خبر إسرائيليا القدس واحدة.. فلماذا لدينا قدسان../ رنا بشارة

الساعة 05:07 م|04 نوفمبر 2010

إسرائيليا القدس واحدة.. فلماذا لدينا قدسان رنا بشارة

لمن يهمه الأمر في القدس، وبالنسبة لمن يتابع، فإن تهويد القدس مستمر دون انقطاع ... الإسرائيليون ماضون به على قدم وساق، بل على قدمين وساقين.

 

أما التهويد فقد اختار أن يوجه سهامه مؤخرا بشكل مركز إلى قطاع السياحة الذي يعتبر عماد الحياة الاقتصادية في القدس الشرقية، ومصدر رزق تجارها من الفلسطينيين، وبوابة انتعاش الأحياء والأسواق داخل أسوار البلدة القديمة.

 

ولا يأتي توالي الإجراءات التي اتخذها الإسرائيليون مؤخرا عفويا أو بمعزل عن التخطيط الإسرائيلي للقدس منذ ستين عاما والمدفوع استراتيجيا وسياسيا. فهي تسير بموجب خطة أولويات يجري تنفيذ مراحلها بدقة.

 

كان الحدث الأبرز في فصول التهويد الأخيرة استضافة المؤتمر الدولي للسياحة في القدس في 20 تشرين الاول الماضي، والذي تنظمه منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ال OECD، وهي المنظمة التي قبلت عضوية إسرائيل فيها قبل أقل من عام فقط.

 

لقد تمكن الإسرائيليون من فرض انعقاد المؤتمر في المدينة، وذلك رغم رسالة أمين عام ال OECD، التي احتج فيها على تصريحات وزير السياحة الإسرائيلي من حزب "إسرائيل بيتنا"، حيث اعتبر الأخير اختيار القدس لاستضافة المؤتمر تأكيدا على كون المدينة عاصمة دولة إسرائيل". رفعت الرسالة العتب ( عتب الدول الإسلامية الأعضاء ربما) وعقد المؤتمر.

 

وإن كان المجتمع الدولي لا يعترف، ولو لفظا على الأقل، بقرار إسرائيل ضم القدس وإعلانها عاصمتها الموحدة واختارت دول لا يتجاوز عددها ثلث أعضاء منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عدم المشاركة بأعمال المؤتمر، إلا أن مجرد انعقاده ولو بحضور محدود إن دل على شيء فهو استمرار هشاشة وتأرجح الموقف السياسي الرسمي الدولي إزاء الممارسات الإسرائيلية في القدس، وغياب الإجماع داخله أمام إصرار الإسرائيليين على انتهاك قرارات المنظمات الدولية المتعلقة بالمدينة وتنفيذ مخططاتهم فيها.

 

في سياق ذي صلة، جاء الحدث الثاني... فقد كشف عدد من نواب اليمين الإسرائيلي عشية انعقاد مؤتمر السياحة عن مشروع اقتراح جرى إعداده منذ شهور لتعديل قانون الخدمات السياحية الإسرائيلي، بحيث تشترط بنود تم إضافتها للقانون على كل من يريد مزاولة مهنة الإرشاد السياحي من الفلسطينيين في القدس الشرقية أن يكون إسرائيليا. كما ويلزم القانون الشركات السياحية توفير أدلاء سياحة إسرائيليين بحوزتهم تصاريح عمل رسمية صادرة عن وزارة السياحة الإسرائيلية لمرافقة أية مجموعة من السائحين يبلغ عدد أفرادها أحد عشر سائحا فما فوق‏.

 

وما أدراك ماذا يشرح مرشدو السياحة الإسرائيليون لمئات آلاف السواح الذين يؤمّون المدنية سنويا؟ إنها في إسرائيل مهنة سياسية مؤدلجة بامتياز.

 

يرمي التعديل الى إحباط أي مسعى لترويج معلومات عن تاريخ المدينة وآثارها خارج نطاق الرواية الإسرائيلية، وإلى فرض نشر أفكار متمثلة بحق إسرائيل التاريخي والديني والثقافي في القدس... هذا عدا الكذب الصريح ونشر الخرافات فيما يتعلق بالاكتشافات الأثرية وتفسيرها، والدور الذي يقوم به أدلاء السياحة من الإسرائيليين على هامش مزاولة المهنة، والمتمثل بإجهاض رغبة السائحين بالتسوق في القدس الشرقية منعا لإحياء اقتصادها المحتضر، تحت ذرائع عمد الإسرائيليون إلى تكريسها في عقول السياح والحجاج الوافدين على مدار السنوات الماضية، مثل ارتفاع الأسعار في الأسواق العربية ولصوصية الفلسطينيين وإرهابهم. وبالتالي كان يتم توجيههم نحو التسوق في المناطق والأسواق الإسرائيلية، والمبيت في فنادق إسرائيلية في الشق الغربي، وشيِّد منها مؤخرا شرقي المدنية أيضا.

 

أما الإجراء الإسرائيلي الثالث فكان بمبادرة اللجنة الوزارية المسؤولة عن الشؤون التشريعية في إسرائيل للإعلان عن القدس "منطقة ذات أولوية قومية وطنية"، حيث يمنح الإسرائيليون بموجب هذا الاعلان امتيازات، وتسهيلات ضريبية، تشجع انتقالهم للعيش في القدس، وخاصة في الشطر الشرقي منها، حيث تبنى غالبية الأحياء الاستيطانية. وتشمل التسهيلات قروض امتلاك المساكن وتوفير فرص العمل وجذب الاستثمار في مجالات الإسكان والتعليم والثقافة والرفاه والصناعة والزراعة والبيئة والبنى التحتية، للحد من هجرة الشباب الإسرائيليين إلى خارج المدينة. وذلك كله من شأنه أيضا استقطاب المزيد من السياحة الوافدة للقدس، إضافة لأولئك الذين سيهاجرون إليها.

 

إن الهدف من هذه الإجراءات التأكيد على رسالة سياسية أمام العالم بأن إعادة تقسيم القدس يعتبر موضوعا غير قابل للنقاش، ولا رجعة فيه عند الإسرائيليين تحت أي ظرف.

 

إن استمرار الإسرائيليين بإجراءاتهم أحادية الجانب في القدس تحت غطاء الصمت العربي والدولي المستمر يمضي تلقائيا وواقعيا باتجاه إسقاط خيار العرب والقيادة الفلسطينية باعتبار القدس الشرقية وفق حدود العام 67 العاصمة المستقبلية للدولة الفلسطينية. مثلما يسقط الاستيطان وجدار "الضم" العنصري المقام في عمق باقي الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 67 خيار حل الدولتين، وهو الخيار الاستراتيجي الذي سعت القيادة الفلسطينية جاهدة إلى تحقيقه عبر مفاوضات استمرت على مدار حوالي سبعة عشر عاما دون جدوى، ومن دون جني ثمرة واحدة في القدس.

 

ويفتح استمرار الإسرائيليين بتغيير الواقع في القدس الباب على مصراعيه أمام الفلسطينيين والعرب- إن توفرت النوايا الحقيقية وحسن الأداء السياسي والاعلامي والقانوني والدبلوماسي- لوضع مصداقية موقف المجتمع الدولي من القدس على المحك، وذلك بالمطالبة جديا بفتح ملف الحقوق الفلسطينية في القدس بشطريها الشرقي والغربي بشكل متكامل، طالما استمر المجتمع الدولي صامتا وعاجزا أمام الممارسات الإسرائيلية في شطر المدينة الشرقي الذي احتل عام 1967، والتي ترافقت مؤخرا مع سلسلة اعتداءات نفذها المستوطنون في أنحاء مختلفة بحق عدد من المعالم الرمزية الدينية لمن هم من غير اليهود وآخرها كنيسة شارع الأنبياء في قلب القدس.

 

صحيح أن القيادة الفلسطينية- التي اختارت التفاوض على إقامة دولة فلسطينية على المناطق التي احتلت عام 67 خيارا استراتيجيا - قد لا تبدي حماسا لإثارة موضوع الحقوق التاريخية والسياسية لآلاف العائلات الفلسطينية التي هجرت عن مدينة القدس عام 1948 كغيرها، ( وبعض بيوتهم وأحيائهم الجميلة ما زالت قائمة يسكنها إسرائيليون)، وربما لا تريد أن تتسبب بإثارة الرعب النفسي الكامن في باطن عقول الإسرائيليين والناجم عن الإدراك غير المعلن بحجم الجرم الذي ارتكبوه بحق الفلسطينيين تاريخيا، وبالتالي قد يزعزع ذلك ثقتهم- أي ثقة الإسرائيليين- بمصداقية تمسك القيادة الفلسطينية بحل الدولتين وبالقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المستقبلية، إلا أن المطالبة بفتح هذا الملف في ظل الوضع الحالي يستمد شرعية بالغة كونه ينطلق من مثابرة الإسرائيليين غير المرعوبين من ضرب كافة القرارات الدولية المتعلقة بالقدس عرض الحائط، ومن الاستمرار بإجراءاتهم أحادية الجانب التي قلبت واقع الحال في القدس رأسا على عقب.

 

حرص الأمريكيون ومعهم الأوروبيون دوما على استخدام خطاب سياسي رمادي الشكل والمضمون يدعو الفلسطينيين والإسرائيليين الى القبول بتطبيق "مبدأ" حل الدولتين واعتبار "القدس عاصمة لدولتين"، رغم غياب أية ضمانات دولية حقيقية للجانب الفلسطيني بأن إقامة تلك الدولة مستقبلا سيكون على "كامل" تراب الأراضي التي احتلت عام 67، بما في ذلك الانسحاب الإسرائيلي التام من القدس الشرقية. هذا عدا الإغفال التام لحق العودة الذي أصبح عرضة للشطب والإسقاط في السر والعلن.

 

إن استخدام الأمريكيين والأوروبيين لخطاب يحتمل عدة تفسيرات ولا يرتكز الى أسس واضحة ومتفق عليها مع الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، يفتح الطريق أمام الإسرائيليين لإملاء شروطهم على الفلسطينيين بإجراء تعديلات محتملة على حدود العاصمة الفلسطينية المستقبلية في حال قبل الجانب الإسرائيلي، بأفضل السيناريوهات، مبدأ الانسحاب من القدس، بينما أصر من الناحية الاخرى على التمسك بالكتل الاستيطانية الكبيرة المقامة حول القدس عند بحث مكانة المدينة مستقبلا، وهو الأمر الذي كان كافيا وكفيلا بالماضي لإطلاق شعلة الانتفاضة الثانية عام 2000، بعد فشل مباحثات "كامب ديفيد 2" حول القدس بين الجانبين.

 

فقد أصبح الأمريكيون والأوروبيون يدركون تماما أن التعامل يجري مع طرف فلسطيني يبدي المرونة والاستعداد للتنازل الى أقصى الحدود وآخر إسرائيلي يزداد تعنتا وغطرسة بالمقابل، الأمر الذي يجعل مهمة قيامهم بوساطة نزيهة أكثر تعقيدا.

 

على أية حال، فإن خطابا رسميا دوليا ضبابي المضمون على هذا النحو من شأنه أن يترك، منطقيا، للفلسطينيين والعرب إن توفرت الإرادة السياسية الحقيقية، هامشا ليس بضيق للمطالبة الجدية بفتح ملف الحقوق الفلسطينية في القدس بشطريها الشرقي والغربي على نحو متكامل. إن لم يكن ذلك بدوافع سياسية وتاريخية، فليكن من باب الشعور الشعبي العربي والفلسطيني بالاستفزاز العميق الناجم عن استمرار الإسرائيليين بممارساتهم في القدس الشرقية... فلا يوجد عربي في القدس يشعر أن مصيره واضح أو مضمون.

 

لقد لوحت القيادة الفلسطينية من حين لآخر بإمكانية اللجوء إلى حل الدولة الواحدة بدلا من خيار الدولتين كلما انقشع المزيد من الغبار عن النوايا الإسرائيلية الحقيقية، إلا أن هذا التلويح لم يكن أكثر من تكتيك موسمي لا يخرج عن نطاق الانفعال ورد الفعل، ولا يبدو أن القيادة الفلسطينية تنظر إليه كخيار استراتيجي حقيقي، في هذه المرحلة على الأقل أو في المستقبل القريب.

 

أما إطلاق حملة جدية من أجل المطالبة بحق الفلسطينيين بممتلكاتهم وعقاراتهم وبيوتهم وأراضيهم في القدس بشطريها الشرقي والغربي فيبقى له خصوصيته، كون القدس باعتراف المجتمع الدولي الصامت والعاجز والمتواطىء لا تزال مدينة محتلة إسرائيليا، لا يجوز تغيير وضعيتها، وبحكم الاتفاقيات الموقعة بين الإسرائيليين والفلسطينيين لا سلطة فلسطينية فيها. أليس في ذلك مبررا مقنعا وكافيا لإعادة رفع سقف المطالب الفلسطينية إلى أعلى بعد أن هوى ذاك السقف أرضا؟!

 

بيوتنا في القدس الغربية ما زالت قائمة. لقد وجدوها جميلة فلم يهدموها بل استخدموها للسكن والمؤسسات الرسمية... وأراضينا أيضا ما زالت في مكانها لم تذهب إلى أي مكان!