خبر « إسرائيل » تُحاصِر تركيا بالتحالف مع البلقان** صالح النعامي

الساعة 09:09 م|07 ديسمبر 2010

"إسرائيل" تُحاصِر تركيا بالتحالف مع البلقان** صالح النعامي

كان من المفاجئ بالنِّسبة للكثير من الإسرائيليين أن تَنشُر الصُّحف البلغارية مطلع الشهر الجاري صورةً يَظهَرُ فيها رئيس الوزراء البلغاري بويكو بورويسوف مع رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي مئير دجان في مكتب بورويسوف في العاصمة صُوفيا، فقد جرت العادة ألا يتمّ توثيق اللقاءات والأنشطة التي يقوم بها رئيس الموساد في زيارته لدول العالم، ولكن ومع ذلك فإنّ هناك شعورًا عارمًا بالرِّضا يسود دوائرَ صنع القرار في تلّ أبيب لنتائج هذه الزيارة، وما تلاهَا من زيارات لدول البلقان.

 

الجولة التي قام بها دجان في عددٍ من دول البلقان وضمنها بلغاريَا مثَّلت بالنسبة للنُّخَب الإسرائيلية الحاكمة نافذةَ فرصٍ استراتيجيةٍ كبيرة ونادرة، مِمَّا دفع كلًّا من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير خارجيته أفيغدور ليبرمان للطلب من مراكز الأبحاث التابعة للأجهزة الاستخبارية ووزارة الخارجية إعداد دراسات شاملة حول كيفية استثمار الطاقة الكامنة في تعاظُم حجم العلاقات بين إسرائيل ودول البلقان، وتحديدًا اليونان وبلغاريا في أعقاب التدهور الشديد الذي طَرَأ على العلاقات بين إسرائيل وتركيَا الذي تلا أحداث أسطول الحرية التي قتَل فيها سلاح البحرية الإسرائيلي تسعةً من المتضامنين الأتراك الذين كانوا في طريقهم لفكّ الحصار عن قطاع غزة.

 

وكما يقول وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان فإنَّه يتوجب على إسرائيل العمل بسرعة فائقة لمحاولة تعويض ما خسرته من مزايا بتراجع التحالف الاستراتيجي مع تركيا، وعلى رأس ذلك تعزيز العلاقات مع دول البلقان. ويشير ليبرمان إلى أنّ الخسائر الإسرائيلية الناجمة عن تراجع التحالف مع تركيا تتمثّل في توقف تركيا عن منح إسرائيل التسهيلات العسكرية، وعلى رأسها السماح لطائرات سلاح الجوّ الإسرائيلي بالتدرُّب على الطيران في أجواء تركيا الواسعة، بالإضافة للتعاون الاستخباري الوثيق الذي كان يربط الأجهزة الأمنية في كلٍّ من أنقرة وتل أبيب، علاوةً على توقف تركيا عن فتح مجالها الجوي أمام الطيران المدني الإسرائيلي، إلى جانب خسارة الخزانة الإسرائيلية عِدَّة مليارات من الدولارات سنويًا جراء تراجع تركيا عن إبرام صفقات شراء السلاح الإسرائيلي، وتوجه أنقرة لمصادر تسليح أوربية وروسية.

 

خسارة إسرائيل هذه المزايا يأتِي في وقت حَرِجٍ جدًّا بالنسبة لصُنَّاع القرار في تل أبيب، فإسرائيل التي تضع في حسابها إمكانية قيامها بقصف المنشآت النووية الإيرانية معنية الآنَ وأكثر من أي وقت مضَى باستغلال المجالات الجوية لدول أخرى ليتدرَّب الطيارون الإسرائيليون على هذه المهمة، وفي ظروف طبوغرافية تُشْبِه إلى حدٍّ كبير الظروف الطبوغرافية لإيران. وبعد إغلاق نافذةِ الفرصِ التركية، فإنَّ إسرائيل وجدت ضالَّتَها في عددٍ من دول البلقان التي بادر بعضُها لعَرْض خدماته على إسرائيل مقابلَ الحصول على تعويض اقتصادي. ويكشف الصحفي الإسرائيلي باراك رفيد في صحيفة "هارتس" النقابَ عن أنَّ رئيس الوزراء البلغاري بورويسوف نفسَه هو الذي زار إسرائيل وطلب الاجتماع مع كل من نتنياهو ودجان وعرض عليهما تقديم خدمات، وتحديدَا فتح المجال الجويّ أمام الطيران الإسرائيلي للتدريب، بالإضافة بورويسوف للتعاون الأمني والاستخباري مع إسرائيل.

 

ويشير رفيد إلى أن بلغاريا تأمل في المقابل أن توافق إسرائيل على تطوير قدراتها في مجال التقنيات المتقدمة، بالإضافة إلى إقناع السياح الإسرائيليين بالتوجُّه لبلغاريا بدلاً من تركيا، مع العلم أن الأخيرة كانت البلد الأكثر تفضيلاً في العالم بالنسبة للسياح الإسرائيليين. وقد لَمَست إسرائيل توجهات مماثلة من قبل اليونان، حيث أشارت صحيفة "هارتس" إلى إن اجتماعًا سريًا عُقِد في موسكو بين نتنياهو ورئيس الوزراء اليوناني يورغوس بباندريو على هامش زيارة الأخير لروسيا، حيث تَمّ الاتفاق على فتح المجال الجوي اليوناني أمام الطيران الحربي الإسرائيلي للتدريب، حيث إن صِغَر مساحة إسرائيل يجعل من الصعب جدًّا على الطيران الإسرائيلي أن يتدرب على تنفيذ مهام قتيلة مُعقّدة، تضطر الطائرات فيها إلى قطع مسافات كبيرة. وهناك مؤشرات على أن دول البلقان الأخرى أبدت مؤشرات "إيجابية" تجاه التعاون مع إسرائيل، وتضمّ هذه الدول: رومانيا التي فتحت مجالها الجوي بالفعل أمام إسرائيل، صربيا، مونتنيغرو، مكدونيا، وكرواتيا. ولا خلاف على أنّ العوامل الاقتصادية ليست العوامل الوحيدة التي أقنعت دول البلقان بالتعاون مع إسرائيل واستعدادها لتعويضها عن النقص الناجم عن تراجع مظاهر التعاون الاستراتيجي مع تركيا.

 

ويشير رافيد بشكلّ خاصّ إلى العوامل التاريخية والثقافية والدينية؛ حيث إن معظم هذه الدول تُكِنّ مشاعر العداء لتركيا؛ لأنها وقعت تحت الحكم التركي المباشر لأكثر من خمسة قرون، أثناء عهد الخلافة العثمانية، بالإضافة إلى تنامي الإسلامفوبيا في أوروبا والتي جعلت الكثير من النُّخَب في أوروبا تشعر بتضامن مع إسرائيل في مواجهتها العالم الإسلامي، وضمنه تركيا. ولا يخفي السفير الإسرائيلي في صوفيا نحجال جانلر تأثير الإرث التاريخ والثقافي في دفع دول البلقان للتعاون مع إسرائيل، ومسارعة إسرائيل لاستغلال نافذة الفرص هذه بكل قوة. وتؤكّد محافل في وزارة الخارجية الإسرائيلية أنّه في كل ما يتعلّق باليونان فإن المؤسسة الأمنية والعسكرية اليونانية مارست ضغوطًا كبيرة على المستوى السياسي للتعاون مع إسرائيل بعد توتر العلاقات بينها وبين تركيا، بسبب الصراع المتواصل بين الدولتين الجارتين حول مستقبل جزيرة قبرص، في نفس الوقت فإنّ الأزمة الاقتصادية التي عصفت باليونان مؤخرًا أقنعت حكومة ببناندريو بالبحث عن بديل آخر في التعاون الاقتصادي مع إسرائيل.

 

وكما كشفت صحيفة "هارتس" فإنّ تطور العلاقات بين إسرائيل واليونان وجد تعبيره بشكل واضح وجَلِيّ في الكيمياء الشخصية بين كل من نتيناهو وبباندريو، حيث إنهما يجريان اتصالات تليفونية بشكل أسبوعي، وهو ما جعل الأخير يكلّف وزير  يونانب بالتفرغ لتطوير العلاقات مع إسرائيل، في حين كلف نتنياهو نائب وزير الخارجية داني أيالون بنفس المهمة.

 

وفي هذا السياق زار نائب وزير الدفاع الإسرائيلي متان فلنائي ومدير الدائرة السياسية الأمنية في وزارة الدفاع عاموس جلعاد أثينا لتحديد ملامح التعاون الاستراتيجي بين الجانبين، حيث تَمّ الاتفاق على أن يكون عام 2011 عام التعاون الاستراتيجي بين الجانبين، وفي مؤشر على الأهمية الكبيرة التي تَحتلّها العلاقات مع اليونان فقد حرصت إسرائيل على تعيين دبلوماسي كبير وخبير بارز في مجال العلاقات الدولية وهو آرييه مكيل سفيرًا في أثينا.

 

وقد وجد الانقلاب في علاقات إسرائيل باليونان تعبيره في أنماط تصويت اليونان في مجلس الأمن، حيث إن المندوب اليوناني أصبح يصوِّت بشكل تلقائي ضد أي قرار ينتقد إسرائيل. الذي يدفع إسرائيل لاستثمار كل هذه الطاقة والموارد في تطوير العلاقات مع دول البلقان ليس فقط تراجع مستوى العلاقات الاستراتيجية مع تركيا، بل خشية تل أبيب أن يتحول هذا البلد بشكل واضح وصريح إلى طرف معادٍ لإسرائيل. وفي إسرائيل يرون أن هناك ما يبرِّر هذه المخاوف، حيث تعتبر دراسة أعدها مجلس الأمن القومي الإسرائيلي حول مستقبل العلاقات مع تركيا أن تعديل العقيدة الأمنية للدولة التركية تطور بالغ الخطورة؛ حيث أشارت العقيدة الأمنية الجديدة لتركيا بشكل واضح إلى إسرائيل كإحدى الدول التي تُثِير المشاكل بالنسبة لأنقرة، في حين تَمّ إخراج سوريا من دائرة الدول التي تشكل تهديدًا للأتراك، في حين لا تعتبر هذه العقيدة البرنامج النووي الإيراني تهديدًا على تركيا، وهذا يعتبر مؤشرًا على الوجهة الجديدة لتركيا في عهد حكم حزب "العدالة والتنمية" بزعامة طيب رجب أردوغان.

 

ويولي الإسرائيليون اهتمامًا كبيرًا لِمَا جاء في كتاب "العمق الاستراتيجي" لمؤلفه أحمد داود أوغلو وزير الخارجية التركي الذي يعتبر أن مصلحة الدولة التركية تتمثّل في إنهاء جمع مشاكلها مع دول الجوار، في حين يتحدث رئيس الدبلوماسية التركية بشكل سلبِيٍّ عن إسرائيل ويتوقع أنها ستزول عن الخارطة بعد أن تتحول إلى دولة ثنائية القومية. ويرون في إسرائيل أن الرياح الجديدة التي تَهبّ على تركيا أقوى من أن تسمح بوقف التدهور الحاصل في العلاقات بين الجانبين، لا سيما مظاهر الضعف الكبير التي باتت تعتري مكانةَ الجيش التركي، خاصة خلال العامين الماضيين، والتي وصلت ذروتها في حملات الاعتقال الواسعة التي طالت عددًا كبيرًا من كبار قادة الجيش الذين اتهموا بتدبير محاولة للانقلاب على حكم حزب العدالة والتنمية. ومن التطورات التي حدثت في تركيا وتسبب في حالة قلق هائلة في دوائر صنع القرار في تل أبيب هو تعيين راكان فيدان كرئيس جديد لجهاز المخابرات التركي، وهو الذي تدعي إسرائيل أنه مقرَّب من الإيرانيين. وقد عبر عن هذا القلق بشكل نادر وزير الدفاع الإسرائيلي الذي قال خلال جلسة لكتلة حزب العمل النيابية في الكنيست: إنّ إسرائيل أطلعت المخابرات التركية على معلومات استخبارية بالغة السرية والحساسية، وإنّ هناك خوفًا من أن تقوم المخابرات في عهد فيدان بتسريب الأسرار الإسرائيلية لدول معادية وتحديدًا إيران، مما يسبب حرجًا كبيرًا لصنَّاع القرار في تل أبيب.

 

تعتمد إسرائيل في علاقاتها الجديدة والمتطورة مع دول البلقان على قاعدة "عدو العدو صديق"، وهي بالتالي تحاول استغلال حالة العداء التاريخية والثقافية المستشرية بين تركيا ودول البلقان من أجل تعزيز العلاقات مع هذه الدولة في كل المجالات لتحقيق مصالحها الاستراتيجية، و لتعزيز مكانتها في أي صراع مستقبلي قد يندلع مع تركيا.