خبر عامان على حرب غزة.. ماذا بعد الصمود ؟! ..مصطفى عياط

الساعة 10:46 ص|13 يناير 2011

عامان على حرب غزة.. ماذا بعد الصمود ؟!  ..مصطفى عياط

 

مرَّت الذكرى السنويَّة الثانية للحرب الإسرائيليَّة على قطاع غزة، أواخر عام 2008، بشكلٍ خافت، حتى أن الكثيرين لن ينتبهوا لها، سواء لكون مآسي ومعاناة الفلسطينيين باتت مسلسلًا متصلًا لا تنتهي إحدى حلقاته حتى تبدأ الأخرى، أو لأن المشهد في غزة قبل الحرب لم يختلف كثيرًا عما بعدها، إلا لجهة حجم الدمار وتفاقم المعاناة، أو لأن "رقعة الألم" قد تمدَّدت بطول العالمين العربي والإسلامي، وأصبح كل قطر منشغلًا بهمومه، إلا أن كل ذلك لا ينفي أن "برميل البارود" الذي يرقد عليه القطاع ما زال على حاله، وأن الفعل الفلسطيني المؤثر، سلبيًّا أو إيجابيًّا، ينتظره العالم من غزة وليس من الضفة.

 

أول الحقائق التي خلَّفتها الحرب، وما زالت قائمة حتى الآن، هي أنه لا سبيل لإطاحة حركة حماس من حكم القطاع، إلا عبر الاحتلال الكامل للقطاع، وتولّي إسرائيل إدارة شئونه اليوميَّة بشكلٍ مباشر، أي أنه لا سبيل لتنصيب إدارة فلسطينيَّة بديلة بينما تتفرَّج إسرائيل من بعيد دون تحمُّل أي تكلفة، عسكريًّا أو ماديًّا، على غرار الوضع الحالي في الضفة الغربيَّة، فالعالم هو الذي يتحمل تكلفة الاحتلال، وتتسول السلطة شهريًّا مرتبات موظفيها، وعندما تدمّر قوات الاحتلال أيًّا من مرافق وخدمات الضفة في اجتياحاتها المتكرِّرة، فإن السلطة تتسول مجددًا لإعادة بنائها، وهو نفس ما تفعله إسرائيل مع غزة، لكنها -على الأقلّ- تدفع ثمنًا معنويًّا لذلك، من خلال الأضرار التي لحقت، وما زالت، بصورتها في العالم، وتصدُّع علاقاتها مع كثير من دول العالم، وعلاقتها مع تركيا خير شاهد على ذلك.

 

خصام لا مصالحة

 

كذلك فإن المعاناة الهائلة التي خلَّفتها حرب غزة وحجم التضامن الواسع الذي أوجدته لم يكن كافيًا لتشجيع حركتي فتح وحماس على إنجاز المصالحة الوطنيَّة، مما يؤكِّد نظرية البعض باستحالة تلاقي برامج الحركتين، فحماس تتبنى خيار المقاومة المسلَّحة ولا ترى جدوى من التفاوض، في حين ألقت قيادة "فتح" بندقيتها وقصرت رهانها على "غصن الزيتون"، الذي تيبَّس في يديها دون أن ترويه إسرائيل أو أمريكا، وحتى المجتمع الدولي، ولو بقطرة ماء واحدة.

 

ليس هذا فحسب، بل أن التحالفات الإقليميَّة لكل حركة أضافت مزيدًا من التعقيد، بحيث صار القرار الفلسطيني مرتهنًا بحسابات أطراف إقليميَّة ودوليَّة عدة، على غرار الحال في لبنان، فقرار الحرب والسلم يسهم فيه الخارج بأكثر من الداخل، لكن اللبنانيين لديهم دولة، ولو ضعيفة، في حين ما زال الطريق طويلا أمام الفلسطينيين.

 

ولعلَّ من يرون أن القرار الفلسطيني فقد الكثير من استقلاليتِه مع رحيل ياسر عرفات والشيخ أحمد ياسين لا يبتعدون كثيرًا عن "كبد الحقيقة"، فالرجلان امتلكا ميزة نسج علاقات وتحالفات مع أطراف عدة، والسماح لبعضها بممارسة قدرٍ من التأثير، لكن في النهاية كانت لديهما القدرة والبوصلة لتحديد المصلحة الفلسطينيَّة العليا، ورسم خطوط حمراء لا يتجاوزها الآخرون، أما الثنائي (مشعل- عباس) فقدرتهما على ذلك أقل، وللإنصاف فإن هجمات 11 سبتمبر وما تبعها، حشر الفلسطينيين، بمختلف فصائلهم، في زاوية ضيقة للغاية.

 

إعمار مؤجَّل

 

ويتماس ملف المصالحة مع ملف آخر لا يقل أهميَّة وهو "إعادة الإعمار"، فرغم مرور عامين على الحرب إلا أن ما خلَّفته من دمار ما زال على حاله، فالعرب ربطوا الأموال التي خصَّصوها لذلك بإنجاز ملف المصالحة المتعثِّر، أما الغرب فرهن ذلك بإنهاء حكم حماس وتسليم السلطة لعباس وحكومته، في حين وقف الحصار الإسرائيلي حائلا دون إتمام المبادرات الشعبيَّة المتعددة، التي أخذت على عاتقها إنجاز المهمَّة، وليس سرًّا أن هناك توافقًا بين إسرائيل والغرب وأطراف عربية على منع حكومة حماس من إنجاز ملف الإعمار، حتى لا يرسخ ذلك حكمها، ويمنحها مزيدًا من الشعبيَّة.

 

وقد كشفت إحدى وثائق "ويكيليكس" المسرَّبة عن وجود توافق أمريكي إسرائيلي على إبقاء الأوضاع الإنسانيَّة في القطاع على "حافَّة الهاوية" دون السماح بالوقوع فيها، بمعنى تمرير الحد الأدنى من الاحتياجات الإنسانيَّة، من غذاء ودواء ووقود، لتجنُّب حدوث كارثة إنسانيَّة تلفت انتباه العالم، لكن دون وفرة تسمح بنمو أو تحسن الأوضاع، بما يقوي شعبيَّة حماس ويطيل حكمها، ومن اللافت هنا أن كافة حملات وقوافل المساعدات الموجَّهَة لغزة تصبُّ في هذا الاتجاه، فهي تحمل الدواء والطعام وقليلًا من الاحتياجات الأساسيَّة، وعندما غامر "أسطول الحرية" بحمل شحنة من مواد البناء، كان مصيره القمع العنيف.

 

استقرار .. تشدد

 

وبالنسبة للأوضاع داخل القطاع فيمكن اعتبار استقرار الأمن وانتهاء مظاهر الفلتان إحدى الإيجابيَّات في سجلّ حكومة إسماعيل هنيَّة، إضافة للجهد الملموس الذي تبذله لتوفير الاحتياجات الأساسيَّة للقطاع وتقسيم عبءِ الحصار على كافة الفئات، حتى لا ينشأ "اقتصاد حرب" تجني قلة من ورائه أرباحًا هائلة عبر امتصاص دماء الغالبيَّة الفقيرة، ولعلَّ تنظيم عمل الأنفاق وفرض ضرائب على أصحابها يشكِّل أحد مظاهر هذا التقسيم، كما بذلت الحكومة جهدًا لا بأس به لتشغيل عجلة الاقتصاد في حدود الطاقة والموارد المتاحة، وسعت لتوفير نوع من الحماية للمنتجات المحليَّة عبر حظر استيراد الأنواع المنافسة من إسرائيل.

 

وفي مقابل ذلك شهد قطاع غزة في السنوات الأخيرة تناميًا مقلِقًا للتيارات الدينيَّة المتشددة، وخاضت حماس نفسها صدامًا دمويًّا مع إحداها، كما وقعت تفجيرات عدة، استهدفت مواقع ترفيه ومقاهٍي للإنترنت تحمل بصمات هذه التيارات، ووجود هذه الجماعات –بأي مكان- لا يحمل في طياتِه أي خير، فهي قابلة للاختراق بسهولة، بل إن معظمها مخترق بالفعل من أجهزة استخبارات وجهاتٍ مشبوهة، كما أن بوصلتها "معوجَّة"، ونيرانها "الصديقة" أشد فتكًا وتنكيلًا من تلك الموجَّهة لصفوف الأعداء، وفضلًا عن ذلك فإن أفكارها تغري البعض بمزيد من التشدُّد، والتضييق على المخالفين لها، بينما النضال الفلسطيني في أشدّ الحاجة لمن يوحّد الصفوف ويجمع المتناقضات، وليس من يزيد الفرقة تشرذمًا.

 

تحدٍّ صعب

 

وأكثر ما يقلق في هذا الشأن التقارير المتواترة عن أن بعضًا من قادة وعناصر هذه التيارات منشقون عن "حماس" وجناحها العسكري، نتيجة لما يعتبرونه تخليًا عن المقاومة بعد وصول الحركة للحكم، ورغم أن حماس تقلِّل من شأن هذه التقارير، إلا أن الواقع يؤكِّد أن هذه التيارات ربما تكون التحدي الأصعب لحكومة حماس، فهي تتحرَّك على نفس أرضيتها الدينيَّة، مما قد يدفع الحركة في بعض المحكَّات لتبنِّي نهجٍ متشدِّد لمنع المزايدة عليها، مما يضرُّ بخطها المعتدل، إضافة إلى أنها قد تغري الفئات الأكثر تشددًا داخل حماس، والمتحفِّظة على بعض القرارات أو المواءمات، بالانشقاق والانضمام لصفوفها.

 

وعلى الجانب الآخر فإن حماس تجد صعوبةً في توسيع حكومتها لتضمَّ ممثلين لفصائل أخرى، وهو أمر متوقع في ظلّ محاولة هذه الفصائل التزام الحياد، ولو ظاهريًّا، في الصراع بين فتح وحماس، لكن المقلق هو الاتّهامات المتكررة لحماس من جانب الفصائل بالاستفراد بحكم القطاع، وقمع أي أصوات تنتقد أو تحتج، ولم تقتصرْ هذه الاتهامات على فصائل منظمة التحرير، بل تردَّدَت أكثر من مرة على لسان قادة حركة الجهاد الإسلامي، وجزء من الاتّهامات يتعلَّق باحتكار القرار السياسي وتهميش باقي الفصائل، لكن الشقّ الأهم يتناول تفرد "حماس" بإدارة المقاومة، وقمع كل من يخالف تعليماتها، وأنها تفعل ما كانت تنكرُه على حركة فتح عندما كانت تدير القطاع، خاصةً ما يتعلَّق بإطلاق الصواريخ.

 

وبشكلٍ عام فإن غزة ما زالت صامدةً بعد عامين من الحرب، ولا تقلقها تهديدات إسرائيل المتصاعدة في الأيام الأخيرة بشنّ حرب جديدة، ربما لأن ما يُخشى فقده قد ضاع بالفعل في الحرب الأولى، وبالتالي فإن التحدي الأكبر يكمن في إصلاح الجبهة الداخليَّة، بإنجاز المصالحة الوطنيَّة، وصياغة استراتيجيَّة مشتركة للتحرير وبناء الدولة، حتى تطلَّ الذكرى الثالثة في أجواء أكثر تفاؤلًا ووحدة.