خبر كتب مصطفى إبراهيم ...الجثث تطايرت في الهواء

الساعة 11:36 ص|28 ديسمبر 2010

كتب مصطفى إبراهيم ...الجثث تطايرت في الهواء

محمود أحمد ذهب لتلميع حذائه.. فنجا

حسين احمد 28عاماً، من سكان بيت لاهيا، أعزب، شرطي برتبة مساعد في شرطة غزة منذ أربع سنوات، حاصل على بكالوريوس آداب، لا ينتمي لحركة حماس عمل في الشرطة لعدم وجود بديل آخر للعمل، في ساعات الفجر الاولى من يوم السبت الموافق 27/12/2008، استيقظ في الساعة الخامسة فجرا وصلى صلاة الفجر، وبدأ يستعد للتوجه الى مكان عمله في مقر قيادة الشرطة في مدينة عرفات بغزة (الجوازات)، حيث كان في دورة تدريبية للإفراد مدتها شهرين مضى منها 21 يوماً، في الدورة يتم تدريبهم تمارين رياضية عسكرية على الاحتمال وعلى العلوم الشرطية وكيفية التعامل مع الناس.

 

في الساعة السابعة من صباح يوم السبت 27/12/2008، خرج من بيته كالعادة، كان ينتابه شعور بالخوف والقلق وشعور غريب، ويقول كنت متوقع أن تقوم اسرائيل بقصف الجوازات حيث كانت تهدد بضرب غزة، ويدلل على كلامه انه خلال الأيام السابقة لبدء القصف كانت هناك 4 ( زنانات) طائرات استطلاع تحلق فوق مبنى الجوازات طوال اليوم وبشكل دائري، كان عليه أن يصل الى مكان عمله في الساعة السابعة والنصف، قبل الثامنة موعد بدء الدورة.

 

في الجوازات كان أكثر من دورة لإفراد الشرطة والضباط والخيالة والبرتوكول بما فيها الفرقة الموسيقية للشرطة، الدورة الذي كان يشارك فيها حسين احمد كان عدد أفرادها 200 شرطي، وكان في نفس الوقت دورة للضباط عددهم نحو 400 ضابط، وهؤلاء غادروا في الساعة العاشرة صباحا قبل موعد القصف الإسرائيلي، وكان أيضاً طابور عرض لـ 15 شرطياً من شرطة الانضباط المسؤولين عن الشرطة وسلوكهم وانضباطهم في العمل، و50 من شرطة حفظ النظام والتدخل السريع، ودورة للخيالة والفرقة الموسيقية للشرطة وعددهم 20 شرطياً.

 

في الساعة الثامنة صباحاً طلب (المدرب)الضابط المسؤول عن الدورة الذي يشارك فيها حسين من أفراد الشرطة المشاركين في الدورة الوقوف في الطابور، وقام بالتفتيش على الأفراد، وعلى ملابسهم والأحذية ونظافتها وترتيبها، واستمر الطابور نصف ساعة، وانتظروا حتى الساعة التاسعة حيث خرجوا للجري من الجوازات من شارع جمال عبد الناصر، وهذا تدريب يومي يقوم به المشاركين في الدورة، واستمر الجري نحو ساعة حيث توجهوا من الجوازات الى السرايا في وسط مدينة غزة، وعادوا من شارع عمر المختار، حتى وصلوا الى الجوازات، وعادوا ودخلوا في طابور تكويني استمر ساعة تقريبا.

 

وسمح المدرب لهم بالراحة مدة عشر دقائق، وفي حوالي الساعة العاشرة والنصف عادوا للتدريب، واستمر التدريب نصف ساعة وأعطاهم المدرب فترة راحة حتى الساعة 11:20، وبعد أن اصطفوا في الطابور، طلب المدرب من حسين أن يخرج من الطابور ويذهب لترتيب ملابسه وينظف حذاؤه، وطلب حسين من زميل له أن يعطيه دهان لتنظيف حذاؤه، لأنه لم يكن معه دهان، وذهب الى المبنى المقابل لساحة التدريب، واخذ من حقيبة زميله دهان الأحذية ونظف حذاؤه، وأراد العودة الى التدريب، يقول حسين كان الوقت يمر طويلاً، وكان شعور بالقلق والخوف ينتابه، وفي الساعة 11:27 دقيقة، يؤكد على هذا الوقت، وقبل أن يتحرك من مكانه سمع صوت صفارة مرتفع، ونظر الى السماء فشاهد صاروخين ضخمين وطويلين ينزلان من السماء، فصرخ على زملاؤه الذين كانوا بالقرب منه في المبنى ويقدر عددهم بنحو 20 شرطيا،  وقال لهم صواريخ، فهربوا جميعا باتجاه البوابة الجنوبية لمبنى الجوازات وشاهد الصاروخين وهما يسقطان في وسط زملاؤه الذين كانوا مصطفين في الطابور في ساحة التدريب، وشاهد جثثهم وأشلائهم وهي تتطاير في الهواء، وسقط على الأرض، وسقط فوقه زملائه، ويضيف في نفس الوقت سقط صاروخين آخرين في ساحة التدريب على أفراد الشرطة مباشرة، وسقط صاروخ خامس على البوابة الغربية للجوازات، واستطاع الوقوف والاستمرار في الجري خارج المبنى الى أن وصل الى الاشارة الضوئية على مفترق جامعة الأزهر، وبعد ذلك شعر انه مصاب في قدمه اليسرى والدماء تنزف من قدمه.

 

وتوجه الى مستشفى الشفاء للعلاج، وكانت إصابته متوسطة، ومكث في المستشفى عدة أيام للعلاج، وبعد ذلك عاد للبيت، وعلم أن 10 من زملاؤه في الدورة قتلوا وعدد منهم أصيب لا يعرف عددهم، وقال أن الطائرات الإسرائيلية استهدفت ساحة التدريب والصواريخ قتلت 80 من أفراد الشرطة في ساحة التدريب وأنها لم تستهدف أي مبنى من مباني الجوازات، وقد قتل عدد من أفراد الفرقة الموسيقية من بينهم مغني الفرقة الموسيقية صهيب عبد العال، وحسن أبو شنب ابن القيادي  في حماس إسماعيل أبو شنب.

 

حسين عاد الى عمله في الشرطة بعد ثلاثة اشهر، لكنه رفض العودة للعمل في نفس المكان الذي أصيب فيه وقتل عدد من زملائه، لان المكان يذكره بهم والحادث ومنظر الجثث وهي تتطاير في الهواء لا تفارقه، ويظل يتذكر الحادث، حسين لا يزال يشعر بالقلق والخوف، ويقول أن عدد من زملائه تلقوا العلاج النفسي، لكنه بالرغم من حالة الحزن والخوف رفض تلقي العلاج النفسي.

 

الجثث أعدت للدفن

 

والد هناء المبحوح اعتقد أن الجثة التي في ثلاجة الموتى هي جثتها وجثة شقيها، فاخذ الجثتين معه للبيت

 

هناء سكان مخيم جباليا للاجئين، من قرية بيت طيما التي تبعد عن مدينة غزة نحو 20 كيلومتر عمها الشهيد محمود المبحوح، الذي اغتيل على أيدي عملاء الموساد في يناير 2010 في دبي.

 

متزوجة لديها أربع أولاد وبنتين، تقول في ذلك اليوم لم أسمع صوت طائرات أو انفجارات، وتعود بذاكرتها عامين الى الوراء، وعلامات الحزن على وجهها، ولم تخفي حزنها على وفاة شقيقها وزميلاتها التي لم تعرفهما إلا من فترة قصيرة، وتتذكر زميلتيها اللاتي استشهدن وهن حوامل، نازك حامل في الشهر الثالث واستشهدت جراء إصابتها في الرأس، وهدى حامل في الشهر السابع وأصيبت في البطن، قالت ذلك اليوم لن أنساه مازلت حية.

 

جلست هناء حسن المبحوح 30عاماً،  في بيتها الذي لم يكتمل بناؤه وأثاثه مع وزجها واثنين من أبنائها، احد أبنائها في الخامسة عشرة من عمره احضر الشاي ولم يجد طاولة لوضع أكواب الشاي عليها، فوضعه على طاولة صغيرة من البلاستيك..

 

 قالت في يوم الجمعة السادس والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر 2008، خصصته لأولادها وبناتها في مراجعة دروسهم استعداداً لامتحانات نهاية الفصل الدراسي الأول، وفي الساعة السابعة من صباح السبت السابع والعشرين من كانون أول/ ديسمبر 2008، خرجت من البيت وتوجهت الى مكان عملها في مدينة غزة  في الشرطة (جهاز الأمن والحماية) في حكومة غزة بعد أن حضرت طعام الإفطار لأولادها وبناتها، وساعدتهم في ارتداء ملابسهم، واطمأنت إلى أنهم  توجهوا الى مدارسهم، تضيف كان صباح اليوم هادئ وعادي، في ساعات الصباح الباكر الشوارع تكون خالية، إلا من بعض المارة والسيارات القليلة، فالطلاب والطالبات توجهوا الى مدارسهم والموظفين لم يتوجهوا لاماكن عملهم، إذ أن يوم السبت يكون إجازة أسبوعية في المؤسسات الحكومية والأهلية. 

 

لم يمضي على وجودها في مكان عملها الجديد سوى شهر، فهي بدأت العمل في بداية شهر كانون الأول/ ديسمبر 2008، أي قبل شهر من العدوان على غزة، قالت  كنا في المقر الرئيس لمكان عملها، المقر الذي استشهد فيه 75 شرطيا من بينهم مدير شرطة الأمن والحماية، في  ذلك اليوم كن سبع نساء من أصل 20 امرأة يعملن في جهاز الأمن والحماية، يعملن بنظام الدوريات، كن سعيدات، أضافت كنا نفكر في اليوم الذي سنتلقى فيه رواتبنا، أول مرة اعمل فيه وخاصة أنني لم أتوقع أن اعمل في الشرطة في جهاز الأمن والحماية، ومعناه الأمن المسبق، لحماية الشخصيات والضيوف.

 

المقر الرئيس يقع على شاطئ البحر بجوار المنتدى مقر الشهيد ياسر عرفات، لم يكن لدينا عمل مهم، نثرثر بأشياء نسائية والحلم بالراتب، مر الوقت وبدأنا في تحضير الطعام لتناول الإفطار، ونتحدث عن أحلامنا وآمالنا، ماذا سنفعل بأول راتب سنتلقاه؟ كل واحدة من النساء السبعة كانت تتحدث عن ماذا تفعل في الراتب خاصة أنهن جميعا متزوجات، وسيساعدهن الراتب في تخفيف الأعباء المادية الصعبة، حيث كانت تجهز لتأثيث بيتها الذي لم يكتمل.

 

وتتوقف عن الحديث لحظة وتتذكر، كانت الساعة 11:00 صباحاً، بعد أن انهينا طعام الإفطار وبدأن في تنظيف مكان الأكل، وعدن للحديث، تقول لم أسمع صوت طائرات أو أصوات انفجارات، أفقت من الغيبوبة القصيرة وشاهدت الدماء تنزف من رأسها، ولم تستطيع الحركة، وزميلاتها حولها ملقيات والدماء تنزف منهن والغبار يغطي المكان، وحضر شخص وسألته ماذا حدث، وكيف؟ ودخلت في غيبوبة مرة أخرى، و لم تفيق إلا في مستشفى الشفاء وحولها عدد من الجريحات من زميلاتها، ومن نساء لا تعرفهن، كان ذلك عند الساعة الخامسة من مساء السبت الموافق السابع والعشرين من كانون الأول / ديسمبر 2008، اليوم الأول للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الذي استمر 22يوماً، و أوقع نحو 1500 قتيل وقتيلة، وتدمير وهدم ألاف المنازل وتشريد آلاف السكان الفلسطينيين.

 

أخذت هناء بالتذكر وعلى وجهها ابتسامة خوف وحزن شاردة، وتقول لم أجد أي من عائلتي حولي تذكرت أولادي وبناتي، ابتسمت مرة أخرى وهي تقول، والدي أخبرني بعد أن عدت من الأردن حيث تلقيت العلاج في مستشفى الملكة علياء ومكثت في الأردن مدة ثلاثة اشهر، حيث تم تحويلي للأردن بعد خمسة أيام من الإصابة التي كانت خطيرة، وأنا الان أتحرك، ووضعي الصحي جيد، وبعد أن تعافيت من الإصابة، أي بعد خمسة أشهر إستطعت العودة الى العمل بعد أن عدت الى وضعي الصحي، لكنني ما زلت أشعر بالأم في ظهري وركبتاي، على الرغم من أن إصابتي كانت خطيرة في الرأس والظهر وتقطيع الأربطة في الركبتين.

 

وقالت وعلى وجهها ابتسامة حزينة فقد وقع مع العائلة حدث حزين ومبكي ومفرح في ذات الوقت، أخبرها والدها فيه، انه في حوالي الساعة الثانية بعد الظهر بعد أن علم والدها بقصف مقر الشرطة الذي كانت تعمل فيه هي  وشقيقها محمد 27عاماً (علمت باستشهاده بعد خمس أيام من إصابتها) ضابط برتبة ملازم أول متزوج ولديه ولدين، ولم يعودا للمنزل، توجه والدها الى مستشفى الشفاء بمدينة غزة، ليطمئن عليهما، وسال عنهما، ولم يجدهما، فتوجه الى ثلاجة الموتى في مستشفى الشفاء، وهناك شاهد جثة شقيقها محمد بين الجثث الكثيرة والملقاة على الأرض في الثلاجة، وشاهد جثة زميلتيها في العمل نازك وهدى بين الجثث هدى سكان مخيم جباليا تعمل معها في نفس المقر، وتشبهها كثيراً، فقام والدها بنقل جثة شقيقها محمد، وجثة زميلتها هدى التي كانت حامل في الشهر السابع اعتقادا منه أنها جثة إبنته.

 

والدها نقل الجثتين جثة ابنه محمد وجثة زميلتها الى منزل العائلة في جباليا تحضيرا لدفن الجثث، وتضيف كما سمعت من والدها، أثناء التحضير للدفن، وأولادها يصرخون ويبكون، وبعد مرور نحو ثلاث ساعات شاهدها احد جيرانهم في المستشفى، واتصل بعائلتها واخبرهم أنها في المستشفى مصابة وتتلقى العلاج، وبالرغم من الحزن الشديد على استشهاد شقيقي، اخبرني والدي أن الخبر بأنك حية ولم تتوفي خفف من الحزن والألم بوفاة شقيقك محمد، وتحول الحزن والصراخ والبكاء إلى فرح، وقامت العائلة بإعادة جثة زميلتها إلى مستشفى الشفاء بمدينة غزة

 

 

طلبت أن يرفعوا الجثة التي فوق جثتها

هدى النجار شرطية ، والد هناء المبحوح نقل جثتها الى البيت عن طريق الخطأ

 

بعد عودة هناء المبحوح من العلاج في الأردن ذهبت لأهنئها بالسلامة، ومعرفة كيف استشهدت زوجتي هدى النجار، هكذا بدء محمد زهد زوج الشهيدة هدى النجار، محمد لا ينتمي لحركة حماس ولا يهتم بالسياسة، لم يخفي حزنه عليها والأيام الصعبة التي عاشها بعد وفاتها، وما زال يتذكرها، قال هناء أخبرتني أنها تعرفت عليها قبل شهر من استشهادها، لكنها تحدثت معها في صباح يوم استشهادها عن موعد تلقي الراتب وعن أحلامها، وفي حوالي الساعة 11:00 من صباح 27/12/2008، سرحت بخيالها، وقالت لها اتركيني أحلم، ووضعت يديها تحت رأسها على الطاولة، وبعد ذلك لم تراها ولم تسمع منها عن أحلامها البسيطة، وهي سداد الديون المتراكمة عليها وزوجها واستئجار بيت جديد بدل البيت الذي تسكنه مع زوجها على سطح عمارة مكونة من أربع طبقات ومسقوف بالاسبستوس وأرضيته من الباطون، والادخار لشراء سيارة صغيرة من نوع ماتيز الكورية الصنع التي كانت تطلق عليها اسم (البوت) لأنها تشبه الحذاء الرياضي.

 

هذه هي أحلام هدى هاني النجار/ زهد 22 عاماً – متواضعة وبسيطة ولم تكتمل- هدى كانت طالبة في كلية التربية في جامعة القدس المفتوحة في السنة الثانية، وحامل في الشهر السابع، يقول زوجها محمد زهد 30عاماً، يعمل حلاق في صالون خاص به، ويدر عليه دخل شهري نحو 1500 شيكل شهرياً، يدفع منها 500 شيكل بدل إيجار للبيت، و400 شيكل بدل إيجار صالون الحلاقة، محمد قال حياتنا كانت صعبة لكنها كانت سعيدة.

 

هدى بحثت طويلا عن عمل من أجل مساعدته في التغلب على مصاعب الحياة وسداد ديونه، ودفع بدل رسومها الدراسية في الجامعة، والمساعدة في مصروف ابنتهما شهد التي ولدت في  12/2/2007، عمرها الان ثلاث سنوات وعشرة أشهر، لم تفكر في أي يوم العمل في الشرطة في جهاز الأمن والحماية الذي بدأت العمل فيه بداية شهر 12/2008، لكن في ظل عدم وجود بديل عملت في هذا الجهاز وكانت سعيدة.

 

لم تفكر في شيئ سوى مساعدة زوجها وإسعاده وتحقيق أحلامها، كانت حكيمة وهادئة واكبر من سنها، حيث تزوجها، وعمرها 20 عاماً، ولدت في السعودية وعاشت هناك حتى عادت مع عائلتها الى قطاع غزة في بداية سنوات التسعين من القرن الماضي، ماهرة في الطبخ، وصناعة الحلوى والكيك، محبوبة من عائلته مع أنها من عائلة أخرى غير عائلته، يضيف محمد، كانت تحب حركة حماس، ولن انسي يوم الجمعة 26/12/2008، كان يوم جميلا وسعيدا بالنسبة لي ولها، كان من أجمل أيام حياتي معها، صنعت لي الكيك بالشوكلاته لأنني أحبها، وسهرنا حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وتحدثنا في أشياء كثيرة.

 

وفي صباح السبت الموافق 27/12/2008، استيقظت من النوم مبكرة وقامت بتحضير طعام الإفطار لي ولها ولابنتنا شهد، وبعد أن غيرت لها ملابسها، جهزت نفسها للتوجه الى مكان عملها في الأمن والحماية بجوار منتدى الرئيس الراحل ياسر عرفات الواقع على شاطئ بحر مدينة غزة، وخرجت من المنزل في الساعة 7:15 صباحاُ، وأنا أخذت ابنتي شهد عند أهلها القاطنين في مخيم جباليا، وبعد ذلك توجهت الى مكان عملي في الصالون الحلاقة.

 

وفي الساعة 11:30 بدأت أصوات الانفجارات تهز مخيم جباليا، وبعد قصف موقع الأمن الوطني شرق جباليا بجوار مبنى الإدارة المدنية سابقاً، حيث تسكن عائلتي، توجهت الى منزل عائلتي وبعد الاطمئنان عليهم، عدت الى البيت، لم يخطر ببالي على الإطلاق أن زوجتي قد تكون أصيبت أو قتلت، وقد تعطلت شبكة الهاتف النقال والهاتف الثابت، ولم أتمكن من الاتصال بها، وبدأت أقلق عليها، وكان الوصول إلى غزة مخيفاً وصعباً، وفي حوالي الساعة الخامسة مساء توجهت أنا وشقيق زوجتي الى مدينة غزة، ولم نتمكن من الوصول الى مقر شرطة الجوازات وشرطة الأمن والحماية على شاطئ البحر، وبعد سماعنا أن المكان قصف، توجهت الى مستشفى الشفاء بمدينة غزة، ولم يساورني أدنى شك أنها أصيبت، لأنني لم اسمع عن مقتل نساء، ومع ذلك توجهت الى المستشفى بمدينة غزة، وكان الدخول الى الأقسام صعب جداً، الازدحام شديد والفوضى عارمة، وأعداد كبيرة من الجرحى، فتوجهنا الى ثلاجة الموتى وكانت الساعة السادسة مساءً، وشاهدت عدد كبير من الناس على باب ثلاجة الموتى، ومع ذلك لم اشك للحظة أنها قد تكون قتلت، وحاولت أن ادخل الى مبنى ثلاجة الموتى إلا أن الموظفين منعوني من الدخول بسبب وجود جثث لنساء استشهدن، فبدأ الشك والقلق يدخل الى قلبي، وقلت لشقيق زوجتي سأدخل الى الثلاجة، ومنعوني مرة أخرى من الدخول إلا أنني أخبرتهم أن زوجتي موجودة في الثلاجة، فسمحوا لنا بالدخول، وكان عدد كبير من الجثث للقتلى ملقاة في غرفة ثلاجة الموتى، ولم يكن في الثلاجة إلا جثتين لإمراتين فوق بعضهما، فقال لي شقيق زوجتي أنها غير موجودة، لكنني قلت له أن جثتها تحت الجثة الأخرى، وكانت يدها مدلاة وظاهرة فقلت لشقيقها هذه جثة هدى وعرفتها من يدها، فحاول إقناعي بأنها ليست هدى، فقلت له ارفع الجثة الملقاة فوق جثة هدى فقام شقيقها برفع الجثة فكانت جثة هدى، ولم أتمالك نفسي من البكاء، وخرجت من ثلاجة الموتى، ولم استطع النظر إليها مرة أخرى، وقام شقيقها بالاتصال بشقيقه، وابن عمه واحضروا سيارة ونقلنا جثتها الى بيت عائلتها في مخيم جباليا، وفي البيت قمت بتوديعها، ولم يكن عليها علامات إصابات ظاهرة في جسمها، وقال الأطباء أنها قتلت جراء النزيف الداخلي من قوة الضغط التي أحدثتها الصواريخ.

 

وقمنا بدفنها، وفتح بيت للعزاء، وبعد ثلاثة أيام حضرت عائلة زميلتها هناء المبحوح  لتعزيتنا ، واخبرونا أنهم اخذوا جثتها اعتقادا منهم أنها جثة هناء لأنها تشبهها كثيراً، وهناء تشبه زوجتي هدى كثيراً، وشقيقات هناء اعتقدن ايضا أنها جثة شقيقتهن، إلا أن والدة هناء قالت لهم هذه جثة هدى النجار، وبعد ذلك أعادوها الى مستشفى الشفاء بمدينة غزة، ولم يخبرونا لأنهم لا يريدون أن يكون خبر وفاتها منهم، لأننا نحن الفلسطينيين نعتقد أن هذا فأل شؤوم.