خبر مع سيدي بوزيد وفرحات حشاد .. علي عقلة عرسان

الساعة 10:31 ص|14 يناير 2011

 

 

مع سيدي بوزيد وفرحات حشاد .. علي عقلة عرسان

 

قبل أعوام قليلة كنت في "سيدي بو زيد"، وفي ضيافة الاتحاد التونسي للشغل.. هناك عشت مع أصالة نضالية لا أنساها، ونقاء شعور وطني وقومي عارم، ووعي نقابي متجدد، واستعداد فعلي لعمل عربي يقوم على التغيير العميق باتجاه الالتزام بالقضايا القومية، ليبني ويحرر ويوحد وينهض.. ومنذ تلك الزيارة سكنت مدينة "سيدي بوزيد" بعض كياني، وبقي جمهورها الذي احتشد بحماسته التي تبعث موات القلب والروح، وتحيي ما نضب من عزم في الأنفس جراء الإحباط والهزائم والممارسات التي تتناقض مع أي شعور قومي، احتشد بحماسة كبيرة ليستمع ويوصل رسالته في الوقت ذاته، فهو يأخذ ويعطي بكفاءة. بقي ذلك الجمهور مشعاً في ذاكرتي.. وكانت كثير من الرموز العربية والتونسية في فضاء تلك القاعة التي كنا فيها، متحدثين ومتلقين، من عمر المختار وعبد الكريم الخطابي وأحمد عرابي ورشيد عالي الكيلاني ويوسف العظمة، إلى عبد الناصر ورموز القومية العربية الكبار.. لكن أبرز الحضور من بين تلك الرموز في نفوس أبناء الجنوب التونسي البهي، كان المناضل الكبير فرحات حشاد، الذي جاهد من أجل استقلال تونس، وأسس الاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1946 فقد حضرت روحه بقوة في قاعة المحاضرات كأنه لم يغب أبداً، وتوهجت شعبيته العارمة بين الطبقة العاملة على الخصوص وكل مكوّنات الشعب التونسي بصورة عامة، كأنه جمر تحت الرماد هبت عليه ريح فكشفته ناراً ونوراً، وتألقت ذكرى اغتياله في ضاحية "رادس" جنوبي تونس العاصمة يوم 5 ديسمبر 1952 على يد عصابة " اليد الحمراء" المكونة من الفرنسيين المقيمين في تونس، تألقت بقوة تلك الذكرى التي بقيت حية مؤثرة وباعثة لحيوية النضال الوطني والمسؤولية النقابية والرؤية القومية.. لم تغب عني كلياً مدينة "سيدي بوزيد" ولا شخصية فرحات حشاد منذ ذلك التاريخ، كان حضوره على الخصوص يتجدد مع كل تحرك شعبي عربي ضد الاستعمار، ومع كل جنازة شهيد تشيَّع في فلسطين.. ومع كل صرخة أم على ولدها، أو زوجة على زوجها، أو أخت على أخيها في حمى التصفيات والاغتيالات وأشكال الدمار.. في العراق وفي أية بقعة من بقاع الوطن العربي.. فحشاد رمز من رموز الأمة في النضال الوطني من أجل التحرير والاستقلال، ورمز نقابي في مجال الدفاع عن الحقوق والحريات وفرص العيش الكريم، والعمل الشريف، ومقاومة الطغيان، في أية حركة نقابية أو "هبَّة" جماهيرية.. واليوم يتجدد حضور حشاد في مقلتي وذاكرتي كما تتجدد فيَّ "سيدي بوزيد"، وأراه مع الشباب التونسي، مع النقابيين والمثقفين في كل المدن والقرى، يقدِّم الصفوف، ويتقدم الصفوف وينادي بالعدل والحرية واحترام الإنسان وحقه في الحياة، والحياة كرامة ومل وأمل، لأن الإنسان أساس البلاد والبناء والتقدم والحضارة، وغاية الغايات في كل السياسات والممارسات.. هكذا هو، وهكذا ينبغي أن ينظر إليه كل من يتحمل مسؤولية ويتطلع إلى منصب ومقام ومكانة.

لقد هزني الدم المراق في تونس العزيزة، وهزتني بقوة الأحداث التي بدأت من "سيدي بوزيد" وعمت التراب التونسي كله تقريباً، وحزَّ في نفسي أن يفضل المرء الموت على الحياة لأنه لا يجد عملاً يعيش منه بكرامة في وطنه الذي لا وطن له سواه.. وعرفت من بعض الأصدقاء أنه يتخرج في تونس سنوياً ما يقرب من سبعين ألف جامعي ولا يجد سوى ثلثهم فقط فرصة عمل.. ووضع انتشار البطالة هذا يختلف عن كثير من أنواع البطالة في البلدان العربية في شيء واحد تقريباً وهو أن معظم الباحثين عن عمل في تونس هم من الجامعيين، بينما نظراؤهم من العرب الذين لا يقلون عنهم من حيث النسبة هم من فئات وشرائح اجتماعية مختلفة.

وقد كان للأحداث في الجزائر، التي تزامنت مع ما جرى في البلاد التونسية، الأثر ذاته لدى أبناء المجتمع العربي الذي يعيش أزمات الغلاء ويشكو من الفساد والممارسات السياسية الفوقية التي لا تنظر إلى حقيقة أن السياسي مكلف ومؤتمن وليس مالكاً ولا حاكماً بأمره.. فكيف ينسى المرء إخوته وهم في المحنة، وكيف لا يثيره البؤس واليأس، ومشهد حراب الأشقاء في صدور أشقائهم.. أياً كانت الأسباب؟! كيف لا يضطرب دمه لذلك أياً كانت المسافة التي تفصله عنهم، والهم الذي يعيشه إلى درجة الامتلاء ويكاد يشغله عن سواه.؟! حزنت لما جرى ويجري، فلست من كوكب آخر، ولا من طينة أخرى غير طينة أخوتي في هذا الجزء أو ذاك من وطني العربي.. نعم وطني العربي ولو كره الكارهون، فأنا وأخي في الجنوب التونسي أو الجزائري أو اللبناني أو اليمني.. في سيدي بوزيد أو في قسنطينة أو في النبطية أو في عدن، في الموصل والبصرة أو في نواكشوط.. نحن جسد واحد إذا أصاب أيَّ عضو فيه داء تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. 

صحيح أنني لست بصدد التدخل في الشأن السياسي التونسي، لا من قريب ولا من بعيد، فذاك أمر محاط بأسلاك السيادة القطرية الشائكة وجدرانها العالية في كل قطر عربي من دون استثناء، فالقطر العربي وسيادته اليوم أولاً ثم أولاً ثم أولاً، والأمة العربية وقضاياها ومصالحها ومشاعر أبنائها آخراً ثم أخيراً، والوعي العربي الذي يتحسس المشكلات على صعيد قومي وإنساني ينبغي أن يُدفن أو يغيَّب، أو يضمُر إلى حد الذبول في أحسن الأحوال والأقطار والسياسات.. وتلك حالة أخذت تنمو في السياسات والمعاملات والممارسات العربية حتى أصبحت نهجاً معترفاً به تقره الجامعة العربية وتدافع عنه، فلا تدخل في الشؤون الداخلية للأقطار والأنظمة مهما كانت الأسباب والنتائج، ومهما كان شأن المتدخل العربي.. حتى لو تدخلت الولايات المتحدة وفرنسا والغرب كله فلا شأن له!!.. فنحن محاطون باسيجة جامعتنا وحساسيات أنظمتنا ووحدانية أقطارنا إلى درجة الاختناق.. وقد اكتسحت هذه الحالة الأنفس والمجتمعات العربية إلى الدرجة التي اضمحلت معها المسؤولية التكافلية العربية وتردت المشاعر القومية والمسؤولية القومية أيضاً، وتضخمت الأنا القطرية المتورمة التي ترفع سيادتها في وجه الأمة العربية، وفي وجه كل من ينادي بشمول الوطن العربي لكل جزء من أجزائه المبعثرة، ويقول إن في وحدة الأمة أو اتحادها أو تقارب أقطارها وسياساتها قوة شاملة، ونهضة واعدة، وفرص عمل كثيرة، وتكاملاً اقتصادياً، واستثماراً للمال العربي الذي يستثمر خارجه وضد مصالحه في كثير من الحالات، وإن في ذلك أفقاً مفتوحاً أمام الأجيال بسعة الجغرافية والتاريخ، وأشرعة الأمل في آفاق الأنفس.. وفي وجه كل من يرفع مقولاتها، ويحلم أحلامها، ويقف بمواجهة الشعار السائد الذي ترفعه الأنظمة العربية بقوة، شعار: " أنا أولاً..".. حتى لو كانت التبعية للأجنبي واقعة وفاقعة.

لست بصدد التدخل في الشأن السياسي التونسي أو سواه، كما أسلفت، لكن شجعني خطاب الرئيس زين العابدين بن علي يوم أمس الخميس 13 كانون الثاني/ يناير 2011 وكلامه الذي يبشر بتوجه جديد، ومعالجة للأزمة التونسية بمسؤولية عالية، وتعهده بتعزيز الديمقراطية والحريات العامة، واعترافه بأن معلومات ضرورية عن أوضاع ومعاناة لم تصل إليه، الأمر الذي ساهم في تفاقم الأحداث، وقوله إنه سيحاسب المسؤولين عن ذلك.. أقول شجعني ذلك على مقاربة الأمل والحلم بإمكانية أن تتوجه أنظمة عربية وحكام عرب إلى تقصي الأوضاع الاجتماعية والمعيشية للناس، وأثر السياسات الداخلية والخارجية وانعكاساتها على المجتمع وأوجه الحياة المختلفة، وشؤون الفساد والمفسدين، لكي لا يفاجأ أي منهم بثورة أو "هبَّة" شعبية يسقط من جرائها قتلى وجرحى، وتلحق جراءها بالممتلكات العامة والخاصة خسائر فادحة، ويتعطل العمل، وتغلق المدارس والجامعات، ويتضرر الاقتصاد، ويهرب ما تبقى من رأس المال الوطني إلى خارج البلاد، وتفتح أبواب أخرى على تدخل الأجانب في الشؤون الداخلية " للقطر ـ السيادة ".. فهل أنا واهمٌ يا ترى أم حالمٌ، أم آملٌ أكثر من اللازم في مثل هذه الحالة.؟! وهل علي، كما قد يقول لي تونسي شقيق، أن أنتظر حتى تُترجَم كلمات الرئيس بن علي ووعوده وعهوده، القريب منها والبعيد، إلى حقائق ووقائع على الأرض، وتنتهي الأزمة التونسية المشتعلة، ونصل إلى عتبة عام 2014، لكي أستخلص من ذلك كله، بعد ذلك كله، " نصائح وأماني وتطلعات و.. و.."، أتدفأ على نارها من برد الأوضاع العربية الذي ينخر العظام ويفتك بالأنام، ومن ثم أزجيها إلى من يمهم الأمر نصائح وبشائر.

كل من التوجهين صحيح، رغبتي في التصديق وترجيح اليقين العاجل لتلافي ما يمكن تلافيه من الأزمات والمشكلات قبل وقوعها.. ونصح شقيقي التونسي، الذي يده في النار، لي، بالتريث والتفكير والتدبر وعدم التعجل والتسرع، والأخذ بالمختمر من الرأي دون العويص منه، وعدم الإقبال على العاجل من الأمور والأحلام والآمال، لأن منطق السياسة يأخذ بالمصالح ولا ينظر كثيراً إلى المبادئ، ويمهل ولا يهمل، ويضع في السجلات ما يستوفيه بعد أوقات وأوقات.. 

حرت في أمري، وعدت إلى قهري.. دم إخوتي وشقاؤهم أمامي، ومصلحة أمتي مهمازٌ بين خاصرتيْ، وسطوة الحكم وشهوته، كما أراهما في معظم الأقطار والممارسات، أمطارٌ من رصاص ورماح وسيوف ومكر وكر وفر، وما هو وراء ذلك وأبعد منه. كان وجعي ينز من عيوني.. حين تذكرت مرة أخرى "سيدي بوزيد" وفرحات حشاد، وقررت أن أبقى معهما في يقظة ومنام، أهتف بما وعته الروح قبل أن يعيه القلب والعقل: لات حين مناص من همٍ وألمٍ، من عملٍ وأملٍ، من حلُمٍ بغُنمٍ بعد غُرم، وتطلعٍ إلى غدٍ أفضل.. وجهاد منه خير الجهاد " كلمة حق في وجه سلطان جائر".. فالحياة بؤس وشقاء من دون فسحة الأمل وشجاعة في القول والعمل، وبعض الناس في كثير من الأوقات جحيم الحياة وشقاء الناس.. فكيف إذا كانت رقاب كل الناس في قبضة حفنة من السُّواس، حكمها قائم، ووعدها عائم، وخيرها نائم.؟!.. فمن يقول كفى، ويقرع الجرس في الظهيرة ليستيقظ الينام؟! قررت أن أبقى برفقة سيدي بو زيد وفرحات حشاد إلى وقت فوق الوقت، وأنا أردد: وقانا الله الشر، وقربنا خطوات وخطوات من الأمن والهدى.. إنه سميع مجيب.

 

دمشق في 14/1/2011