خبر تونس ومنها النبأ الأول والأخير ..عريب الرنتاوي

الساعة 08:43 ص|16 يناير 2011

تونس ومنها النبأ الأول والأخير ..عريب الرنتاوي

فجأة ، ومن دون انتظار ، تربعت تونس الخضراء على رأس قائمة أولويات السياسة والإعلام في المنطقة والعالم ، واحتفظت بمكان الصدارة للأسبوع الثاني على التوالي ، حيث "الثورة الشعبية" التي لم تتخذ لنفسها لوناً يميزها على طريقة "الثورات الحمراء" و"البرتقالية" و"الخضراء" وغيرها ، وحيث التغيير يقرع الأبواب ، أبواب تونس والمنطقة برمتها ، ومن حيث لم نحتسب ولم نتوقع ، لا نحن ولا غيرنا ، ولا "التونسيين" أنفسهم.

 

تونس تقدم دروساً بالغة الغنى والتعقيد ، لكل من هو بحاجة لأن يتعلم ، والظاهر تماماً أننا جميعاً بحاجة لأن نتعلم ، بعد أن فقدنا لسنوات وعقود ، قدرتنا على "التعلم" و"الإحساس" و"المبادرة" ، وبعد أن تبلّدت حواسنا ومشاعرنا ، وتلبّد الضباب في عقولنا وفوق رؤوسنا.

 

درس تونس الأول ، موجّه للحكومات ، بألا تركن أبداً للهدوء الذي يخيم على مجتمعاتنا ، فهو هدوء مضلل ، وهو من نوع الهدوء الذي يسبق العاصمة...فلا يطمئنن أحدّ إلى حالة الاستبعاد والاستلاب التي فرضت على مجتمعاتنا وشعبونا ، فلا أحد يدري متى يحدث التحوّل ، ومتى "تفيض الكأس الملآنة" ، ومتى ينقلب السحر على الساحر ، ومتى يتحول الاستجداء من "مهنة" الجماهير المستضعفة ووظيفتها اليومية ، إلى وسيلة الحكام لاسترضاء الشوارع ودرء غضب الجماهير التي قررت على ما يبدو ، أن تشبّ عن كل طوق.

 

درس تونس الثاني ، موجّه لبطانة السوء ، ...التي صوّرت للحاكم أنها وحدها الأكثر إخلاصاً له وللبلاد والعباد ، وأنها الأدرى بمصالح الناس من الناس أنفسهم ، هذه البطانة ، هي أول من ركلها الرئيس التونسي بقدميه عندما اقترب الطوفان من القصر الرئاسي.

 

درس تونس الثالث ، لكتّاب البلاط وشعراء السلاطين وفقهاء الظلام ومثقفي "الريموت كونترول" ، الذين لا همّ لهم سوى التسبيح بحمد أولياء الأمر والنعمة ، لقد رأينا حناجرهم تنتفخ وأوداجهم تكاد تنفجر على المنابر ، فيما أقلامهم التي اعتادوا ملأها بأحبار غيرهم ، لا تكف عن إطلاق رصاصها المسموم في ظهر كل صوت وطني حر وشريف ومعارض...هؤلاء وأمثالهم ، علّمنا الدرس التونسي ، بأنهم أول من يلوذ بالجحور والمنافي ، بحثاً عن ملاذ آمن يقيهم غضب شعوبهم التي طالما اكتوت بنيران ألسنتهم وأقلامهم الصفراء.

 

ودرس تونس الرابع ، موجّه للمعارضات في دولنا ومجتمعاتنا: لا تغيير من دون كلفة...لا تغيير بالمناشدة والبيان والمقال...لكل تغيير في تاريخ البشرية أكلافه ، ووحدها المجتمعات المستعدة لتسديد فواتير التغيير ، هي المؤهلة للخروج من ركودها وسباتها...والتغيير لا يكون بالمواعظ الأخلاقية بل بالالتصاق بهموم الناس ومطالبهم واحتياجاتهم المعيشية ، أما الاكتفاء بالجلوس على مقاعد الوعظ والإرشاد ، فتلكم أقصر الطرق للخراب.

 

ومن بين المعارضات جميعها ، فإن درس تونس الخامس ، يتوجه بشكل خاص ، إلى الحركات الإسلامية ، التي وإن كانت قد ملأت الأرض والفضاء ، وفازت بأعلى الأرقام والنسب المئوية في الانتخابات ، لا يكفي أن تظل هذه الحركات تتحدث بلغة المواعظ والتبشير بالحلال والحرام ، هذا مسموح وذاك ممنوع ، بعد أن ثبت بأن معيار جدية أية حركة سياسية ، هو في قدرتها على التقاط نبض الشارع والتزام أولوياته ، والوقوف في صدارة الصفوف في معاركه ومواجهاتها.

 

تونس تقدم الدرس ، والدرس التونسي جاء على غفلة ، وأحسب أن كثيرين في عواصم كثيرة يفكرون اليوم ، أو يعيدون التفكير في حساباتهم .

 

تونس الخضراء تشعل ضوءا أخضر في نهاية النفق العربي المظلم ، والمأمول ألا تنتهي ثورة الشعب التونسي إلى ما انتهت إليه ثورة الشعب اللبناني في الرابع عشر من آذار عام 2005 ، عندما اختطف الطائفيون وأمراء الحرب وعملاء إسرائيل ، واحدة من أروع الانتفاضات الشعبية وأكثرها تشبّعاً بالدلالات والرموز التي انتهت إلى نقيضها.

 

تونس التي احتلت النبأ الأول ، هي الأكثر ترشيحاً لأن يصدر منها وعنها النبأ الأخير.

الدستور