خبر إنقلب كل شيء.. معاريف

الساعة 08:52 ص|20 أكتوبر 2010

بقلم: بن كسبيت

(المضمون: كان قتل رابين قتل دولة وديمقراطية لا قتل شخص فرد فقط - المصدر).

مرت 15 سنة، كيف يطير الزمن في هذا المكان. يُخيل إليّ من جانب أن هذا قد حدث أول من أمس. ما يزال في أنفي رائحة السيجارة التي أشعلها، في ساحة أسفل المبنى في الكرياه، متكئا على الحاجز الحديدي الشرطي، بعد لقاء ليلي آخر مع دنيس روس (في شأن "المسار السوري"). أنهى اللقاء، ونزل الى أسفل مع حراسه الثلاثة، ولاحظ صحفيين انتظرا وجاء ليدخن قليلا ويثرثر. كان خجولا كعادته، يحمر وجهه خجلا من آن لآخر (عندما يُسأل سؤالا غير مريح)، قليل الصبر احيانا، مع صوته الأجش العميق الذي استطاع التغلب على السجائر لكن لا على الرصاص.

ومن جهة ثانية، أي تغيير. إن تلك الفترة مع رابين ذاك مدفونة وراء جبال الظلام. لم تكن سهلة، لا حقا لكنها اشتملت على أمل. وكان يوجد هدف ونوع من الرؤيا. وكان ثمة رب للبيت. علم ما الذي أراده، وعلم الى أين يسعى، وقال الكلام في الوجه لكل من أراد الاستماع، والكثير جدا احيانا في الوجه، وكان مؤمنا. وآمن معه كثيرون برغم أن كثيرين آخرين لم يؤمنوا. لكن لم يؤمن أحد بأن الأمر سينتهي الى هذه النهاية.

كان ذلك عهد سذاجة، جال فيه رئيس الحكومة مثل العامة تقريبا، إذ لم يؤمن أحد بأن هذا ممكن عندنا، وفُتحت فيه أبواب اسرائيل على مصراعيها ودخل العالم بكامل قوته الى الداخل. غيّرت مسيرة السلام الاقتصاد، وغيّرت المجتمع، وربطتنا بعائلة الشعوب وآنذاك جاء يغئال عمير. اخفاق لا يمكن تصوره لجهاز الأمن العام وحراسه (لا أنجح حتى اليوم في فهم كيف يُرفعون هناك فريقا من اولئك الذين كانوا هنالك)، أبقاه حيا ونحن معه. نضطر الى أن نشاهد من آن لآخر الابتسامة البغيضة، والقبح الانساني في كامل مجده، وأن نشاهده وأمه واخوته و"زوجته" وذريته التي يُخلفها الآن ايضا. إن فسادا قوميا لا يمكن تصوره هو الذي يُمكّن هذا الرجل من التوحد مع زوجته والانجاب بدل أن يتعفن حتى آخر ايامه محاطا بالجدران.

يتحدثون كثيرا عن "تراث رابين". لا داعي لهذا. كل واحد سيجد في اسحق رابين تراثه الخاص. فثمة من سيحبون رابين الحرب، وثمة من سيفضلون رابين السلام. وقد كان ايضا رابين كرة القدم، والسجائر، وكأس الويسكي (الفاخرة)، ومشاجرة بيرس، وحركة اليد المستخفة، والحقيقة. قال الحقيقة دائما. كان سياسيا نادرا لم يحب الكذب، ولم ينجح ايضا. سُئل في آخر نشرة مذاعة لـ "موكيد"، قبل زمن قصير جدا من قتله (سأله شمعون شيفر) الى متى سيستمر، لانه قد أصبح في الثانية والسبعين والنصف. وأسرع رابين الى تصحيح السائل: أنا في الثالثة والسبعين والنصف، قال. ولم يعلم أنه لن يحتفل بالرابعة والسبعين.

ليس التراث مهما. ولا أعلم أن أقول ماذا كان سيصنع رابين في نهاية الامر. أسلام؟ أحرب؟ كيف كان يعالج الموجة الارهابية التي بدأت تُغرقنا. وماذا كان يفعل مع حماس. ربما كان ينجح وربما كان يفشل. ربما كان على حق وربما اخطأ. المهم حقا، من موقعنا أن رابين قُتل. أن يد اسرائيلي يهودي ضغطت على الزناد ثلاث مرات. بدم بارد، وبذراع ممدودة، تسلل يغئال عمير تُغرقه الكراهية والتحريض، مثل لص في الليل وأطلق النار على ظهره. لماذا؟ لانه اعتقد أنه ينقذ شعب اسرائيل بذلك.

هل نجونا؟ ما زال من السابق أوانه أن نجزم. الشيء الوحيد الذي يجب أن يطفو وأن يتضح وأن يستقر أمامنا في صوت عظيم رسالة واحدة وبسيطة وواضحة وهي أن لا يُقتل رئيس حكومة في اسرائيل. وألا تُرفع يد على منتخب من الجمهور. يمكن التظاهر والقتال وإساءة السمعة والدعاية وصنع كل شيء بشرط عدم رفع اليد. يجب أن نتحد جميعا حول هذه القضية. اليمين واليسار، واليهود والعرب وكل من تهمه الديمقراطية في هذا المكان. وليس قاتِل رئيس الحكومة قاتلا عاديا. أجل، إن دم رابين أشد حُمرة. أطلقوا سراح دانيال عوكيف بعد 13 سنة من اطلاقه النار بدم بارد وبلا سبب على رأسي سائحين بريئين. لا يجوز اطلاق سراح يغئال عمير أبدا، لأنه لم يقتل انسانا فقط. فقد قتل دولة وديمقراطية ايضا.

يؤسفني أن هذه الرسالة تُقوض كل سنة. فجرأة اليمين المتطرف أخذت تزداد. انهم يقوون حقا، الرفاق، وتُغرقنا معهم نظريات المؤامرة، ويطالب اليمين بحقه عن إهانته. أي إهانة؟ ما الذي يتحدثون عنه. كيف يمكن أن ينقلب كل شيء فجأة؟ أصبح القاتل ضحية، وأصبح المحرضون مظلومين، والمسؤولون لم يُقدّموا حسابا، وكلهم يغسل راحتيه وتزيد جرأتهم وتطغى كل سنة. الى أن يلقى يغئال عمير آخر الامر، كما في ذلك البرنامج الذي لا يُنسى للخمسة الفكاهيين، ايتان هابر في الشارع ويضحك في وجهه. فرابين أصلا لم يُقتل بل انتحر.