خبر السودان يفقد جنوبه غداً

الساعة 07:34 ص|08 يناير 2011

السودان يفقد جنوبه غداً

فلسطين اليوم-وكالات

صفحة جديدة من تاريخ السودان ستبدأ غداً مع توجه الناخبين في الجنوب إلى المصادقة، من خلال صناديق الاقتراع، على الانفصال عن الشمال، بعدما فشل شريكا الحكم في تحويل الوحدة إلى خيار جاذب وراجح عبر استغلال السنوات الفاصلة بين توقيع اتفاقية نيفاشا، التي حسمت حق الجنوبيين في تقرير مصيرهم، وموعد التصويت عليه.

وحق تقرير المصير لشعب جنوب السودان استثنائي بكل المقاييس، وكما وضع وحدة السودان في مهب الريح

، فإنه سوف يتحول إلى سابقة تواجه العديد من الدول الأفريقية والعربية، وقد انتزعه الجنوبيون بعد سنوات أمضوها في الغابات، يقاتلون الشمال لنزع الاعتراف بخصوصياتهم الثقافية والإثنية والدينية، ومنحهم حق الاختيار بين البقاء في إطار السودان الموحّد أو الانفصال. وستؤدي نتائج الاستفتاء، شبه المحسومة، إلى تقسيم أول دولة عربية منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية، وذلك بعدما حسمت النخبة الحاكمة للجنوب منذ سنوات خيارها بالانفصال، وعملت على الترويج له بين الجنوبيين، مستغلّةً مشاعر الغبن والاضطهاد التي طبعت علاقتهم بالشمال منذ استقلال السودان في عام 1956.

ومن غير المرجح أن يكون الانفصال، الذي سيعيد رسم خريطة جديدة للسودان تقتطع منه ثلث مساحته الإجمالية وتفقده الحدود مع ثلاث من دول الجوار، الفصل الأخير من مسلسل تفتيت السودان، في ظل «أزمة جنوبية» في أكثر من منطقة بدءاً بدارفور، مروراً بالبجا في الشرق، وصولاً إلى النوبة وجنوب كردفان.

بدورها، لن تكون الدول العربية بمنأى عن تداعيات الانفصال، وسط ارتفاع أصوات في داخلها تطالب بمنحها حقاً مماثلاً، بدءاً بالعراق وأكراده الملّوحين برغبتهم في الحصول على حق تقرير المصير، مروراً باليمن وحراكه المصرّ على فك الارتباط بين الجنوب والشمال، ووصولاً إلى المغرب العربي وأزماته.

بدورها، تترقب القارة الأفريقية انفصال جنوب السودان، فيما تستعد لاحتمالات معايشتها سيناريوهات مماثلة، في ظل تطابق العديد من خصائص الأزمة الجنوبية مع بلدانها، التي لم تتمكن حتى اليوم من التخلص من انقساماتها الداخلية، وبناء هويات وطنية تضمن بقاءها بعيداً عن مسلسل الانفصال.

في المقابل، من غير المرجح أن يمثّل الانفصال بوابة لعبور الجنوبيين إلى «جنّات النعيم» التي طالما حلموا بها، على الرغم من محاولة حكومة جنوب السودان استباق ولادة الدولة رسمياً بإعداد نفسها مبكراً للحظة المرتبقة.

ووقعت الحركة الشعبية لتحرير السودان، الحاكمة للجنوب، خلال السنوات القليلة الماضية في عدد من الأخطاء، أثبتت من خلالها عدم استفادتها من العديد من دروس الحرب بين الشمال والجنوب.

وأسهمت هيمنتها على الجنوب ومحاولة إقصاء «الصوت الآخر»، في خروج متمردين جدد عليها، نجحت في احتواء البعض منهم فيما يبدو البعض الآخر مصمماً على مواصلة نضاله ضدها. وتعزز الخلافات القبلية والعنف الدامي الذي يشهده الجنوب بين الحين والآخر، المخاوف من مصير الدولة الجديدة واحتمال تحوّلها إلى دويلات.

وفيما غلبت الاستعدادات الشكلية لولادة دولة الجنوب، من تشييد القصر الرئاسي واختيار النشيد الوطني وتلحينه، لا يبدو أن حكومة الجنوب نجحت في إرساء مقومات الدولة الفعلية، رغم هامش السنوات الست التي منحتها إياها اتفاقية نيفاشا.

ومن المنتظر أن تواجه الجنوب تحديات عديدة في ظل ضعف اقتصاده. ورغم امتلاكه ثروات متعددة، تؤلف عائدات النفط مصدر التمويل شبه الوحيد لحكومة الجنوب. إلا أن التقديرات التي ترجّح نضوب النفط الجنوبي خلال السنوات الـ20 المقبلة حدّاً أقصى، تفرض على الجنوب حتمية الاستفادة ممّا يملكه من موارد للعمل على تنويع مصادر دخله.

وجنوب السودان من أغنى مناطق العالم بالموارد غير المستغلّة، ومنها الأراضي الزراعية الخصبة القابلة لزراعة مختلف أنواع المحاصيل. وفيما تتعدى نسبة الأراضي الزراعية الـ30 في المئة من مساحة الجنوب، فإن المُستغلّ منها لا يتجاوز نسبة 1 في المئة.

وسبق لوزير التجارة والصناعة في حكومة جنوب السودان، استيفن زيو داو، أن تحدث عن الحاجة إلى تحسين مستوى استغلال موارد الجنوب الزراعية، بعدما قدّر حجم الموارد الغذائية الأولية الزراعية التي تستورَد بـ40 في المئة، فيما يستورد 90 في المئة من المواد المصنعة.

بدورها، شددت نائبة رئيس البنك الدولي لمنطقة أفريقيا، أوبياجيلي إزيكويزيلي على أن القطاع الزراعي في الجنوب في ظل الإمكانات المتوافرة له، يمكن أن يكون «ترياقاً مضاداً للعنة النفط التي قد يعانيها جنوب السودان». وحثّت السلطات في جنوب السودان على وضع استراتيجية تسمح بتحويل الجنوب إلى مصدّر للغذاء بدلاً من استيراده.

كذلك يحتوي جنوب السودان على كميات كبيرة من الذهب ومعادن أخرى منها الحديد والكروم والمنغنيز في ولاية شرق الاستوائية، بالإضافة إلى الألماس بولاية غرب الاستوائية. ولا يزال العديد من هذه المعادن غير مستغلّ من حكومة الجنوب، فيما تنتشر ظاهرة التنقيب الفردي عن الذهب.

وتسمح مساحات الأخشاب الشاسعة في الجنوب المقدرة بـ30 في المئة من مساحة الإقليم، بتحويل الدولة الجديدة إلى مصدر للخشب، وتحديداً المهوقي والتيك المصنفين من أجود انواع الخشب عالمياً.

إلا أن تقدم الجنوب باتجاه تنويع مصادر دخله يصطدم بتخلف القطاعات الاقتصادية. هذا التخلف يعود في جزء منه إلى سنوات الحرب الأهلية الطويلة، فيما تتحمل حكومة الجنوب مسؤولية عدم إكمال الاستعدادات خلال السنوات الخمس الماضية.

ويفتقر جنوب السودان إلى قطاع صناعيّ متطوّر، وتغلب عليه صناعات صغيرة، فيما لا يتعدّى عدد المصانع فيه أصابع اليد الواحدة. كذلك فإن القطاع المصرفي في الجنوب حديث العهد، وتسيطر عليه المصارف الكينية.

ويواجه الجنوب معضلة صغر حجم القطاع الخاص ومحدودية نشاطاته، فيما يمثّل غياب البنى التحتية الأساسية عائقاً أمام تسريع عملية التطور.

ورغم تمكن حكومة الجنوب من تشييد ستة الآف كيلومتر من الطرق البدائية، لا يملك الجنوب سوى 60 كيلومتراً فقط من الطرق المعبدة بالإسفلت، ويفتقر إلى المستشفيات، والكهرباء والمواصلات،

ويعاني ارتفاع نسبة الفقر والأمّية حيث تصل الأخيرة إلى التسعين في المئة بين سكانه.

وحده القطاع السياحي يمكن عدّه القطاع الأكثر نمواً بفعل الاستثمارات الأجنبية، وتحديداً الإسرائيلية. أما تعويل الجنوب على تدفق الاستثمارات الأجنبية مع الانفصال للنهوض بمختلف القطاعات الاقتصادية والعمل على تسريع وتيرة التنمية، فيصطدم بعقبات متعددة.

وحذّرت وزيرة العمل في حكومة جنوب السودان، أوت دينق، من أن عملية تنمية الجنوب تواجه معوقات، أبرزها محدودية الموارد التي يفاقمها الفساد الإداري المستشري في الجنوب. وأوضحت أن الموارد العامة تتعرض للاختلاس بانتظام، كاشفةً عن أجور تدفع لكثير من الناس الذين لا وجود لهم.

من جهة ثانية، يؤكد القيادي في الحركة الشعبية لتحرير السودان، اتيم قرنق، في حديث لـ«الأخبار» عزم حكومة الجنوب على بناء اقتصادي قوي خلال المرحلة المقبلة. ويرى أن «جنوب السودان يمتلك موارد ضخمة تمكّنه من أن يصبح دولة»، مشيراً إلى ثروات لم تستخدم بعد، من المعادن والمساحات الزراعية والغابية والمائية والسياحية، وكل هذه الموارد يمكن أن تساهم في بناء اقتصاد الدولة الجديدة». ويؤكد اتيم أن حكومة الجنوب سوف تستغل أموال النفط ومصادره التي يتوقع أن ترتفع ايراداتها بعد الانفصال، لضخها في مشاريع تسمح باستغلال هذه الموارد.

أما في ما يتعلق بموضوع العملة المفترض أن تستخدمها دولة الجنوب بعد الإقرار الرسمي للانفصال، فأوضح قرنق لـ«الأخبار» «أن حكومة الجنوب الآن لا تزال تتفاوض مع حكومة الشمال حول الموضوع، ولا تريد استباق الأحداث». وأضاف «لذلك فإن ما سنخرج به من نتائج في تلك المفاوضات، هو ما يحدد ما يمكن تداوله من عملة، وما إذا كان الجنوب سيستمر في تداول العملة الحالية أو يشرع في طباعة عملة خاصة به».

ومنذ ما قبل اتفاقية السلام، راجت شائعات عن إعداد الحركة الشعبية لتحرير السودان عملة خاصة بالجنوب لتداولها داخل الإقليم سمّيت «عملة النيل»، فيما استبقت حكومة الجنوب اقتراب موعد الانفصال واشترت مطبعة للعملة، انتهت من تسديد ثمنها قبل فترة وجيزة.

من جهة ثانية، يرى الخبير الاقتصادي عبدالرحيم حمدي أنه «من ناحية نظرية وواقعية، يرى قيام دولة في الجنوب أمراً ممكناً». ويوضح أنه «إذا استخدمت المقومات الأساسية المتوافرة في الجنوب، وبالأخص الموارد الطبيعية، بما في ذلك مخزون مياه الأمطار ومخزون النفط، فإن حكومة الجنوب ستتمكن من بناء اقتصاد دولة». لكنه يشير إلى مجموعة من التحديات التي يجب مواجهتها، في مقدمها اقتناع حكومة الجنوب بضرورة ادخال مواردها في الدورة الاقتصادية.

وأوضح وزير المال السابق لـ«الأخبار»، أن الدولة الجديدة «تحتاج الى قاعدة من المتخصصين من مختلف المستويات، وكوادر فنية ليست متوافرة كما يجب» في الجنوب.

ورغم أن الكثافة السكانية في الجنوب ليست كبيرة مقارنةً بالمساحة، يحذّر حمدي من أن تركيبة السكان غير المتجانسة والتي تسودها قبليات، تقوّي احتمال نشوء نزاعات في ما بينها، لتمثّل تهديداً للدولة من جهة، وسبباً في هروب المستثمرين من جهة ثانية. ويرى أن «المهمة الأساسية لدولة الجنوب خلال المرحلة المقبلة، يجب أن تركز على توحيد السكان ودفعهم باتجاه أهداف موحدة ليتساموا فوق خلافاتهم»، لأن التأخير في عملية البناء الوطني، سينعكس حتماً على الوضع الاقتصادي. بدوره، يرى المحلل الاقتصادي، عصام بوب، أن «فرص الجنوب في تكوين دولة اقتصادية تمكّنه من الاستمرار كبيرة جداً مقارنةً بشمال السودان؛ فهناك تدفقات لرؤوس أموال كبيرة من دول عديدة تتجه إلى الجنوب»، لكنه شدد على أن «النمو الاقتصادي تتحكم فيه عوامل عديدة، ويتطلب اقامة نظام حكم ديموقراطي رشيد بوصفه الشرط الأساسي الذي سيسمح باستمرارية النمو والتقدم الاقتصادي للجنوب». ويؤكد لـ«الأخبار» أن عائدات النفط وتدفّق الاستثمارات الأجنبية وتحسين فرص السياحة، يمكن أن تجعل دولة الجنوب في حال اقتصادي جيد خلال وقت وجيز، لا يزيد على خمس سنوات. لكنه شدد في المقابل، على أهمية تمكن الدولة الجديدة من «تقليص الفساد، حتى لا ينسحب الستثمرون».

كذلك يشير بوب إلى أهمية «خفض الإنفاق الحكومي، وخصوصاً الإنفاق العسكري، لانعكاساته الإيجابية على صورة الجنوب»، نظراً لاستحواذ مرتبات العكسريين المنضوين في الجيش الشعبي على جزء كبير من موازنة حكومة الجنوب.

ويشدد بوب على أن الخطوة الأولى لتحقيق ذلك تتمثل في «بناء هياكل ومؤسسات دستورية وقانونية قوية»، وهذا لا يكون إلا بإحلال جهاز قضائي متين ونزيه، يقلّل من احتمالات انتشار الفساد السياسي والاقتصادي ويسمح للدولة الجديدة بالاستمرار.