خبر فلسطين المستحيلة في السياسة المستقيلة ..عبد الإله بلقزيز

الساعة 11:26 ص|10 يناير 2011

فلسطين المستحيلة في السياسة المستقيلة ..عبد الإله بلقزيز

لم تكن السياسة العربية تجاه قضية فلسطين غارقة في الضياع، في تاريخها المعاصر كله، مثلما هي غارقة فيه الآن، بل منذ عقدين من اليوم، لكأنها لا تعرف ماذا تفعل، وكيف تتصرف أمام مشكلة مستفحلة منذ ما يزيد على ستين عاماً، وتزيد استفحالاً في السنوات الأخيرة: بالاستيطان الكثيف الذي يقضم كل يوم ما تبقى من أرض، وبالتهويد المنظم الذي يأتي على شخصيتها التاريخية وهويتها الدينية المتعددة ومعالمها العربية، وبالقتل الذي يحصد الأرواح والقمع الذي يحصد الحريات، وبعبث التفاوض الزاحف الذي يربح الوقت قصد المزيد من تصفية القضية، وبميوعة السياسة الدولية - والأمريكية خاصة - التي تضحك على ذقون العرب والمسلمين باسم التسوية السلمية والمفاوضات، تاركة للدولة الصهيونية أن تكمل مشروعها في سرقة ما لم تسرقه - حتى الآن - من أرض.. برضا أهلها: من السياسيين الفلسطينيين وأشقائهم من العرب المراهنين على "عدالة" أمريكا.

 

ليس الضياع، على الحقيقة، حالة حيرة في السياسة العربية ناجمة من توزعها بين خيارات مختلفة - مثلاً - وترددها في أي الخيارات أنسب، ولا هي ناجمة من تباين في المواقف الرسمية العربية حيال استراتيجية العمل وما يفرضه ذلك من صعوبة في اجتراح سياسة موحدة أو مشتركة، وإنما الضياع اسم آخر - مستعار - للاستقالة الطوعية والإرادية: استقالة السياسة الرسمية العربية من أعباء الصراع العربي - الصهيوني ومن مسؤولياتها التاريخية، السياسية والأخلاقية، تجاه مصير شعب ينتمي إلى الأمة، وأرض تنتمي إلى الوطن الكبير، وهي استقالة تجري بعناوين توحي باستمرار عقيدة "التضامن" مع الشعب المكلوم في فلسطين و"الدعم" لسلطته ومؤسساته، و"إسنادهما" في المحافل الدولية والإقليمية.

 

وقد يميل أكثرنا إلى الظن أن اتفاقية "كامب ديفيد"، التي أخرجت مصر من الصراع العربي - الصهيوني، هي من أطلق هذا النزوع إلى الاستقالة في السياسة العربية حيال قضية فلسطين ومواجهة المشروع الصهيوني، والحق أن هذه الاتفاقية المشؤومة لم تفعل سوى أنها كرست نزعة إلى الاستقالة بدأت قبل توقيعها بسنوات خمس، وإن هي أي "كامب ديفيد" حولت الاستقالة من خيار انكفائي إلى عقيدة راسخة في سياسة عربية تعلمت من "كامب ديفيد" كيف تغلب اعتبارات "المصلحة الوطنية" الخاصة على المصالح القومية المشتركة، وبدأت تتمرن، منذ ذلك الحين: قبل نيف وثلاثين عاماً، على التسوية والتفاوض عملة وحيدة في التداول السياسي.

 

كلنا يذكر كيف تجاوب النظام الرسمي العربي مع مطلب الثورة الفلسطينية ( في قمة الرباط للعام 1974) بالاعتراف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني. كان ذلك انتصاراً للثورة والمنظمة في وجه مشاريع وصائية عربية مثل مشروع "المملكة المتحدة" المطروح في أعقاب مواجهات سبتمبر/أيلول 1970 بين الثورة والأردن التي أنهاها تدخل عبدالناصر قبيل وفاته. لكنها كانت، من وجهٍ ثانٍ، وبالاً على الثورة والمنظمة والقضية لأن العبارة "ممثل شرعي ووحيد" سرعان ما استُثمِرت في السياسة العربية استثماراً سيئاً فصار مدارها على القول إن قضية فلسطين قضية الفلسطينيين في المقام الأول. ومن حينه، بات مألوفاً أن نسمع مواقف عربية من قبيل: إن العرب يقبلون بما يقبل به الفلسطينيون، أو من قبيل: إننا لا يمكن أن نكون أكثر فلسطينية من الفلسطينيين، وما شابه ذلك من مفردات تغطي فعل الاستقالة ب "أهل مكة" الأدرى بشعابها.

 

المنعطف الأكبر في الاستقالة كان بعد مؤتمر مدريد وتوقيع "اتفاق أوسلو" وقيام السلطة الفلسطينية. لم يقف النظام الرسمي العربي موقف اعتراض على هذا الاتفاق المشؤوم، كما كان يفترض نظرياً أو مبدئياً، بحسبانه خروجاً عن برنامج الحد الأدنى العربي حيال قضية فلسطين، الذي رُسِمت قواعده في قمة فاس الثانية (1982) وأعيد التأكيد عليه في قمة بغداد (1989)، وخرقاً فاضحاً لحق تقرير المصير والاستقلال الوطني، وتقزيماً لهما معاً إلى حكم ذاتي لا ضمانة في أن يكون انتقالياً فعلاً لا دائماً بل شهدنا حماسة عربية محمومة في مباركة الاتفاق ذاك والإشادة به، وبالسلطة الخارجة من رحمه، وعده السبيل الصحيح الى نيل الشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية. على أن التهليل بالاتفاق والسلطة لم يعقبه وقوف عربي حازم مع شعب فلسطين ومؤسساته الجديدة في مواجهة معركة "استكمال" الاستقلال الوطني، فقد تُرِك المفاوض الفلسطيني وحده تحت رحمة الضغط الأمريكي والابتزاز الصهيوني، وتُرِك الشعب تحت نير القتل والقمع والحصار والتجويع، ولم يشأ كثيرون غير أن يستفيدوا من أزعومة التسوية ليتسابقوا بالمناكب إلى توقيع اتفاقات تطبيع مع العدو من وراء الزعم أنه بات في حالة "سلام" مع الفلسطينيين.

 

لهذه الاستقالة العربية، اليوم، عنوان عريض هو التسليم المطلق لأمريكا بإدارة المصير الوطني الفلسطيني، والتسليم للسلطة الفلسطينية باتخاذ الخيارات السياسية التي شاءت، أما العرب، فيكفيهم من الموضوع أنهم سلموا القضية إلى أهلها، وأهلُها فلسطينيون حصراً. أما عروبة القضية، فتقزمت إلى عروبة الفلسطينيين ليس أكثر. أما أن "إسرائيل" عدو قومي وتهديد للأمن القومي، فمفردات ناصرية لم يعد لها مكان في عصرنا وفي قاموس سياستنا...، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

صحيفة الخليج الإماراتية