خبر نحو ثقافة سياسية مشتركة..علي عقلة عرسان

الساعة 08:48 ص|27 نوفمبر 2010

نحو ثقافة سياسية مشتركة..علي عقلة عرسان

 

يبدو لي أن ما يبني الإنسان جسدياً ونفسياً واجتماعياً وروحياً يكون مصلحة بشرية عامة ومسؤولية إنسانية مهمة، ويبقى في صالح الحياة والتقدم والاستقرار والازدهار، ومن ثم يمكن أن نقول إنه أخلاقي وحقّاني وحيوي: أخلاقي من حيث القيمة والمبدأ والسمو، وحقّاني من حيث العدل وترتيب الحقوق، وحيوي من حيث أن صحة البنية الفردية التي ترتبط بصحة البنية المجتمعية والثقافية، وبسلامة مناخ العيش، والعلاقات المتبادلة بين المجموعات البشرية، سواء أكانت أمماً وشعوباً، أم دولاً ومناطق إقليمية.. وما يبني المجتمع يبني الفرد والعكس يمكن أن يكون صحيحاً، وما يبني الجماعة يبني الدولة، إلا في حالة وضع فرد لنفسه أو مجموعة بشرية أو دولة لنفسها فوق الآخرين بالقوة والطغيان، وبناء الذات الفردية أو الجمعية على حساب المجتمع ومصالحه، أو بناء مجتمع أو دولة على حساب حضور الأفراد وحقوقهم، أو  على حساب مصالح شعوب ودول أخرى وعلاقات سليمة بينها.

وسلامة المجتمعات وصحتها واستقرارها وازدهارها، كل ذلك منوط بالدول والسياسات وأحكامها وتوجهاتها ومعاييرها وأهدافها ووسائلها..إلخ، فالسياسات تبني الأوطان والمجتمعات أو تهدمها، تعزّها أو تذلها، تنعشها أو تميتها، وتؤثر في المحيط الدولي القريب والبعيد، ومن ثم في المناخ السياسي العام الذي يحكم حياة الدول والمجتمعات وعلاقاتها، ومناخ الحياة البشرية في عصر من العصور.. والصلة بين الثقافي والسياسي في هذا المجال وطيدة، وينبغي ألا تقوم على التبعية، لأن الثقافي من حيث العمق والأبعاد والشمول له تأثير عميق في تكوين السياسي.

وقد أصبحت السياسات في عصرنا هذا، بحكم العولمة والتقدم العلمي والتقني والمعلوماتي، وأساليب الاتصال والتواصل، ذات تأثير مباشر وغير مباشر في مجالات الحياة كلها، وامتدت خارج حدودها الجغرافية والسكانية بكثير، وهي تؤثر في معظم البلدان وعلى مصالح الأفراد والمجتمعات بحكم التواصل والتفاعل.. وهي، بكل أسف، لا تأخذ البعد المبدئي، القيمي والأخلاقي منه على الخصوص، بالاعتبار، ولا تقدم الأخلاي معياراً في الكثير من المواقف والسلوك والقضايا، "فالغاية تبرر الوسيلة" عند معظم الأقوياء والنافذين، والمصلحة الضيقة والرغبة في الهيمنة عوامل حاكمة في كثير من العلاقات الدولية والسياسات، بعيداً عن البعد الإنساني للثقافة وما تشتمل عليه من قيم ومبادئ ومعارف وما ترتبه من حقوق وواجبات. ولهذا انعكاسه وتأثيره في حياة الشعوب والدول وفي علاقاتها بعضها ببعض، وكذلك في أمور الحرب والسلم والأمن والاستقرار والتنمية والازدهار.

ويعني تفلّت السياسي من دائرة المبدئي والخلقي ومعاييرهما، وتهميش موقعهما ومكانتهما، تهميشاً للبعد القيمي والإنساني في الثقافة، وتملصاً من مسؤولية اجتماعية ذات بعد داخلي وخارجي شمولي، وطني وقومي وبشري، ومن حقوق عامة للإنسان تتصل بصلب وجوده وحياته وكرامته، بصرف النظر عن عرقه ولونه ودينه، وعن كونه مواطناً في هذه الدولة أو تلك، وفرداً في هذه الجماعة أو تلك، ومن أتباع هذه العقيدة أو تلك.. كما يعني زرع الألغام تحت أية صيغة من صيغ التعايش والعلاقات والصلات المجتمعية والدولية، والاعتماد المتبادل بين الدول والشعوب، وتحت الاستقرار والسلم والأمن في دوائرهما وأبعادهما المختلفة.. فغياب العامل القيمي ـ الأخلاقي أو تغييبه كلياً في رسم السياسات والاستراتيجيات ومواقع صنع القرارات، والنظر إلى المصلحة من منظار أناني ضيق، هو تغييب للوعي المعرفي الذي تصنعه الثقافة، وللمسؤولية الجماعية في شمولها البشري وبعدها الإنساني، وتمكين لانعكاس نتائج ذلك، وارتداده سلبياً، على دوائر بشرية قد تضيق جداً أو تتسع، ولكنها تبقى جاذبة للتوتر، وحقولاً للألغام، ولن تسلم منها الدوائر ذاتها التي صنعت سياسات ووضعت استراتيجيات على أساس المصلحة الضيقة والسطوة والهيمنة، بعيداً عن المعايير الخلقية، والاعتماد الاجتماعي والدولي والإنساني المتبادل، والمسؤولية البشرية العامة، وحقوق الإنسان.

وربما جازت المطالبة، في عالم غدا قرية صغيرة متشابكة المصالح والصلات والعلاقات ومتداخلة المشكلات والأزمات، ويطغى فيها نفوذ القطب الأقوى على القوانين والمؤسسات الدولية، بأن تحتل حقوق الإنسان العامة، وقضايا التكافل الاجتماعي الواسع النطاق، والاعتماد المتبادل بين الدول والشعوب والتكتلات الدولية، مكانة عالية ينبغي على كل سياسة واستراتيجية أن تراعياها وتضعا معياراً قيمياً وخلقياً يساعد على ضبطها وترشيدها، وأن ترتب مسؤولية قانونية واجتماعية وإنسانية على من يتجاوزها، وألا يفلت المسؤولون عن التجاوز من الحساب والعقاب، وهي معايير قد تتعارض مع مصلحة ضيقة لحاكم أو نظام أو مجتمع أو دولة، ولكنها تصب في المصلحة البشرية العليا، وفي دائرة الحقوق العامة للإنسان، وسلامة البيئة والطبيعة، ومقومات العيش المشترك لبني البشر في أرض البشر.

وعليه فالسياسات مطالبة بألا تلغي الآخر ولا سلَّمَ القيم، لا سيما الأخلاقية والإنسانية العامة منها، وبأن لا تهمّش ذلك حين تحدد أهدافها وترسم استراتيجياتها وتتوسع في دوائر طموحها، وأن عليها أن تأخذ بالاعتبار معياراً حاكماً متفقاً عليه في هذا المجال، يرتب الخروج عليه مساءلة ومحاسبة .. لأن إلغاء هذه الجوانب توظيفاً خطراً للقوة، وإباحة مطلقة للقوي بأن يستخدم كل الأساليب والأسلحة والوسائل والأدوات لبلوغ الأهداف والغايات التي يتطلع إلى بلوغها، بصرف النظر عن أية معايير وضوابط وقوانين وتشريعات وشرائع.. كما يعني تملصاً من ضوابط فكر وعقل وفعل وسلوك، داخلية وخارجية، لحساب مصالح وخصوصيات ونزعات استعلائية عرقية أو قومية أو قطرية أو دينية أو طائفية..إلخ وهذا ينعكس عدم استقرار وفوضى عالمية، ويؤسس لفتن وصراعات دامية، لأنه يسبب للظلم، ويشيع القهر، ويلغى حقوقاً لأفراد ومجتمعات، ويفرض بالقوة شرعية لما لا شرعية ولا مشروعية له، والقوة تستنهض بدورها القوة المضادة، وتستدعي التمرد وتثير الصراعات والحروب..

وعلى من تعنيهم مصالح بلدانهم وشعوبهم، في ظل الفوضى والغطرسة، أن يتضامنوا ويتعاونوا لتحقيق الحد الأدنى من الحماية لمصالحهم ووجودهم وحقوقهم، ولوضع حد لمنطق يجعل من القوة العمياء والطغيان الدموي والغطرسة العنصرية، قاعدة ومعياراً، ومسوغاً للأفعال العدوانية والممارسات الوحشية. وهذا الهدف هو من صلب الأهداف المشتركة التي تجمع دولاً عربية وإفريقية في هذا اللقاء، لأنها تعاني من صلف القوة العمياء، وغطرسة الطغيان الدموي، ومن فوضى، يسميها البعض خلاقة، مع أن الفوضى لم تكن خلاقة ولا بناءة في أي يوم من الأيام.. لكي يدافعوا عن وجودهم ومصالحهم وهوياتهم القومية وتمايزهم الثقافي، وإنسانيتهم المنتهَكة.

إننا نسلم للسياسي بأن يتخذ كل القرارات التي تنفذ التكتيك الذي يكون أصلاً في خدمة الاستراتيجية، شريطة أن تكون السياسات والاستراتيجيات ذاتها، الداخلية منها والخارجية، في خدمة العادل والإنساني والسلمي والتنموي، وذات بعد اجتماعي شامل في الاتجاهين الأفقي والعمودي، وليست مجرد بلوغ أهداف وغايات بأية وسائل وأساليب وأدوات، لتحقيق مصالح وسطوة وسيطرة وتوسيع دوائر نفوذ وهيمنة، بصرف النظر عن النتائج وعن حقوق الآخرين ومصالحهم الحيوية.. نعم إن السياسات قد تكون في خدمة شعب لتحقيق أمنه من جوع وخوف، وقد تنبع من وعي تاريخي يُتَرْجم إلى أهداف ثابتة، في إطار الحرص على وجود الدولة والأمة أو الشعب ومصالحه وهويته وحقوقه وحيويته، ولكنها قد تكون أيضاً في خدمة شخص أو مجموعة أشخاص ونظام وشركات ومؤسسات ومصالح ضيقة، متورمة وسرطانية في أحيان كثيرة، وتتم على حساب مواطنين ومجتمعات ودول أخرى، ومقومات عيش شعوب أخرى وأمنها.. وفي كل الأحوال ينبغي ألا تتجاوز أية سياسة الآخرين ومصالحهم ومقومات وجودهم وحياتهم وثقافتهم، شأنها في ذلك شأن الحرية الوضعية، من حيث هي ممارسة واعية ترتب المسؤولية، وتنتهي حدودها عندما تبدأ حدود الآخرين وحريتهم.

والسياسات الحكيمة والرشيدة ينبغي أن تراعي العلاقة بين المادي والروحي، السلطوي والإنساني، الذات والآخر.. وأن تُرسم وتنفذ، على أساس، وفي إطار، رؤية متكاملة للمجموعة البشرية التي لها مصالح وحريات ووجود متمايز، ولأفرادها حقوق في الحياة إذا ما انتهكت تفجر الصراع وسالت الدماء، وانعدم الأمن، وتوقف النمو، وسُدَّت أبواب الأمل ومفاعيل العقل والحكمة.. وجرت دماء المدنيين الأبرياء، حيث هم يستباحون مع حقوقهم وممتلكاتهم في كل موقع من مواقع الصراع، ويدفعون الثمن الفادح في كل حرب.. والأمثلة على ذلك كثيرة ومثيرة في كل من بلدان إفريقية كثيرة وفي الوطن العربي، الأمر الذي يجعلنا نطالب الدول والساسة والمنظمات والتنظيمات الشعبية بـ:

ـ  مراعاة جانب إنساني وأخلاقي واجتماعي "تضامني ـ تكافلي" في السياسات والاستراتيجيات، يحفظ للآخر حياته وشروط عيشه وأبسط حقوقه وإنسانيته، وينمي فيه الأمل وحب الحياة والإقبال عليها، والتعلق بالعدل والحرية.

ـ وبتضامن المستهدَفين بالسياسات العدوانية، دولاً وشعوباً وتجمعات بشرية، وتلاقيهم على أهداف مشتركة، يتحقق لهم الحد الأدنى من حماية الأرض والحقوق والحريات والمصالح ومقومات العيش، ويتمكنون من أن يقفوا بوجه الذين ديدنهم العدوان والهيمنة والسلب والنهب، ومن يرتبط بهم وينفذ خططهم، وبوجه الذين يغامرون ويستهينون بحياة الناس وعلاقات الدول من أجل طموحات شخصية ومصالح يحكمها جشع أفراد وشركات ودول، وهي لا تتحقق إلا على حساب كل ما هو عادل وإنساني وقيمي وسلمي في الحياة، وعلى حساب حياة دول وشعوب وأمنها واستقرارها وتقدمها.

وعلى الدول والمجموعات البشرية المستهدَفة بالعدوان والاستغلال بأشكال مختلفة، والعرب والأفارقة على رأس المستَهْدَين في هذا المجال، أن تقيم تكتلات دولية وبشرية، بهدف حماية نفسها من سياسة دولة أو أحلاف وتكتلات دولية، أو سياسيات طغيانية، أو شبكة طغاة، يرون أن لهم الحق، بحكم القوة والمصالح وتنفيذاً لأطماع لا تُحد، في أن يستبيحوا ما يشاءون ومن يشاءون، استناداً إلى منطق القوة العمياء، لبلوغ أهدافهم، على قاعدة: "الغاية تبرر الوسيلة"، ومبدأ استخدام القوة لفرض رؤى وآراء وسياسات ومصالح، ومنطق "خذ ولا تسأل كيف، وافعل شرط ألا تخفق، لأن المهم أن تنجح بأية وسيلة، وعندما تنجح تكون على حق مهما فعلت؟!" ويصبح النجاح الدامي أخلاقياً وعادلاً ومعياراً للفعل الحسن، وحاكماً للمعايير وللسلوك، وللآخرين أيضاً، حين يتم ويتوَّج!؟ وهذا أساس ما فعلته الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، وما فعله ويفعله الصهاينة في فلسطين المحتلة، وما تعرضت له شعوب وجماعات ودول إفريقية وقعت ضحية لغزو استعماري، ولعنصرية بغيضة وعبودية مقيتة، ونهب لثروات لا حصر لها..

وعندما يكون ذلك هو ديدن الطغاة والمغامرين والمقامرين بحياة الشعوب، فإن من حق الشعوب والدول التي يستهدفها العدوان والطغيان، بل من واجبها، أن تتضامن وتتعاون لتدافع عن نفسها، ومن واجب الدول والشعوب والمجموعات البشرية الأخرى أن تنصرها.. إن على المستهدفين عموماً أن يتضامنوا وينصر بعضهم بعضاً، دفاعاً عن الوجود ودرءاً للشر والقتل والدمار.. وردعاً للنزوع العدواني الاستعماري التدميري، ووقوفاً بوجه الغزو والعدوان والنهب والعنصرية الجشع..ودفاعاً عن السلم والحضارة والعلاقات البشرية البناءة..إلخ. وقد كان هذا من أهداف مؤتمر باندونغ، ودول عدم الانحياز، قبل أن يطغى عليها نوع من الانحياز ويفرط عقدها، ويدخل الحياد الإيجابي ذاته في متاهات الحرب الباردة واستقطاباتها.

إننا نحتاج في هذا العصر المريع إلى جرعة أخلاق في السياسة، وإلى رفع مستوى الإحساس بالمسؤولية عن حقوق الإنسان الطبيعية وفطرته السليمة، وإلى قدر كبير من التضامن والتفاهم والتعاون، لتصبح هناك معايير حاكمة في الفعل السياسي والخيارات والاستراتيجيات وأساليب الأداء والوسائل المتبعة لتحقيق الأهداف والاستراتيجيات، لأن نمط التوحش السياسي قد طغى طغياناً مذهلاً، وهو ينذر بمزيد من الطغيان وانعدام المسؤولية والاستهتار بحياة البشر ومصالحهم وخصوصياتهم، وبالقوانين والمؤسسات الدولية وبكل ما هو خلقي وإنساني. ونحتاج إلى القيم والقوى التي تحافظ على مصالح متبادلة ومسؤوليات متبادلة واعتماد متبادل بين الدول والشعوب، ويكون من أهدافها إضعاف مد المقولة التي تسود في عالم السياسة وتقول بأنه لا يوجد، أو لا ينبغي أن توجد، أخلاق في السياسة؟! لأن هذا التوجه يؤسس للصراعات ويوري نارها، ويطلق العنان للاستعماريين والإمبرياليين الجدد، وللطغاة والمغامرين وغير الأخلاقيين، وللذين تغريهم شهوات التسلط والسلطة والنهب والعدوان والسلب، أن يفعلوا ما يريدون، وأن يقوم تعاونها وتضامنها على أسس وعوامل يتداخل فيها المادي والروحي، الجمعي والفردي، القومي والوطني من جهة، والبشري والإنساني من جهة أخرى.. كما نحتاج أيضاً إلى نوع من حضور القانون الدولي والدولي الإنساني، واحترامهما وتطويرهما ليصبحا صيغاً تشريعية حاكمة في كل دولة ومؤسسة دولية، من أجل تحقيق أبعاد ومسؤوليات إنسانية وحقوق على المستوى السياسي الداخلي في كل دولة وعلى المستوى العالمي، ويدخلا في الاعتبار عند رسم السياسات الخارجية ووضع الاستراتيجيات، لا سيما ونحن نشهد همجية سياسية ووحشية متنامية تتجاوزان كل ما هو قانوني وخلقي وإنساني في ممارسات بعض الدول الكبرى وحلفائها وأتباعها.. ونريد تضامناً وتعاوناً بوجه ذلك لكي يقوى الجانب الذي يرجح حقن الدماء، وتقريب مصالح الشعوب بالحوار، ويرفع درجة الوعي والالتزام بالقوانين وحقوق الإنسان والمجتمعات والدول إلى درجة الهيمنة على السياسات. ويمكن أن يكون هذا أحد أهم الأهداف المشتركة لمؤتمرنا هذا، الذي نأمل أن يكون مؤثراً وفاعلاً في هذا المجال.