خبر رؤيـــة ..علي عقلة عرسان

الساعة 10:44 م|19 نوفمبر 2010

رؤيـــة ..علي عقلة عرسان

إخال أحياناً أننا نعمل في محيط الفضاء الذي يغلف أجسادنا، ونبني بيوتاً من خيوط العنكبوت في ذلك الفضاء، نغرّد على الورق وتسيل عليه دماؤنا ودموعنا ، ونصول ونجول في خضمّات الحبر، نخوض فيها المعارك شعراً ونثراً، ونعتلي صهوات الفضائيات، نقول ونقول.. نحرق "الشمس!؟" ونترك العنصرية تحرقنا، ونفلح النجوم ونزرعها كمثرى ونترك أرضنا الخصبة بوراً يزحف عليها التصحّر والأعداء معاً، فتضيق بنا وتضيق علينا، على الرغم من رحابتها.. ويقضم منها العدو شيئاً فشيئاً من دون توقف.

أعداؤنا يعملون في أرض الواقع التي تسعى عليها أقدامنا، وترتادها أحلامنا، وتتطلع إليها رؤانا، ونحن نعمل في هوامش الواقع ومتون الخيال والتخييل.. ولولا رسوخ العقيدة وقِدم التاريخ وجذوة الحق وجذور التراث وأقدام الأجساد وأثقالها في الأرض التي ورثناها، لما رأيت منا إلا نتف الريش تصّاعد في دوامات الهواء وأعاصير الحوادث.

أمَّةٌ نحن ينتاشها الوحش والطير الكاسر ويحط على جسدها الذباب، تراها بئراً معطلة وقصراً مشيدا، زُرِع فيها الجهل والإحباط لدرجة أنها وتسأل نفسها أحياناً ببلادة وخبل: أتراها تصلح لأن تكون أُمَّة، وأن تكون حية، وأن تكون في العصر، وأن تكون.. وأن تكون..؟!

أبناؤها يرتادون في مجالات العلم والتقانة المتقدمة خارج بلدانهم؛ ويُوظَّف عدو أمتهم جهدهم ضد أمتهم وقضاياها ومصالحها وضد عقيدتها وهويتها؛ وينهب ثرواتها الطبيعية التي تشكل الرصيد الأعظم للعالم، ورصيدها المالي يغذي اقتصاد أمم تعاديها، ويجوع من أبنائها من يجوع "ويشبع" جوعاً حتى الموت كثيرون، ويفتقر منهم من يفتقر، ويغرق في الفقر والبؤس حتى الذل من يغرق، على الرغم من أنها أمة الإسلام وتعاليمه بالدرجة الأولى، والإسلام قدم العلم على العمل، والعمل على العبادة وأعلى شأن التكامل الاجتماعي وحض عليه، وأخرج من لا يرعى حرمة أخيه ويسد حاجته من حظيرته: "ما مات مسلم من نام شبعان وجاره جائع وهو يعلم".

إنها أمتي.. أمة العروبة والإسلام التي تملك رصيداً ينزف - سواء أكان روحياً أو مالياً أو بشرياً.- ويستنزَف باستمرار في هذا العصر، وتسيل إرادتها عجزاً في ساحات كثيرة، وتآكلاً في مواقف مثيرة، وتواكلاً في معظم المواقع والحالات والتحديات التي قد تبدأ من وضع القدس ولا تنتهي عند حال وموقع، ففي كل يوم جراح واعتداءات وتحديات.. ولا من ملتفت لهذا الوضع المتجه بقوة نحو الانحدار.

ترى ما الذي يجعل من هذه الأمة أحجية سلبية بهذا الحجم في هذا العصر، وقد كانت قبل أربعة عشرة قرناً من الزمن أحجية إيجابية في التاريخ، يوم غلبت على أمر أعظم إمبراطوريتين في زمانهما: الفرس والروم، ونشرت دين الله في أرجاء الأرض؟

ألجأتني إلى هذا القول رؤية نشرتني على شوك الزمن أمشاجاً، رؤية العدو الصهيوني وحلفائه والطامعين بأمتنا المسيطرين على قرارها، يؤثلون لباطلهم في أرضنا وعلى حسابنا، ويعدون العدة لبقائهم وتفوقهم وفرض وجودهم وشروطهم علينا.. من خلال سياسة تعرف ما تريد وتصل إليه، وتدرك أن قيمة النجاح الحقيقي تكمن فيما يرسخ في أرض الواقع، وتحميه القوة بكل أبعادها وأشكالها ومقوماتها، ومن ثم يفرض وجوده ويجبر الخصم على أن يتجرعه، ويقبله، ويُقبل عليه طوعاً أو كرهاً.

ويقومون بتأبيد التأثيل لباطلهم بإنهاكنا المستمر، وتثبيت الغرس الاستعماري البغيض في ذاكرتنا وخلايانا، وتزوير التاريخ، واجتثاث الهوية وروح المقاومة فينا.. ومن ثم تستمر عملية النخر والتخريب في البنى القيمية والعقائدية والقومية الأعمق، وصولاً إلى قبولنا الصورة المزورة سمة عصرية، والخراب المهلك قدراً مقدورا.

إن أعداء أمتنا يعملون على الأرض وبين ظهرانينا، ويوظفون بعض خلايا جسدنا العربي لإحداث الورم السرطاني فيه، ونحن نسكت على الداء والأعداء معاً، ونخوض معاركنا في فضاء يحيط بالأجساد، وغالباً ما نخوضها في أحشاء أجسادنا!!

إنها رؤية مجرَّحة أراها للواقع العربي اليوم، ومن لا تجرَح كل خلية من خلايا جسده وروحه وذاكرته وهو يرى: الغطرسة الصهيونية المتنامية يوماً بعد يوم وحدثاً بعد حدث، والانحياز الأميركي الأعمى لاحتلاله وعدوانه واستيطانه وحصاره وانتهاكه لكل الحقوق والحرمات، وعلى رأسها حرمة القدس، ويرى بالمقابل التخاذل العربي الذي يتراكم في الفضاء السياسي والنفسي.. ويبقى فوق الإحساس بالجزع وحتى الفزع؟!

الأميركي الوسيط " النزيه" يقدم اليوم للكيان الصهيوني صفقة فيها: 

ـ تقديم 20 طائرة اف 35 مجاناً، وهي طائرات لا يكشفها الرادار، وأحدث ما تم التوصل إلى صنعه في العالم، وتبلغ قيمتها ثلاثة مليارات دولار أميركي.. تضاف إلى عشرين طائرة أخرى من النوع ذاته سبق أن وافق على "بيعها له" قبل أسابيع.

 ـ  تشديد العقوبات ضد إيران، مع تأكيد ملاحقة مشروعها النووي للأغراض السلمية لأنه مشروع " يهدد العالم أجمع" حسب نتنياهو؟ وهذا النوع من لتسليح يهدف، فيما يهدف غليه، على تمكينها من أن تطال كل الأقطار العربية، وكل سلاح قد يتوافر لأي منها، ويطال إيران أيضاً، في تدبير خفي لمهاجمتها بهدف تدمير مفاعلاتها النووية.

ـ وعد باستخدام الفيتو ضد كل قرار مناهض لإسرائيل في مجلس الأمن الدولي، الذي أصبح، كما نعرف جميعاً، أداة بيد الإدارة الأميركية ومن يحكمون قراراها، وهم الصهاينة في الداخل ولخارج، وبأشكال ظاهرة وباطنة.. لكن النتائج تشير إليها بوضوح ما بعده وضوح.

ـ وعد بالحفاظ على الغموض النووي لإسرائيل، ومنع فتح ي ملف يتعلق بهذا الأمر مستقبلاً.. وقد وقف العالم علة إبطال الولايات المتحدة الأميركية لتحرك عربي في الوكالة الدولية للطاقة الذرية كان يهدف إلى فتح هذا الملف. 

ـ التسليم ببناء إسرائيلي في شرقي القدس، والتعهد بعدم الطلب منها القيام بأي تجميد إضافي للاستيطان.. في أي وقت لاحق.

" كل هذا مقابل خطوة لا يؤبه لها: تجميد البناء في الضفة لثلاثة أشهر."، وتلك أصلاً كذبة كبرى فالاستيطان لم يتوقف لحظة واحدة، ولن يتوقف.. فهناك للتخطيط والتمهيد والتنفيذ، وكله يسير وفق مصلحة العدو الصهيوني وتدبيره. 

        من يصدق أن مثل هذا "الابتزاز" يحصل، وبهذا الثمن البخس "كذبة تجميد الاستيطان لثلاثة أشهر" لا يدخل فيها تجميد الاستيطان في مدينة القدس!؟ ومن يصدق أن فيه أدنى ذرة من الحرص على النزاهة والعدالة والوصول إلى حل يرضي أصحاب الحق، أو أن فيه أدنى حرص على الفلسطيني المفاوض، والعربي الذي يتخايل وراءه؟

وعلى الرغم من هذا السخاء الأميركي المديد المتجدد، يرفض المحتل الصهيوني أن "يجمد" الاستيطان الذي لم يتوقف لحظة واحدة أصلاً، ويرى في ذلك " انتهاكاً لحقه في أن يبني على أرضه" كما يتواقح علناً.!؟

أية مهزلة، وأية وساطة؟ وأية سياسة.. تلك التي غدت ديدن الولايات المتحدة الأميركية والحركة الصهيونية؟ وأي درك وصله العرب في قضية هي أعدل القضايا، وأية مسارات تفاوض وتنازل وتخاذل هي تلك الدهاليز من الظلم والظلمة التي يزجيها الأميركي في الفضاء الفلسطيني والعربي ويزجنا فيها، ويبتلعها فلسطيني مجلوب إلى مواقع القيام بذلك الفعل المنكر وطنياً وقومياً وإنسانياً، وهو ما أُتيَ به إلى هذه المواقع أصلاً إلا بعد أن تم التثبت التام من أنه سيقبل كل ما يمكن تخيله وما لا يمكن تخيله من تنازلات عن الحق والأرض وغيرهما.. إذ في أسوأ الظروف وحتى في أحسنها، يقول له الأميركي والصهيوني ومن هم في كنفهما من الرباعية إلى غيرها: كن واقعياً وانتهج سياسة واقعية تمكنك من الحصول على شيء، ومن "دخول التاريخ".. ماذا لديك لتفعله من بدائل؟ هل ستقاتل.. إننا نتعهد بحماية إسرائيل وتفوقها على العرب والمسلمين مجتمعين، ونضمن أمنها، ونحن زودها بالسلاح وأشكال الدعم ولحماية وسنبقى على ذلك النهج؟ ماذا في يديك أي سلاح، أية قوة، أية أوراق؟ هل يقف أحد معك.. قل: من هو؟ هل تريد أن ترفض وتبتعد وتسكت وتنزوي.. افعل ونحن نحمِّلك مسؤولية إفشال الجهد، ورفض الحل، وإبطال مسيرة السلام.. وكلنا ضدك في هذا الحال، والعالم كله معنا، إذن فالعالم كله ضدك. ماذا تقول؟ وماذا تختار؟ كن "واقعياً" وتصرَّف..تنازل، اقبل، اقتل أخاك وأنقذ نفسك، وتنازل عن حقك وعش.. عش وازدهر.". 

نحن وقضيتنا المركزية اليوم، قضية فلسطين، في هذا الدهليز المظلم، وتحت ركام الظلم الأميركي ـ الدولي المتكاثف علينا.. ولولا تغييب بعضنا لبعض، ومن ثم غيابنا عن ساحة الفعل والمواجهة، ولولا تواطؤ قسم منا نحن العرب مع الأميركي وحتى مع الصهيوني، ضد أمته وقضاياها، لما وصل الحال بنا إلى ما وصل إليه.؟ وفي ظل هذا الوقع، السياسي والثقافي، بدأنا نستسيغ ما يُقال لنا عن «موت الأمة العربية، والقومية العربية، والفكر القومي، والأمل القومي» ونركن إلى القول بأننا مشروع أمة، ومشروع قضية، ومشروع حلم..ومشروع بشر.. ومشروع.. إلخ

ونحن في حالنا هذا اليوم نبرهن عن تخاذل الكل، وضعف الكل، على الرغم من مكابرة البعض، وعنتريات البعض،  وعلى الرغم من العواطف والمجاملات والانتشاءات السياسية التي تُعملق القزم، وتقزم الحقيقة.. فمن لا يرى يا ترى أننا أينما سرحنا النظر في أرض العرب اليوم نجد جريحا مثقلا بجراحه، وعينا ترقب الآخر الشقيق فلا يأتي، ومن ثم تعاني وتعاني وتحفر المعاناة في أحشائها أنفاقاً موحشة، فينتظر الشقيق شقيقه ليشمت به حين يجيء دوره في نزف الجراح والمعاناة، وحين تحيط به الذئاب تنهشه من كل جانب.. فهل يكون هذا الواقع مُعينا لنا، أم مُعينا علينا يا ترى، ونحن أمة مستهدَفة بكل وضوح، لتمايزها عقيدةً وثقافة وهويةً وموقعاً جغرافياً وثروة وتاريخاً حضارياً.. بكل وضوح؟؟ وهل يسمح لنا ذلك الوضع والتحدي بالتفكير، مجرد التفكير، في ضرورة أن نستعيد ذاكرتنا المشتركة، وشعورنا المشترك، وتضامننا المشترك، ومسؤوليتنا المشتركة عن قضايانا وحاضرنا ومستقبلنا، عن أجيالنا وهويتنا ومقدساتنا وإنساننا، وعن كل ما يجدد فكرنا القومي، ووحدة آمالنا وآلامنا، على أرضية الحقيقة الناصعة الصارخة، حقيقة العداء البغيض الذي نتعرض له، وحقيقة أننا كلنا مستهدَفون، بوصفنا أبناء أمة واحدة، وعقيدة واحدة، وثقافة واحدة.. وحقيقة أننا إذا صحونا واتفقنا وتعاونا قادرون على استنهاض الأمة والنهوض بها ومواجهة التحديات وقلب الأوضاع العربية البائسة في الوقت الراهن إلى ما هو أفضل وأقوى وأنفع وأكرم؟؟

فهل نغير ما بأنفسنا، ونلتفت على ما يحمي قضايانا ويعزز وجودنا ويجعلنا نملك قوة تحمي وتدفع الظلم والعدوان وتستنقذ الحق، أم أن الممنوعات والمحرمات التي يحددها لنا أعداؤنا هي التي تَلقى منا الاحترام والرعاية والطاعة أكثر من أي شيء آخر.؟؟

إنه السؤال المر الذي تغص به حلوقنا يوميا، ولا نتلمس الإجابات الشافية الملائمة عليه والمخارج الضرورية منه.

فهل ترانا نصحو ونرى و نفعل.. أم أن تلك مجرد رؤية.؟؟