الوزراء.

 

في تونس ــ كما في مصر ـ كان هناك حزب مهيمن وأحزاب أخرى محظوظة ومرضي عنها، وظلت تستخدم في إحكام الديكور الديموقراطي، وأحزاب أخرى محظورة ليس مرضيا عنها كان بينها حزب النهضة والحزب الشيوعي، وأحزاب معارضة أخرى. ولأن النظام كان علمانيا قحًا، فإنه استقطب المتطرفين من العلمانيين والشيوعيين، الذين كانوا ولا يزالون في الوقت الراهن يدعون إلى إقصاء حزب النهضة ويخوفون من العودة المرتقبة للشيخ راشد الغنوشي من لندن.

 

هذه الدوائر عبرت عن مخاوفها حين قررت الحكومة التونسية فتح الأبواب على مصاريعها للتعددية الحزبية، كما أطلقت سراح المعتقلين والمسجونين السياسيين، وأعدت مشروعا للعفو عن المحكوم عليهم ومنهم المقيمون في المنافي، مما يعني إضفاء الشرعية القانونية على نشاط الأحزاب المحظورة، وفي المقدمة منها حركة النهضة والحزب الشيوعي. إلا أن حركة النهضة لا تزال الوحيدة التي تقف في حلق الجميع. من نظام زين العابدين بن علي إلى المتطرفين من العلمانيين والشيوعيين، إلى الفرنسيين والأميركيين والإسرائيليين.

 

دعوة استثناء "النهضة" تتعذر الاستجابة إليها من جانب الحكومة الجديدة، أولا لأن حركة النهضة قدمت طوال الوقت نموذجا فكريا وسياسيا وسطيا ومعتدلا للغاية، وثانيا لأنها ظلت طوال عهد بن علي تتحرك في إطار تحالف وطني مع الأحزاب الأخرى التي اطمأنت إليها ووثقت في مواقفها، وهو ما دعا عقلاء العلمانيين والشيوعيين إلى المطالبة بعدم استثنائها. وثالثا لأنه كان من الصعب على حكومة وعدت بإطلاق الحريات والالتزام بقيم الديموقراطية أن تجيز كل الأحزاب في حين تستمر في حظر حركة النهضة وإقصائها.

 

ما يثير الانتباه في التوافق بين تلك الأطراف على المطالبة بحظر النهضة ــ أنها في هذا الموضوع بالذات تناست تناقضاتها، واعتبرت أن تناقضها الرئيسي مع الحركة، ولم يعرف ما إذا كان ذلك تصفية لحسابات أو دفاعا عن الذات، أو غيرة على مصالح غربية وإسرائيلية يمكن أن يتهددها وجود حزب إسلامي في الساحة السياسية. يثير الانتباه أيضا أن الأطراف المختلفة دأبت على التخويف من تحول النهضة إلى نموذج لطالبان واستنساخ للنظام الإيراني. ولم يخطر على باب أحد أن يراجع سجلها ليدرك أنها أقرب في عقلها السياسي إلى حزب العدالة والتنمية في تركيا.

 

(4)

 

اللغط مثار أيضا حول عنوانين آخرين، أولهما يتعلق بعبرة ما جرى في تونس، والثاني حول القواسم المشتركة بين الوضع التونسي وبين نظائره في العالم العربي.

 

العنوان الأول أفاض فيه كثيرون ممن اجتهدوا في قراءة الحدث واستخلاص دروسه التي يتعين على الآخرين استيعابها وليس لدى ما أضيفه إلى تلك الخلاصات، إلا أنني لا أستطيع أن أقاوم التذكير بعدة رسائل تلقيناها من الحدث التونسي تتمثل في ما يلي:

 

* إن منظر الرئيس بن على في آخر خطاب له يقنعنا بأن الطغاة والمستبدين ليسوا بالقوة التي نتصورها، إذ نبهنا إلى أنهم أقوياء فقط بسلاح الجند الذي يحرسهم وأجهزة القمع التي تسحق معارضيهم. في ما عدا ذلك فهم مهزومون ومتخاذلون. وإذا كان المشهد التونسي قد بين لنا أنهم أضعف مما نتصور، فإنه أيضا أكد لنا أن الشعوب أقوى مما تتصور.

 

* إن احتكار السلطة حين يتحول إلى هدف بحد ذاته، فإنه يدفع المستبد إلى القبول بالتلون والتقلب بين مختلف المبادئ والاتجاهات، طالما كفل له ذلك أن يبقى في موقعه. إذ يبدي استعدادا للانتقال من الدكتاتورية إلى الديموقراطية والليبرالية ولا مانع لديه من التحول إلى الثيوقراطية، ومن القومية إلى الكونية والقطرية، ومن النقيض إلى النقيض. وليس مهما الثمن الذي يدفع أو ما يستصحبه ذلك من مهانة. لأن الأهم أن يؤدي إلى تثبيت البقاء في المنصب واستمرار القبض على هيلمان الملك.

 

* إن الحديث عن الرخاء، والنمو الاقتصادي لا ينبغي الترحيب به إلا إذا عرفنا من المستفيد منه، وهل تذهب عائداته إلى الذين اختطفوا البلد وسرقوه، أم إلى أصحاب البلد وشعبه الكادح. وما جرى في تونس يفتح أعيننا على تلك الحقيقة، لأننا اكتشفنا أن "معجزته الاقتصادية" التي تحدث عنها الرئيس السابق جاك شيراك جنى ثمارها الأثرياء وأفراد العصابة الحاكمة، وكان الفتات هو نصيب المجتمع وحظه.

 

* إن أجهزة الأمن حين تتوحد مع النظام المستبد وتصبح سوطه وسجانه ويده الباطشة، تتحول من مؤسسة تحرس المجتمع وتسهر على أمنه إلى مؤسسة تسحق المجتمع وتعاديه. وحين أحرق المتظاهرون في تونس غطاء رأس لضابط الشرطة، وحين تظاهروا أمام وزارة الداخلية، فإنهم كانوا يعبرون عن شعور المرارة والسخط إزاء الدور القذر الذي قام به رجال الشرطة لصالح النظام. ومن الواضح أنهم أدركوا أخيرا مدى رفض الناس لهم، حتى إنهم خرجوا في تظاهرات بالعاصمة حملت لافتات تقول: أبرياء أبرياء من دم الشهداء.

 

* إن الأنظمة السلطوية حين تمعن في إحكام الانسداد السياسي وتغلق أفق المستقبل في وجوه الجميع، فإن لغة الشارع وخروج الجماهير إليه تصبح الخيار الوحيد أمام الضائقين بالاستبداد، والراغبين في تخليص المجتمع من براثنه. وأية تداعيات تترتب على ذلك يتحمل مسؤوليتها الذين صنعوا الأزمة وليس ضحاياها.

 

الذين يرفضون الاعتبار من الحدث، ومن ثم يرفضون تسلم رسائله، هم أنفسهم الذين ما برحوا يروجون للزعم القائل بأن تونس حالة خاصة ليس لها مثيل في العالم العربي، ليطمئنوا أنفسهم على مصيرهم، وإن ادعوا أنهم يطمئنون الناس والنظام. وهو زعم انتقدته في موضع آخر. ولاحظت أن كتابات الصحف القومية في مصر هي الوحيدة التي تتبناه وتروج له، في حين أن الإعلام الخارجي يعتبر أن التشابه مع مصر بالذات أمر مفروغ منه ومسلم به. وحين سألني أحد المراسلين الأميركيين عن أوجه الشبه بين مصر وتونس والجزائر. قلت إن بينها أربعة قواسم مشتركة على الأقل هي: استمرار احتكار السلطة ـ انتشار الفساد ـ التغريب وفقدان الهوية ــ الدوران في فلك السياسة الأميركية. وهي أمور يطول فيها الحديث ويضيق بها المكان.

"السفير"