خبر لزوم اللازم../ علي جرادات

الساعة 02:46 م|10 نوفمبر 2010

لزوم اللازم علي جرادات

تتعدد التجليات، بينما التفتيت هو الجوهر الجامع بين ما يعانيه المشهد العربي من أزمات داخلية، في العراق ولبنان واليمن والصومال والسودان، وصولاً إلى فلسطين، "قضية العرب الأولى" في السياسة، ومفصل الربط بين مشرق العرب ومغربهم في الجغرافيا، وبؤرة استقطاب الاديان السماوية. فبعد أربعة وتسعين عاماً على تقسيم العرب إلى أقطار في إتفاقية "سايكس بيكو" التجزيئية عام 1916، وبعد ثلاثة وتسعين عاماً على وعد بلفور الذي أعطى (وطنا قوميا لليهود في فلسطين) عام 1917، وبعد أن غدت القُطرية مسألة بدهية في حياة العرب، خاصة بعد أن جرى ضرب المشروع الناصري التوحيدي والإرتداد عليه. بعد كل ذلك، يعود اللاعبون الإستعماريون بمصير العرب إلى ذات اللعبة، إنما بقيادة أمريكية بدل البريطانية، للعمل على تجزئة المجزأ، ليس فقط لمنع بلوغ "أضعف الإيمان"، أي التكامل القومي بين الأقطار العربية، بل للتفتيت (منع الإندماج) حتى داخل القُطر العربي الواحد، عبر تغذية تفتيته على مسطرة تنوعه القومي والطائفي والمذهبي.

  

 ولا عجب في ذلك، فإن كان تجزيء العرب إلى أقطار في "سايكس بيكو" واحداً من مقتضيات تنفيذ وعد بلفور في فلسطين عام 1948، فإن تكريس مولوده على الأرض ظل واحداً من مقتضيات تكريس ذلك التجزيء، بل من مقتضيات عمليات تجزيء أجزائه هذه الأيام، وإلا ما معنى تكرار المشهد، حيث يتلازم العمل الأمريكي على تجزئة المجزأ، أي الدولة القطرية الواحدة، مع محاولات شطب الشعب الفلسطيني من خارطة التاريخ والجغرافية والسياسة، عبر الدعم الأمريكي لنتنياهو في مطالبته للعرب والفلسطينيين الإعتراف بـ"إسرائيل" "كـ"دولة للشعب اليهودي".

  

 يُذَكِّرُ ترابط راهن محاولات تجزئة عدة أقطار عربية، بسكين التفتيت القومي والطائفي والمذهبي، مع محاولة شطب الفلسطينيين بمبضع الإعتراف بإسرائيل كـ"دولة للشعب اليهودي"، بأن جذور فكرة التطهير العرقي في فلسطين تعود إلى ما قبل عام 1948.فقد ظهرت فكرة الاستيطان اليهودي في فلسطين، قبل ظهور صيغتها الصهيونية أواخر القرن التاسع عشر، في دعوة فرنسية في مطلعه، (إبان الحملة الفرنسية)، وفي منتصفه في خطة بريطانية، إذ بينما كان المشروع الصهيوني قيد الطبخ والجدل، كتب بالمرستون (وزير خارجية بريطانيا آنذاك) عام 1843 إلى سفيره في الآستانة يدعوه إلى أن يوصي السلطان العثماني بتشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين في مواجهة إحتمالات تجدد مشروع محمد علي، وطموحه بقيام دولة عربية قوية نواتها مصر وبلاد الشام، ما يشير إلى أن فكرة الاستيطان اليهودي لفلسطين ولدت من رحم الحركة الاستعمارية الأوروبية، وجاءت على شاكلة تفريغ، وأحياناً إبادة، شعوب بكاملها في أفريقيا وأمريكا واستراليا، الأمر الذي يكذّب أن تكون "الصهيونية امتداداً لليهودية.

 

 ومنذئذ، وحتى يوم الناس هذا، لم ينفصل الترابط القائم بين سياسة إعاقة وحدة العرب، وزيادة تجزئتهم من جهة، وبين سياسة شطب الفلسطينيين عبر تثبيت إسرائيل كـ"دولة للشعب اليهودي" من جهة ثانية. اللهم إلا إذا كان بدون معنى سماح بريطانيا التي جزأت مع فرنسا وحدة العرب، لموجات هجرة يهودية متتالية الى فلسطين، أقامت تحت سمع وبصر سلطات إنتدابها مؤسسات اقتصادية وتعليمية وعسكرية، أعدت خطة مبيتة لما حلّ بالفلسطينيين عام 1948 من عمليات تطهير عرقي منقطعة النظير، أفضت إلى أن يتمكن اليهود الذين كانت ملكيتهم من الأرض 5,6% ونحو 30% من السكان، من اقتلاع وتشريد 65% من الشعب العربي الفلسطيني وابتلاع 78% من أرضه. واللهم إلا إذا كان بدون معنى ما تبديه الإدارة الأمريكية العاملة هذه الأيام على تجزئة أكثر من دولة قطرية عربية، من دعم علني ورسمي لمطالبة حكومة نتنياهو للعرب والفلسطينيين الإعتراف بإسرائيل كـ"دولة للشعب اليهودي". بل حتى من دون الإعتراض على ما جرى، وما زال يجري بتسارع، في الأراضي المحتلة عام 1967، من عمليات إستيلاء على الأرض واستيطان لها. فالمستوطنات اليهودية تبتلع مساحة 6% من الضفة، فضلاً عن الشوارع الالتفافية، فيما مسطحات القرى والمدن الفلسطينية كافة تبلغ 12%، ناهيكم عن ضم القدس الشرقية التي تبلغ مساحتها 17%، بعد أن جرى فصلها عن باقي الضفة، عبر تسويرها بأسيجة استيطانية ناهز عدد سكانها 200 ألف بما يزيد 30 ألفاً عن عدد السكان العرب الفلسطينيين، فيما أدى جدار الفصل العنصري التوسعي غربي الضفة ومصادرة الاغوارشرقها، الى تجزئة الضفة  إلى أربعة معازل، فضلا عن محاولات تأبيد فصل الضفة عن غزة، الفصل الذي ظل هدفاً إسرائيلياً ثابتاً، وجاءت حماقة حسم السلطة السياسية الفلسطينية فيه بوسائل عسكرية في حزيران 2007، لتصب الحب في طاحونة هذا الهدف الإسرائيلي، بصرف النظر عن النوايا التي يقود أحياناً حتى الطيب منها إلى بلاط جهنم.

 

 قصارى القول، إن ما جرى، من إعاقة لوحدة العرب منذ مشروع محمد علي التوحيدي، وصولاً إلى ضرب المشروع القومي التوحيدي الناصري، كان متلازما، وواحداً من مقتضيات مشروع شطب الشعب العربي الفلسطيني، والعكس صحيح. وبالتالي، فإن لا غرابة، في تلازم راهن المحاولات الأمريكية لتفتيت مكونات أكثر من قطر عربي، مع محاولة حكومة نتنياهو ليبرمان بدعم أمريكي، فرض الإعتراف بإسرائيل كـ"دولة للشعب اليهودي"، أي فرض التعامل مع شطب الشعب الفلسطيني كحقيقة غير قابلة للمساومة.

 

 لكن، وبرغم أن ترابط تفتيت العرب وشطب الشعب الفلسطيني يأتي كلزوم اللازم في حسبة مصالح عامل السياسة الخارجية المعادي، فإن لزوم اللازم في تجربة قوانين التاريخ تؤكد فشل هذه الحسبة. فوحدة جغرافيا العرب كعامل موضوعي، ظلت عصية في المحصلة النهائية، على كل محاولات العوامل السياسية الخارجية إقحام نفسها في تمزيقها، حتى ولو نجحت إلى حين، طال أو قصر. وكذا، فإن فلسطين التي لم تكن "تسيل باللبن والعسل" فقط، بل كانت تفيض بالناس أيضاً، فإن لزوم اللازم لهؤلاء الناس كعامل ديموغرافي موضوعي، لم تقو على طمسه أكذوبة "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض"، التي إنطوت منذ البداية على نية مبيتة لممارسة التطهير العرقي، الذي حل بالفلسطينيين عام 1948، كما اثبت بالوثائق المؤرخ الاسرائيلي إيلان بابيه في كتابه ( التطهير العرقي...).