خبر الدرس التونسي.. إذا الشعب يوماً أراد الحياة .. بقلم : علي بدوان

الساعة 01:47 م|16 يناير 2011

الدرس التونسي.. إذا الشعب يوماً أراد الحياة .. بقلم : علي بدوان

قبل أكثر من ربع قرن مضى، وإبان خدمتي الوطنية العسكرية كضابط مجند في صفوف قوات أجنادين التابعة لجيش التحرير الفلسطيني، وفي موقع متقدم على جبهة الجولان، وعلى بعد أمتار قليلة من قوات الاحتلال الإسرائيلية الصهيونية، وتحديداً في المرتفع (2814) والمعروف بقمة جبل الشيخ أو قمة جبل حرمون، كتب أحد الجنود وبقلم (الفلوماستر) العريض على جدار إحدى (البركسات) تحت الأرضية المخصصة لمبيتنا، بيتاً من الشعر قاله شاعر تونس أبو القاسم الشابي قبل عقود خلت:

إذا الشعب يوماً أراد الحياة** فلابد أن يستجيب القدر

في تلك الأثناء كان البيت الشعري إياه، الذي بتنا نقرأه طوال ساعات اليوم الواحد كلما وقعت أنظارنا عليه، يلخص درساً يومياً لنا، في عبره ومغازيه، وعامل تحفيز لنا في جهوزيتنا العسكرية، وفي تحملنا أصقاع وثلوج جبل الشيخ، كما في إيماننا الراسخ بأن إرادة الشعب تصنع المستحيل، وتستطيع أن تزيح عن صدر أي شعب كل أشكال المظالم، وأن تعيد تسطير حياته بطريقة ثانية من جديد، فأين نحن الآن من الدرس التونسي، وقد قال ابن تونس أبو القاسم الشابي قبل عقود طويلة: إن أرادة الشعب تفرض نفسها في نهاية المطاف؟

في الأسباب البعيدة للانتفاضة

من نافلة القول بأن الحدث التونسي لم يأت دون مقدمات وارتسامات وحراكات مستديمة على الأرض وفي المجتمع وبناه المختلفة، لكنه جاء (صاعقاً ومفاجئاً) للعديد من الأطراف الدولية وخصوصاً منها فرنسا التي تحتفظ بعلاقات مميزة مع نظام بن علي، كما جاء (صاعقاً ومفاجئاً) لأركان النظام وقمة هرمه السياسي والأمني الذين كانوا في رحلة الاطمئنان على استقرار النظام وحاله بالرغم من تفشي الفساد وطغيان القمع وسوء الحال الاقتصادية لسواد الشعب على امتداد الأرض التونسية.

فقد كانت أجهزة الأمن التونسية تفرض سطوتها بقوة فولاذية على عموم تونس، وتكتم أنفاس الناس وتحصيها، وتكمم أفواه الجميع، ومنها القوى السياسية على امتداد البلاد، وبكافة تلاوينها الفكرية والأيديولوجية، من القوى والاتجاهات الإسلامية إلى القوى اليسارية الديمقراطية المحسوبة على الصف العلماني، حيث باتت أعداد كبيرة من منتسبيها ومناصريها وقياداتها إما في السجون والمعتقلات داخل تونس أو في المنافي البعيدة خارج الأرض التونسية.

فالنظام التونسي هو الأشرس بوليسياً والأكثر فساداً في المنطقة ضمن منظومة عائلات وأقارب أكلت الأخضر قبل اليابس. وساعده على ذلك ارتباط أجهزة الأمن التي يمتلكها بعلاقات مباشرة مع العديد من أنظمة القمع في العالم ومع أجهزة الغرب الاستخبارية، بل وتذهب العديد من المصادر لتأكيد مسألة الاختراق المباشر لأجهزة أمن النظام من قبل جهاز (المخابرات الخارجية الإسرائيلية) المعروف بـ (موساد)، وهو ما بان واضحاً في اغتيال الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) في أبريل/ نيسان عام 1988 في منزله بالقرب من حمامات الشط في العاصمة تونس.

لقد بلغت جهود وحدود القمع الأمني في تونس مداها في أكثر من مناسبة مرت على البلاد طوال السنوات التي تلت من وجود زين العابدين بن علي، ووصلت إلى حد التعدي على النقابات والأطر الشعبية والصحفيين والزج بهم في زنازين الاعتقال.

كما وصلت الجهود الأمنية إلى حد تفاخر الرئيس بن علي بأن تونس استطاعت أن تخمد نشاط ووجود حركات "التطرف الأصولي الإسلامي الإرهابي" وذلك في سياق تسويق نظامه أمام الغرب الأوروبي والولايات المتحدة. وذلك على الرغم من نفي الجميع لوجود أي ظاهرة من مظاهر التطرف الإسلامي في تونس، فحركة النهضة التي تمثل التيار الإسلامي العريض في تونس، تتسم بالاعتدال والوسطية، ولم يسجل عليها ارتكاب أي أعمال تطرف خلال العقود الماضية، قبل وبعد فزاعة (القاعدة) والتطرف الأصولي التي أصبحت الشماعة التي تلقى عليها آثام القمع السلطوي الفاشي المسلط على رقاب الناس في العديد من بلداننا العربية وعموم بلدان العالم الثالث خصوصاً البلدان الإسلامية منها، بل ووصلت الأمور في تونس إلى حد تقييد حركة ارتياد الناس للمساجد عبر تخصيص مسجد محدد لكل مواطن، بحيث لا يمكنه الصلاة في مسجد آخر.

إن سمة الاعتدال والوسطية، لم تشفع لحركة النهضة في تونس على سبيل المثال، ولم تنجها من سيف الملاحقة والعقاب، فتعرضت لعملية قمع شديدة، دفعت بقائدها راشد الغنوشي للإقامة في المنافي، وهو ما وقع بحق باقي القوى التونسية بما فيها القوى الديمقراطية اليسارية العلمانية التي تعرضت بدورها أما إلى القمع المباشر كما حصل مع بعض منها، أو إلى المحاصرة والتضييق المستمر في سياق السعي لتدجينها وراء يافطة النظام.

وعليه، فإن غياب الديمقراطية الحقيقية، وغياب الحريات السياسية والنقابية، وطغيان وتغول أجهزة الأمن، وامتداد أذرعتها الأخطبوطية في عموم المجتمع وحياة الناس، كانت بمثابة أسباب بعيدة للانتفاضة التونسية.

الأسباب المباشرة والفرز الطبقي

إن هبّة وانتفاضة شعب تونس الخضراء، جاءت في أسبابها المباشرة، في سياقات التململ الكبير الذي بدأ بالغليان في مرجل المثالب الكبرى التي باتت تدمغ ببصماتها أركان النظام هناك، وعلى رأسها انتشار الفساد والمحسوبية، وازدياد حدة الفرز الطبقي في المجتمع التونسي بين من يبسطون يدهم على مصدر القرار السياسي ويمتلكون الثروة الوطنية ويستولون ويتحكمون بمصادرها وهم قلة، وبين عامة الناس الذين يشكلون البنية التحتية لعموم المجتمع التونسي.

وبالتالي فإن تلك المعادلة ذات الفرز الطبقي الحاد والصارخ، أدت تلقائياً لبروز اصطفافات طبقية (أو لنقل اقتصادية) تبلورت رويداً رويداً، وهي اصطفافات لا مكان لسواد الناس فيها سوى القاع والقعر الاقتصادي في السلّم العام لمعيشة التوانسة وأحوالهم، من الفاقة والعوز والعيش ما دون خط الفقر، وفقدان الرعاية الصحية وخدمات الإغاثة الاجتماعية المفترضة من قبل الدولة.

حتى أصبحت حياة الناس في الشارع والمجتمع، تسير من سيئ إلى أسوأ لأسباب تتعلق بحالة الفساد المستشرية والمترافقة مع تدهور الوضع المعيشي وانفلات الرشاوى وسرقة المال العام، وانتفاخ دور مراكز قوى عسكرتاريا الأمن والمخابرات، في مشهد متكرر يُذكر بنماذج القمع والإرهاب والفساد المستشري في العديد من دول العالم الثالث.

لقد أشعلت حالة العوز والفاقة، والفقر المدقع لقطاعات غالبية الناس الشرارة الأولية التي أدت لاندلاع اللهيب في عموم الأرض التونسية من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، في مشهد يُذكرنا بما وقع في أكثر من بلد في العالم، من الفلبين التي غادرها الدكتاتور فرديناند ماركوس هرباً من شعبه الذي نهض بالرغم من وطأة الضغط والإجهاد المثقل عليه، إلى إيران التي هز شعبها ودحر ركيزة أساسية من ركائز التبعية للغرب الاستعماري في ثورة حملت مضامين اجتماعية اقتصادية جذرية، ومضامين سياسية عميقة انتقلت بإيران من موقع إلى موقع آخر في التشكيلة السياسية الإقليمية والدولية.

ومن جانب آخر، فان أسباباً سياسية إضافية اختمرت وساعدت على تكدس وتراكم الاحتقان اليومي في المجتمع التونسي وعند عموم الناس والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، فما جرى في انتفاضة تونس الخضراء ليس فقط حركة اجتماعية من أجل لقمة الخبز وحياة الناس الاقتصادية (وهي أهداف نبيلة ومشروعة وعادلة وهامة ومباشرة بلاشك)، بل هي أيضاً ثورة شعبية عارمة لها مطالبها السياسية بعد أن باتت تونس ومنذ عقود خلت تدور في فلك بعيد عن مطامح ومشاعر ومواقف غالبية الشعب التونسي وقواه السياسية والوطنية بالنسبة للقضايا السياسية الداخلية والقضايا العربية الجامعة، وفي القلب منها القضية الفلسطينية.

وأكثر من ذلك فقد تحولت تونس في العقدين الأخيرين إلى بلد حيادي (في أحسن الأحوال) بالنسبة للصراع العربي والفلسطيني مع العدو الإسرائيلي، وباتت الوفود الإسرائيلية إليها ذهاباً وإيابا تحت عناوين مختلفة.

إن القوى التونسية معنية الآن بأخذ زمام المبادرة، وأن تعلن على الملأ عن المطالب السياسية للشعب التونسي، بالنسبة للداخل والخارج ولمستقبل تونس، وأن تصيغها بطريقة برنامجية واضحة تمهد للانتقال بتونس من وضع إلى وضع آخر، يؤسس لحالة ديمقراطية حقيقية تستمد روحيتها من خيارات الناس، ومن أهدافهم المطلبية الاجتماعية والسياسية التي رفعوها تباعاً وكل يوم خلال الأسبوعين الماضيين.

سمات الانتفاضة التونسية

إن من أروع سمات الانتفاضة التونسية المجيدة، والتي تسجل لشعب تونس الخضراء، أن شرارات تلك الانتفاضة اندلعت على يد الشعب وبسطائه ومن قبل بأوسع إطاراته حضوراً، من سوق الخضار إلى عموم الميادين، وقد امتدت وانتشرت كالنار في الهشيم، ولم تطلقها القوى السياسية التي كانت منكفئة بشكل عام عن الفعل المباشر في مقارعة النظام تحت تأثير القمع وسياط الاستبداد السلطوي.

فكان الشعب التونسي في انتفاضته العفوية مقداماً وسباقاً على أحزابه، فخرج الشعب عن بكرة أبيه بلا أوامر ولا توجيه ولا قيادة ولا معارضة مستنسخة أو هلامية أو شكلية، خرج بعفوية حقيقية متلمساً مصالحه المباشرة، وعاقداً العزم على انتزاع حقوقه من بين أنياب الطغاة.

إن روعة انتفاضة الشعب التونسي تكمن أيضاً، في امتدادها اليومي طوال الأسبوعين الماضيين ودون برمجة أو قيادة حزبية من فصائل وأحزاب المعارضة، وكأنها حالة منظمة ومسيطر عليها، وهي في ذلك تؤشر على المدايات المتسعة والمترسخة من الاحتقان في صفوف الناس من النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي في عموم البلاد.

إن انتفاضة تونس التي انطلقت من الشارع هي الآن أمانة بيد القوى السياسية التونسية التي سارت معها (ولا نقول التي ركبت موجتها) وذلك للحفاظ على أهدافها ومساعيها، وتجنب أي صفقات قد تجري لوأدها أو لاحتوائها تحت عناوين الإصلاحات التي جاء بها الرئيس بن علي في خطابه الأخير قبل مغادرته تونس فاراً من شعبه، حين قدم التنازلات المتتالية وهو مرتعد عبر شاشات التلفاز بعد أن كان وسم الانتفاضة والمنتفضين بالإرهابيين والأصوليين في خطابه (الديماغوجي) الأول.

فهناك محاولات للالتفاف على إنجاز الشعب التونسي المعمد بدماء شهدائه الأبرار من أبناء سواد الناس، حتى بعيد مغادرة زين العابدين تونس هرباً بطائرة (هليوكبتر) نقلته من القصر الرئاسي إلى مالطا.

إن الدرس التونسي، بليغ، وحاد، وقاطع، وعلى الطغاة استيعابه، فحركة الناس هي التي تكتب التاريخ في نهاية المطاف، مهما استبد الطغاة، ومهما طالت أيديهم وأجهزتهم القمعية رقاب الناس والعباد، ومهما امتلكوا من دعم وإسناد خارجي. فالذين كانوا مع الرئيس بن علي في الأمس القريب رفضوا استقباله اليوم، وتحفظوا على قدومه إليهم.

لقد غادر بن علي تونس وانتهى على الأرجح إلى ركن مهمل خارج تونس كما كان مصير شاه إيران وهيلاسلاسي وفرديناند ماركوس ... لكن النظام بمحتواه السياسي وبتركيبته وبنيته الاجتماعية والاقتصادية التي (حلبت وأمتصت) تونس وخيراتها حتى الجرعة الأخيرة لم يسقط بعد، ومازالت السدة الحاكمة وأجهزتها القمعية (هي هي) حتى الآن، قابعة هناك في أبراجها المهتزة تحت وطأة فعل الشارع التونسي.