خبر ديمقراطية أبي غير المستحيلة..توفيق وصفي

الساعة 01:13 م|08 ديسمبر 2010

ديمقراطية أبي غير المستحيلة..توفيق وصفي

قال لي أبي رحمه الله قبل رحيله الذي كان كاليوم منذ عشر سنوات "يابا خربانة من زمان"، في إشارة منه إلى حالنا الذي خاب أمله آنذاك في تحسنه، بعد أن أمضى عمره وهو يكافح كي لا يخيب.. أفتقده لأنني لا أجده عندما أواجه ما يتطلب أباً، وإن كنت لا أفقد حضوره داخلي، فهو هنا في كل شأن، يمنعني من التصرف أو الإحساس كولد، يُذكّرني إن فعلت ذلك بكشرة على وجهه الصارم بأن هذا لا يجوز، كتلك التي رمقني بها وأنا أقسو على شقيقي الأصغر ونحن ننقله من سرير إلى سرير في نزاعه الأخير.

عشر سنوات حدث فيها ما فاتك حضوره، وإن لم يفُتْك التنبؤ بما هو أسوأ منه، وأُدرك أنك لو لم تغب لتمنيت المنية قبل أن ترى ما جرى، لكنني على يقين بأنك غبت عن أحداث كانت ستفرحك، فحفيدك الذي يحمل اسمك يُحضّر الماجستير، وحفيدتك الكبرى تخرجت وتعمل وعلى وشك أن تُزف إلى عريس كان سيُعجبك لو التقيت به، والصغيران الآخران

على الدرب الذي كنت تتمناه لكل أبناء فلسطين.. أما أشجارك فقد حلّت مكانها أشجار أخرى كنت تحبها، ليمونة وكلمنتينا وأبو صرة وبضع زيتونات ودالية، وأعزيك في النخلة التي أصررت على زراعتها، إذ لم تعش طويلا بعد أن تابعنا البناء الذي شيدْته من العدم.

يحضرني طيفك الذي لطالما ظللني في حضورك وغيابك، ظننتك في وقت مبكر من مراهقتي ديكتاتورا لا يرحم، ثم رأيتك تتغيّر كلما كبرنا، بالرغم من إصرارك على أن نكون ضمن الحدود التي رسمتها لنا، وازددت مع تقدم الأعمار ديمقراطية دون أن تتوقف عن عرض آرائك والدفاع عنها، فازددنا احتراماً وحباً لك، وتحلقنا حولك نحاول مزج أحلامك وأحلامنا، فلا تنتهي الخصوصية بالرغم من تداخل الألوان، وتحقق في حياتك ما يؤسس لوحدتنا وحريتنا واستقلالية كل منا، بعد أن بدا لك ذلك في كثير من الأوقات مستحيلاً، ما دام قد توفر الحب وانتفت الأنانية لصالح المستقبل، ليس مستقبل أفراد يتصارعون، بل مستقبل الأبناء كوحدة واحدة في مواجهة الحتمي الأصعب، ولو بعد حين.

ربما من تجربتيك الأسرية والكفاحية، بحلوهما ومرهما، اعتقدت ككثيرين من أهل بلدي أن الديمقراطية هي الحل الوحيد لكل مشاكلنا الداخلية، حتى في ظل غلَبَة تيار متنفذ اختارته الأغلبية، ولم تتوقع أن يصبح هذا الحل غير واقعي في حالتنا الفلسطينية، لأنك لم تتوقع أن ننقسم، ونصبح أطرافاً، بالرغم من أننا تحت السقف نفسه وينتظرنا المصير نفسه.

ثمة من يرى يا أبي أن الديمقراطية حل مستحيل، ليس من حيث إمكانية عقد انتخابات نزيهة ومشهود بإجماع وطني ودولي على صدقية إجرائها ونتائجها، فقد حدث هذا أكثر من مرة، واستمرت الحياة الفلسطينية بعجرها وبجرها، بل من حيث إن هذه الديمقراطية تجري بين ظهراني الاحتلال أولا، ولأن الثقافة الديمقراطية في الواقع الفلسطيني تورطت بعد رحيلك في بحر الديمقراطيات المحيطة بها، وأصبحت هناك ثقافات متعددة للديمقراطية، لا تنطلق كل منها من عمق استراتيجي في النظرة لأهداف هذه الديمقراطية من حيث علاقتها بالوطن والمجتمع والمظلة الواحدة، بل من منظور تكتيكي مهادن، لا يتجاوز النفع المباشر، الذي يُشكّل الحكم والفوز بالسلطة ذروة أهدافه، من منظور يتحول مع الفوز بهذه السلطة مَرّةً إلى إصرار على عدم التنازل عنها في أي مرة قادمة، في معادلة يتم إخضاعها قسرا إلى إرادة الديمقراطي الفائز كيفما شاء ووقتما شاء، بالقوة والقانون والديماغوجيا.

ما يحدث في غزة، ما يحدث في الضفة، آه يا أبي، صدقت "خربانة"، فكلا الطرفين يبرر ما يفعله بالحفاظ على المصلحة الوطنية العليا، التي تتمثل فعليا في تبادلهما معاقبة شباب صادقين وأبناء ناس من شعبنا، يُلاحَقون ويُطاردون وبالطبع يؤتى بهم، والتهم جاهزة، مع إصرار على انتزاع اعتراف بأنهم قد ضللوا، وأنهم يستحقون العقاب، كونهم مواطنين غير صالحين.. وعند السؤال عما دفع بهؤلاء "المضللين" إلى هذا المآل، يتجاهل الطرفان انعكاسات القهر الناجم عن استمرار الاحتلال على هؤلاء وذويهم، ويركزان على تحميل بعضهما البعض المسؤولية، دون أن يقر أي منهما بأن الانقسام في إطار الصراع على سلطة مشكوك في استمرارها هو السبب، ليس فقط التسبب في نشوء وتنامي التطرف والمعارضة السرية والمسلحة، بل في انهيار المنظومة الأخلاقية والقيمية للشعب، خاصة الشباب، الذين يجدون أنفسهم رهن الاعتقال لأي سبب، تُنفى عنهم صفة الاعتقال السياسي بإحلال أي تهمة مخالفة للقانون، فيسامون العذاب ويتكلف ذووهم أتعاب محامين لمتابعة قضاياهم، والنتيجة المنطقية مزيد من التطرف، على متن الأحقاد التي تُضخمها القسوة والذل داخل سجون الشقيق، وهنا يصل الأمر إلى انفجارات صغيرة، تمس بتجددها وتنوعها بالمصلحة الوطنية العليا وكذلك الدنيا، في غياب حل ديمقراطي، مظلته وحدة الأهداف والمصير.

قدرنا يا أبي أن نقاوم الاحتلال، وأخشى أن يكون قدرنا أن نقاوم القوى التي تتشبث بحق تمثيلنا مرة فتقرر تغيير حياتنا إلى الأبد، دون أن يُتاح لنا نحن المختلفين أن نجدد إرادتنا المجمدة بقرارات وخيارات متجددة، تنطلق من تغير مصالحنا الآنية من أجل متابعة الطريق لتحقيق الإستراتيجية.. أي فظاظة في فعل المصادرة، لا نختلف عن كثير من الديمقراطيات الحكومية العربية، بالرغم من مبررات وادعاءات ديمقراطية تُصادَر بموجبها حقوق الأغلبية ويصبحون شعبا من العبيد!.