خبر ينتظرون صدقات واشنطن ..فهمي هويدي

الساعة 11:36 ص|19 نوفمبر 2010

ينتظرون صدقات واشنطن ..فهمي هويدي

أرأيت كيف أن "لاءات" العرب تحولت إلى توسلات ورجاءات، حتى انتهى بنا الهوان أن صرنا نقف عراة عاجزين على أبواب واشنطن، ننتظر منها "صدقة" نستر بها عورتنا!

 (1)

ليست هذه هي الكارثة الوحيدة، لأن الكارثة الكبرى أن ذلك الهوان وجد من يدافع عنه ويستعذب استمراره، ويتجرأ على التنديد ببدائله، على الأقل فذلك ما سمعناه في خطاب السيد محمود عباس، الذي ألقاه في مهرجان ذكرى عرفات الذي أقيم في رام الله يوم الخميس الماضي (11/11). إذ اعتبر أن الممانعة والمقاومة أكذوبة ومجرد شعارات تنفع للاستهلاك في الفضائيات، وهو الكلام الذي احتفت به وأبرزته صحيفة الشرق الأوسط على صدر صفحتها الأولى في اليوم التالي مباشرة.

قبل أيام قليلة من خطبة أبو مازن كان الدكتور صائب عريقات كبير مفاوضيه يتحدث في ندوة عقدت في مركز "ودرو ويلسون" بواشنطن (يوم 5/11)، وأعلن أن السلطة الفلسطينية ستعطي الإدارة الأميركية مزيدا من الوقت لحل مشكلة الاستيطان الذي تصر الحكومة الإسرائيلية على استمراره، في حين ترفض السلطة الفلسطينية استئناف المفاوضات المباشرة ما لم توقف مشروعات الاستيطان. وهذه "المهلة" التي تحدث عنها السيد عريقات لها قصة لا بد أن تروى.

ذلك أن الأميركيين بعدما استدرجوا الفلسطيني إلى لعبة المفاوضات غير المباشرة التي تحولت بعد ذلك إلى مباشرة. وجدوا أن الأخيرة وصلت إلى طريق مسدود وتوقفت في 26 سبتمبر/أيلول الماضي. وهو اليوم الذي استأنفت فيه إسرائيل بناء المستوطنات بصورة علنية ورسمية.

وكانت تلك الخطوة بمثابة صفعة لأبومازن وفريقه، فسارع إلى عرض الأمر على لجنة المتابعة العربية التي أصبحت تؤدي دور "المحلل" لخطواته التي لا يستطيع تمريرها من خلال الشرعية الفلسطينية المعتبرة. حينذاك لم تجد لجنة المتابعة شيئا تفعله سوى إعطاء الإدارة الأميركية التي أصبحت تملك مفاتيح الملف مهلة شهر للبحث عن مخرج من ذلك المأزق.

وأغلب الظن أنه وضع في الاعتبار في ذلك القرار أن تكون انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأميركي قد تمت خلال ذلك الشهر، وأن يكون الرئيس الأميركي قد تحلل بصورة نسبية من بعض شواغله الداخلية. المهم أن هذه المهمة انتهت في 9 نوفمبر/تشرين الثاني، دون أن يصدر شيء عن الإدارة الأميركية. في حين أن إسرائيل واصلت مشروعاتها الاستيطانية باندفاع لافت للأنظار، فقررت بناء 1300 وحدة سكنية في القدس المحتلة و800 وحدة أخرى في مستوطنة "أرئيس" كبرى مستوطنات الضفة الغربية. وكل الذي فعله الرئيس أوباما أنه صرح بأن مثل هذه الخطوات "لا تساعد" في عملية السلام، كما أن فرنسا ودول الاتحاد الأوروبي أعربت عن "أسفها" إزاء ذلك.

ولأن السلطة الفلسطينية راهنت على الموقف الأميركي، لم تجد مفرا من تمديد المهلة لأسبوعين أو ثلاثة، إلى ما بعد العيد، وكأن البيت الأبيض سيكون بدوره في عطلة خلال عيد الأضحى!

 (2)

أشهر وصف للرئيس أوباما بعد ظهور الانتخابات وفوز الجمهوريين بالأغلبية في مجلس النواب أنه تحول إلى "بطة عرجاء" ستتعثر في مشيتها خلال السنتين القادمتين اللتين بقيتا له في الحكم. من ثم فما عجز الرئيس أوباما عن الوفاء به في السنتين الماضيتين (وقف الاستيطان مثلا)، سيصبح أعجز إزاءه في السنتين القادمتين.

ذلك أن مزايدة الجمهوريين على الجميع في الانحياز إلى جانب إسرائيل والعداء للفلسطينيين أمر معلوم للكافة. آية ذلك مثلا أن النائبة الجمهورية المرشحة لرئاسة لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب (إيليناروس) وصفت بأنها نسخة أخرى من أفيغدور ليبرمان وزير الخارجية الإسرائيلية، لأنها متطرفة ليكودية الهوى. وقد أيدت كل حرب إسرائيلية ضد الفلسطينيين، وكل حرب أخرى ضد العرب والمسلمين (جهاد الخازن-6/11).

لا غرابة في أن تعزز نتائج الانتخابات التشريعية الأميركية من موقف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي لم يكترث بعتاب الإدارة الأميركية عليه جراء رفضه وقف الاستيطان. وقد ظهر ذلك الاستقواء جليا حينما رد على انتقاد أوباما لمشاريع البناء الاستيطاني الجديد في القدس بقوله "القدس ليست مستوطنة. إنها عاصمة دولة إسرائيل الموحدة إلى الأبد". وهو ما عده الأميركيون وقاحة و"استفزازا مقصودا".

في التقرير الذي نشرته صحيفة الشرق الأوسط (في 11/11) من تل أبيب بخصوص هذه الواقعة، ذكر مراسلها أن كلام نتنياهو صدر عشية اجتماعه مع وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، مما فسر على أنه تحد سافر للولايات المتحدة وأن المراقبين الإسرائيليين رأوا في هذا التحدي بالون اختبار يقيس به نتنياهو مدى ضعف الرئيس أوباما بعد نتائج الانتخابات النصفية للكونغرس. (الشرق الأوسط 11/11).

كي نعطي الغضب الأميركي حجمه ونفهم حدوده نلاحظ هنا أن العتاب أو حتى الغضب الأميركي يظل عند حدوده الدنيا، وربما كان محصورا في التراشق الإعلامي فحسب. آية ذلك أنه بينما يتحدث البعض عن أزمة في العلاقات الأميركية الإسرائيلية تبين أن الكونغرس صادق في الشهر الماضي على زيادة حجم المعدات العسكرية التي تحتفظ بها في مخازن الطوارئ الأميركية في إسرائيل في العامين المقبلين من 800 مليون دولار إلى 1.2 مليار دولار. وهو ما يعني عمليا زيادة حجم المعدات التي توضع تحت تصرف إسرائيل في حالة الطوارئ بنسبة 50٪، علما بأن العتاد الجديد يشمل قنابل ذكية.

وفي تعقيب صحيفة «هآرتس» على هذه العملية ذكرت أنها من قبيل طمأنة الدولة العبرية إلى وقوف أميركا إلى جانبها، وأنه لا قلق على إسرائيل من "المجازفة" بتحقيق السلام مع الفلسطينيين.

 (3)

نتنياهو يعلم جيدا أن الرئيس أوباما صار أضعف مما كان عليه قبل الانتخابات الأخيرة، كما أنه على دراية كافية بقلة حيلة السلطة الفلسطينية ورئيسها، وهو ما يدفعه ليس إلى التمسك بموقفه والمضي في مشروعه بغير تردد. ليس ذلك فحسب وإنما يشجعه ذلك على أن يرفع من سقف طلباته ويتدلل إلى أبعد مدى ممكن.

فهو أولا يتحدث عن وقف جزئي ومحدود المدة للاستيطان لا يشمل القدس، كما أنه يساوم على المقابل الذي تتلقاه إسرائيل إذا ما قبلت بذلك "التنازل"، فتارة يتحدث عن شرط الاعتراف بيهودية الدولة العبرية، وتارة أخرى يبحث مع الأميركيين في شروط صفقة أمنية كبيرة أصبحت تفاصيلها محورا لسيل من التقارير الصحفية التي خرجت من واشنطن مؤخرا. إذ تحدثت تلك التقارير عن "حزمة حوافز" ستقدمها الولايات المتحدة لإسرائيل لمجرد أن تقبل بالوقف الجزئي والمحدود لمشروعاتها الاستيطانية.

الأفكار التي تضمنتها الحزمة المقترحة هي: عقد اتفاق أمني مع الولايات المتحدة لمدة عشر سنوات يوفر لها الحماية ضد الصواريخ ويضمن تفوقها العسكري -إبقاء وجود إسرائيل في منطقة الأغوار لعشرات السنين بحجة منع المتسللين من الأردن- ضمان منع الفلسطينيين أو العرب من تدويل الموضوع عبر نقل القضية إلى مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى غير ذلك من الشروط التي عدها سلام فياض رئيس الوزراء الفلسطيني أسوأ من الاحتلال.

من المفارقات أن رئيس الوزراء الإسرائيلي كان قد اجتمع في بداية هذا الأسبوع لمدة 7 ساعات مع وزيرة الخارجية الأميركية لبحث العقبات التي تحول دون استئناف المفاوضات المباشرة، والاستيطان في مقدمتها، لكن البيان الذي صدر بعد الاجتماع لم يشر إلى مسألة الاستيطان، وتحدث فقط عن وجوب "أخذ حاجات إسرائيل الأمنية في الاعتبار في أي اتفاق سلام مستقبلي مع الفلسطينيين. وكرر التزام واشنطن الراسخ بأمن إسرائيل وبالسلام في المنطقة".

 (4)

لا تفوتك ملاحظة أن نتنياهو خاطب واشنطن مباشرة ولم يخاطب الفلسطينيين أو حتى العرب "المعتدلين"، وإنما أصبح ينقل إليهم ما تم الاتفاق عليه مع الأميركيين. وهو ما فعله من قبل بشأن المفاوضات غير المباشرة والمباشرة. بما يعني أن الإنتاج يتم بين الطرفين، وأن الإخراج يتولاه الفلسطينيون والمعتدلون العرب من خلال لجنة المتابعة العربية أو في مؤتمرات ترتب لإحسان الإخراج وستر عورات الموقف.

لاحظ أيضا أن كل تلك الجهود تدور فقط حول إمكانية استئناف المفاوضات، التي تمهد للحل النهائي الذي لا يعرف له أجل، رغم أن الرئيس الأميركي تحدث عن فترة سنة للاتفاق على ذلك الحل. في الوقت نفسه ليس ثمة أي أفق أو إشارة إلى الاحتلال الذي هو جوهر القضية ولا لحدود الدولة الفلسطينية أو اللاجئين. ولا حديث عن القدس بطبيعة الحال. ولكن أمثال هذه العناوين الرئيسية مؤجلة عمدا لإتمام الانقلاب الجغرافي الذي تفرضه إسرائيل على الأرض يوما بعد يوم، والذي من شأنه استحالة قيام الدولة من الناحية العملية.

لاحظ كذلك أن إسرائيل وهي تسعى إلى توقيع اتفاق أمني لمدة عشر سنوات مع الولايات المتحدة تريد توفير غطاء يحميها مما تتصوره مخاطر تهددها من محيطها، في الوقت الذي تتولى فيه السلطة الفلسطينية حمايتها مما يقلقها من الضفة الغربية من خلال التنسيق الأمني، في حين يتكفل حصار غزة الذي تقوم فيه مصر بدور أساسي بتأمين إسرائيل من أي مصدر للقلق يلوح من القطاع.

وفي حين تؤمَّن على هذا النحو من كل صوب، فإنها تستمر في إتمام تهويد القدس وطرد فلسطينيي 48 بالتدريج، من خلال سحب الهويات وإجبار كل من يطلب الجنسية الإسرائيلية على الاعتراف بيهودية الدولة، ومطالبة كل موظف بإعلان الولاء لتلك الدولة اليهودية وإلا طرد من وظيفته.. إلى غير ذلك من الإجراءات التي تستهدف اقتلاع من تبقى من الفلسطينيين من بلادهم.

كأن كل ما يحدث الآن له هدف واحد هو حراسة إسرائيل لتمكينها من ابتلاع فلسطين وطمس الوجود العربي فيها تماما. وهو المناخ الذي سوغ لأحد أعضاء الكنيست (أربيه الداد) أن يدعو إلى عقد مؤتمر في تل أبيب خلال ديسمبر/كانون الأول القادم لمناقشة خيار التخلي عن حل الدولتين لشعبين، وتحويل الأردن إلى دولة الفلسطينيين القومية.

ذلك كله يحدث والسلطة الفلسطينية ومعها عرب الاعتدال لا يزالون يقفون بالباب الأميركي ينتظرون حلا، وهم يعرفون جيدا أنهم سلكوا طريقا لا يمكن له أن يوصل إلى حل طالما بقيت موازين القوى مختلة بين طرفي الصراع. لكنهم لأسباب يطول شرحها اختاروا أن يستجدوا الحل على أن يسعوا لإعادة التوازن للميزان المختل. وحاربوا بضراوة مستغربة كل دعوة للاستقواء بأسباب أو عناصر القوة الحقيقية، حتى الممانعة سخروا منها كما رأينا في كلام أبو مازن الذي عدها أكذوبة وشعارات تلفزيونية.

أما المقاومة فقد أصبحت مصطلحا سيئ السمعة وجريمة تعاقب عليها قوانين مكافحة الإرهاب. علما بأن القضاء عليها واجتثاثها يعد المهمة الأساسية لجهاز الأمن الوقائي في الضفة، وحجر الزاوية في التنسيق الأمني مع الإسرائيليين.

الآن يتحدث السيد أبو مازن ورجاله عن "خيارات" تراوحت بين مطالبة واشنطن بالاعتراف بدولة فلسطين أو التوجه إلى مجلس الأمن بذلك الطلب، وإذا عطله الفيتو يتوجهون إلى الجمعية العامة. وهم بذلك يضحكون علينا ويحاولون إيهامنا بأنهم أصحاب قرار، في حين أن أي طفل فلسطيني يعرف أنهم لا يملكون سوى الانصياع لما تريده واشنطن التي تدفع لأبو مازن وجماعته رواتبهم.

 

وهم أيضا يعرفون جيدا أن أبو عمار قتل لأنه تمسك ببعض الثوابت رغم كل ما قدمه من تنازلات، من ثم فالسؤال ليس إلى أي خيار سينحازون، ولكنه كيف سيقومون بإخراج الخيار الذي تقرره واشنطن، لأن الذين يستجدون ليس لهم الحق في الاختيار وغاية ما يسمح لهم به أن يقبلوا أيادي المانحين.