خبر اليماني.. أبو ذر فلسطين- معن بشور

الساعة 08:48 م|05 يناير 2011

اليماني.. أبو ذر فلسطين- معن بشور

 

كنا على مقاعد الدراسة الثانوية فالجامعية حين كان اسم أبو ماهر أحمد اليماني ومعه اسم أبو عدنان عبد الكريم حمد قيس يترددان على مسامعنا كرمزين للعناد في الحق الفلسطيني وللصمود في مواجهة العذابات الفلسطينية.. وكانا أيضاً رمزين لسوء معاملة بعض الأجهزة الأمنية اللبنانية للاجئين الفلسطينيين حيث ما كان احدهما يخرج من السجن حتى يعود إليه لوحده أو مع رفيقه الآخر...

ومنذ تلك الأيام، كان اسم أبو ماهر اليماني مقروناً لدينا بالعودة والتحرير فلسطينياً، وبالوحدة والتقدم عربياً، وبقي الرجل أميناً لصورته الأولى فلم تغيّره الأيام ولا أغرته المناصب ولا أتعبته المحن ولا أرهقته الأزمات الوطنية منها أو التنظيمية.

سيرة الرجل غنية طويلة مليئة بصفحات عاطرة من كفاح شعب فلسطين قبل النكبة وبعدها، فيها الصفحة النقابية والصفحة الحزبية والصفحة السياسية والصفحة الوطنية والصفحة القومية، بل فيها أحرف يختلط فيها الدم بالنور، الريادة بالشهادة، الفكر بالنضال، والصبر بالإيمان.

ولكن في هذه السيرة التي يستحق كل فصل من فصولها كتاباً كاملاً أقف أمام ثلاث صور لأبي ماهر اليماني لا بد من تظهيرها لتكون قدوة لأجيال قادمة من أبناء فلسطين والأمة.

الصورة الأولى هو أن أبا ماهر اليماني حرص أن تكون حياته اليومية صورة عن قناعاته، فرفض أن يتمتع يوماً باي من الامتيازات التي يعتبرها البعض حقاً من حقوق القيادة وقد وصل ابو ماهر إلى أعلى مراتبها في تنظيمه (الجبهة الشعبية) أو في منظمة التحرير الفلسطينية ، فآثر الحياة البسيطة البعيدة على التكلّف والاستعراض والأبهة مدركاً أن المناضل الحقيقي هو الذي يبقى قريباً من شعبه في مواقفه كما في سلوكه، في مبادئه كما في أسلوب حياته.

كان بحق أبا ذر فلسطين يقاوم بشجاعة وصلابة حيتان الفساد من حوله.

الصورة الثانية إن أبا ماهر اليماني رغم مبدئيته الصارمة، وجذريته الواضحة، ومواقفه القاطعة، وربما بسببها، كان نموذجاً للسان العفيف والتعبير النظيف، واللغة الرصينة، فلا يخرجه خلاف مهما اشتد عن أدب الحديث، ولا يؤدي به أي نقاش مهما احتدم إلى أن ينزلق في لغة الشتائم والتجريح...

بل كان تهذيبه يحرج خصومه أحيانا أكثر من مبدئيته وعناده في الحق. لذلك لم يترك في علاقاته مع الآخرين ندوباً أو جروحاً أو أحقاداً، فكسب احترامهم حتى لو لم يكسب ودهم.

الصورة الثالثة هي تسامح الرجل مع المسيئين إليه، وتعاليه عن الجراح مهما بلغت قسوتها، إذ أن القضية التي يحملها كانت تعلو عنده فوق كل المماحكات والإساءات.

فلقد ظن كثيرون إن أبا ماهر من فرط ما لاقى من قسوة ومضايقات من قبل بعض الأجهزة الأمنية، سيكون أول المنتقمين منها مع تبدّل حال الثورة الفلسطينية في لبنان في السبعينات، فإذ به داخل القيادة الفلسطينية اشد المنتقدين لأي خطأ أو تجاوز أو ممارسة مسيئة بحق أي لبناني أياًً كان موقعه أو انتماؤه أو حتى موقفه.

كان يعتقد إن الانضباط هو شرط المقاومة على ذاتها قبل أن يكون شرط أحد عليها، وكان يظن إن شعب لبنان بكل ألوان طيفه الاجتماعي والسياسي له دين كبير في عنق فلسطين ويجب أن يكون سلوك أي فلسطيني محكوماً بمنطق الوفاء لهذا الدين، دون أن يعني ذلك طبعاً تخلي الشعب الفلسطيني عن حقوقه السياسية والمدنية والاجتماعية مؤكداً إن إسقاط مشاريع التوطين (التي بدأ حياته النضالية في المخيمات مقاوماً عنيفاً لها باعتبارها مشاريع تصفية قضية فلســـطين) لا يتم إلا من خلال العودة والتحرير.

الحديث عن الحبيب أبي ماهر يطول ويطول وآخره كلماته الأخيرة وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة في المستشفى: أريد أن أعود .. أريد أعود... اتركوني أعود....

رحم الله أبو ماهر المناضل والقائد والإنسان.

برحيلك أبا ماهر اكتمل اللقاء الرباعي مجدداً: احمد اليماني، أنيس صايغ، رفعت النمر وشفيق الحوت... بل بهذا الرحيل تعود إلى رفاقك الدائمين الحكيم جورج حبش والدكتور وديع حداد والمبدع غسان كنفاني، الذين اشتقت اليهم.. كما اشتاقوا إليك كثيراً ومعهم كل شهداء فلسطين وفي مقدمهم شقيقك محمد وقد كان من أوائل الشهداء في الثورة الفلسطينية المعاصرة.

 

القدس العربي/ مفكر لبناني