خبر د.علي عقلة عرسان يكتب : في رصيد إعجاز الشعوب..

الساعة 10:45 ص|21 يناير 2011

د.علي عقلة عرسان يكتب :  في رصيد إعجاز الشعوب..

 

عجائب الدنيا، سبع، عشر، أكثر أو أقل، وكلها من صنع البشر، يُذكر المعماري والمادي منها في الأغلب الأعم عند التعداد، ولا يكاد يذكر المعنوي الأشد إعجازاً وإثارة للعجب والإعجاب، مما أسس للإعجاز وأدى إلى العجب أو إلى إثارة الإعجاب أصلاً. وفي هذا يحضر الظاهر ويغيب الباطن، يحضر ما اجترحته أعضاء الأجسام ويغيب أو يُنسى ما أسست له العقول وصممت عليه القلوب، فأصبح إرادة واعية تقيم العمران الحضاري وتحفظه وتنميه، أو عاصفة انفعالية هوجاء لا تبقي منه ولا تذر. ويبقى الإنسان الذي يقف وراء ذلك كله، يبقى أكثر إعجازاً وإثارة للعجب والإعجاب من كل الأوابد والكائنات والعواصف، ومن كل ما اجترحه من معجزات وأثاره من زوابع وهدمه من عمران.. حين يخلق ينسى أنه مخلوق، وحين يبدع يتجرأ على بديع السماوات والأرض، ويتمرد على خالقه بعنجهية وطيش استناداً إلى ما قدر وخلق. إنه يرى إلى نفسه على أنه الكائن الذي يأتي بالمعجزات ويسخرها ويسخر منها، لأنه صانعها وموظفها ومصدقها وناقضها في الوقت ذاته، وأنه يستطيع أن يصنع أفضل مما صنع، وأن يكشف الغطاء عما صنع وصدق، فيتبدى زيفه، ومن ثم ينفيه إلى عالم الخرافة والنسيان، اعتماداً منه على العقل والشك المنهجي وإعمال المنطق والرفض البناء، أو يزداد اقتناعاً به فيرفعه منارة ويزعم أنه الهداية ويمنحه القداسة، ويقاتل من أجل ما رفع من معجزات ورموز، وما رسم من رؤى وأعلى من منارات، وهيأ من أفكار، ووظف من قدرات وأسرار.. هكذا هو.. أكثر الكائنات تلّوناً وتقلباً، وضوحاً وثباتاً، فيه الضعف والقوة، الاستكانة والتمرد، الخير والشر، الإشعاع والانطفاء.. يخوض صراعاً متجدداً مضنياً ليحمي البقاء ويتشبث بالوجود ويعطيهما نكهة ومعنى وربما خلوداً، ويخوض صراعاً مضاداً فيهدم ويقتل ويدمر ويفني ذاته وعناصر البقاء والوجود التي صارع من أجلها وأعطاها اللون والنكهة.. في تكوينه بذور البقاء والفناء.. يلغ في الدم والإثم ويرفع عينيه ويديه إلى السماء في تطلع إلى التسامي، يؤمن ويكفر، يحزن ويفرح.. ويبقى التشظي والتألق.. وتستمر محاولاته المستميتة للتشبث بمادة ما أو سلطة أو شهوة أو.. أو.. يتعلق بالخير ويتصدى للشر، ويصنع الشر ويدعو إلى الخير، يترفع عن البهيمية والانحطاط، حتى وهو يغرق في مستنقعاتهما أو ينغمس في حمأة بعد أخرى.. سقوط ونهوض، جثو وشموخ، سكون وحركة.. وتبقى الدوامة على أشدها، تخطف بريق العقل أحياناً وتضلله فيكبو، أو تجعله يتوهج فيتبدى نوراً ومتتاليات رؤى طموحة ومفازات نجاح. وكل توجه في أي مسار من مسارات الحياة التي يعيشها الإنسان أو يندفع فيها يؤدي بالضرورة إلى حركة قد يكون فيها أثر من حلزونية صاعدة، تتكون وتنمو من قطف ثمرة تجربة، وتراكم خبرة، وإضافة رأي، وتأمل مستنير.. وتدفع باتجاه التقدم البشري ولو بمقدار شعرة.

عجيب الإنسان، وأعجب ما فيه عقله وقلبه وتوهج روحه، عجيب فيه جمع المتناقضات وتعايشها، وما يجترحه في حالتي السلب والإيجاب، عبر حياة هي السلب والإيجاب في تجليات شتى.. حياته موت آناً، وموته حياة. عجيب الإنسان.

ـ 2 ـ

تابعت أخوتي في تونس، من مدينة إلى أخرى، ومن شارع إلى آخر، ومن مطلب إلى مطلب.. في حركة المد الجماهيري التي أعقبت حركة جزْرٍ، وسكوناً طال أمده جراء عوامل كثيرة.. وكنت أرى الجموع تندفع وتدفع باتجاه التغيير، تصحو وتعبر عن ذاتها بقوة، وكلما تقدمت خطوة استعادت صحوها وحيويتها وعافيتها وشعورها بذاتها وتألقت، فأقدمت على خطوة أخرى بثقة تتعزز في الأنفس وتعز الأنفس، يوجهها ويساندها تفاعل فكر يُنضج رأياً يصب في تيارها، فتمسك خيط الرأي الرفيع المتدفق من هنا وهنك، وتضم خيوط الرأي وتفتلها جديلة أو حبلاً، ثم ترفعها مطلباً يتوحد حوله الموقف والجهد، ولا يلبث أن يصبح بالفعل الجماهيري قراراً يتجسد فعلاً على الأرض، بقوة الشعب وتصميمه وإرادته، فيزيد ذلك الشعب ثقة وحماسة واستشعاراً لقدرته، ويدفعه نحو رأي وساحة رؤية.. هكذا كانت البداية في سيدي بوزيد، وهكذا استمرت في تنام وتصاعد حتى سقط رأس النظام، ومن ثم إلى تعديل مسار الوزارة المؤقتة ونهجها، فالانتقال من إسقاط رأس النظام والحزب إلى خلخلة حزب النظام ذاته، وفرض القطع معه ومع الماضي الذي أنتجه ومثله مدة ثلاثة وخمسين عاماً.. وفتح ذلك أمام الشعب التونسي بوابات على الأرض وفي عمق الأنفس، ومجالات الحكم، والحراك الاجتماعي، والتحرر والحرية والكرامة والرؤية الوطنية والقومية والإنسانية.. صحا الشعب وانكسر ظل الكابوس، وانفتحت البوابات والآفاق، بوابة عمل وأمل بعد بوابة عمل وأمل، وأفقاً جديداً بعد آخر.. وتساقطت جدران وسدود وحدود.. وتمرد المقيد على قيده فانكسر القيد، وعلى ما سكن نفسه من خوف فزال الخوف، وتجدد ما كبا من أمل.. وأشرعت الأبواب أمام التونسيين في الداخل والخارج.. وحفز ذاك الفعل الثوري عرباً مقهورين وجائعين ومظلومين في أقطار الوطن العربي، وهز الأنظمة العربية التي سارعت قبل القمة الأخيرة الاقتصادية في شرم الشيخ، وفي أثنائها، وبعد انتهائها، إلى البحث عما يمكن أن تقدمه للجماهير لتلجم حركة تنذر بالكثير مما يغير ويؤثر ويثير، قد يدمر تدميرا.

خلاصة الدرس الشعبي التونسي بسيطة وواضحة ومكثفة، تقول: ".. الظلم لا يدوم، والحق لا يموت، والشعب سيد لا يقهر، ناره لا تنطفئ وإن جللها الرماد، ينتفض ويفيض في الشوارع والساحات، يكتسح وينتصر ويصنع المعجزات.. فتنبهوا يا "أولي الألباب"، ولا يغرنكم سكون النهر، فالماء تحت السطح الساكن عميق الغور وفي حركة، والماء الناعم الرقيق الرقراق قوة جبارة حين يتحرك أو يُحرَّك بضغط، إنه قوة تجرف كل ما يعترضها.. الشعب نهر جارف، إذا سكن سطحه فهذا لا يعني أن الماء لا يجري وأن الحركة توقفت.. وويل للمتجبرين الظالمين والغافلين، ومن لا يقرؤون حركة الشعوب ولا يعتبرون بما قدمته وتقدمه من دروس.. ويل لهم من صحوة المظلومين وثورة الجياع والمقهورين.". وهي خلاصة لها تميزها العربي من حيث التوقيت والموقع والدلالة والتأثير، وتشكل إضافة إلى أمثالها من خلاصات كثيرة جداً راكمتها التجربة البشرية، وقدمتها شعوب استعمِرَت أو اضطهدت وسلبت حقوقها، أو جوِّعت، فهبت تطالب بالحق في الحياة، بالعدل والحرية، وأخرجها الجوع والظلم والقهر والقمع والتهميش إلى الشوارع، في ثورة ضد الطغيان والحكم الاستبدادي والفساد والإفساد، طلباً لحياة كريمة، وأمن من جوع خوف، وعدل مفقود، وعيش يليق بالإنسان، وتخلص من ممارسات وأشخاص ينصبون أنفسهم أوصياء على الشعوب، ولا يدركون أنهم أناس من الناس لا أكثر ولا أقل، ائتمنهم الناس فخانوا الأمانة ووجبت محاسبتهم.

ومعجزات الشعوب التي تصنعها في ثوراتها، تبقى في ذاكرة التاريخ بمتناول من يطلبها ويبحث عنها من البشر ليستفيد منها ويتعظ بها، تضيف إعجازاً إلى إعجاز.. وقد تثير إعجاباً وتصنع الأعاجيب، وقد تثير العجب والغضب أيضاً وتنذر من عواقب الفيضان البشري، شأنها في ذلك شأن فعل الإنسان عند تحرك أنوائه، وهيجان انفعالاته، وهبوب عواصفه، وتجليه إما خالقاً مبدعاً، أو متمرداً واعياً، وإما خارجاً شرعة الحياة و الخالق المبدع، يدور في مدار رؤية محدودة، وقدرة قاصرة، وظرف راهن، في هياج يخسف أو يكسف، ويترك العقل الناضج المستنير في عتمة الخسوف أو الكسوف.

يا للإنسان من مخلوق عجيب معجز، هو أكبر، أو من أكبر، عجائب الكون ومعجزات الخالق، ويا للشعوب من صانعة للمعجزات والأعاجيب حين تتحرك بتأثير القهر وفعل خلاق يجترحه المضطهَدون والمبدعون الواعون من أبنائها..

ويبقى الإعجاز والمعجِب والعجيب، بما فيه من خير وشر، رصيداً لبني البشر.

 

دمشق في 21/1/2011