خبر كتب أيمن خالد : تركيا وأمريكا.. إحلال واحتلال السياسة

الساعة 09:33 م|11 أكتوبر 2010

كتب أيمن خالد : تركيا وأمريكا.. إحلال واحتلال السياسة

القدس العربي

تقترب المنطقة من نموذج جديد غير مسبوق، يفضي إلى رحيل احتلال السياسة الأمريكية للمنطقة، وحلول النموذج التركي للسياسة، ويمكن أن أقول، الساعة السياسية على وشك أن تدق حسب التقويم التركي.

من دون مبالغة في الأمر، الخروج الأمريكي، يمنح بشكل تلقائي السياسة التركية حضورا واسعا على صعيد المنطقة، فأمريكا عمليا بدأت تغادر المنطقة، بغض النظر عن الحروب المحتملة القادمة، وعن القواعد العسكرية التي يمكن أن تستمر عقدا من الزمن وتجد من يدافع عنها ويحفظ وجودها من العرب، لكنها تغادر عمليا من الناحية السياسية، وهي فلسفة غير منطقية، لأن القاعدة أن القوة العسكرية تفرض اللعبة السياسية وفق منطق السياسة ذاتها.

أبرز ما في المسألة هو المنطق الأخلاقي، الذي تكتسبه السياسة التركية، التي تدخل من الباب الواسع، فهي شعبية بامتياز، وهي تولد تعاطفا معها كيفما ولى الساسة الأتراك وجوههم، فالساسة الأمريكان قدموا السياسة الأمريكية كسياسة انتهازية منحازة مدمرة، تمارس شتى صنوف القهر الإنساني وتستخدم كامل مفردات الإمبراطوريات البائدة، فهذه السياسة تمر اليوم أمام مرحلة مكاشفة حساسة ولو غير متكافئة بالمنطق والصورة، فلا تستطيع هذه السياسة أن تفرض انحناء السياسة التركية تحت لوائها ولا هي أيضا تستطيع إزاحتها وصناعة بدائل للمنطقة، لان الأمريكان بمفردهم ومع أنظمة المنطقة استنفدوا كامل قدراتهم في عالمي السياسة والحرب، وأيقنوا أن حركة التاريخ لم تعد تسير وفق المنطق القديم. فالأمريكان لا يستطيعون الوفاء حتى لحلفائهم، ولا يملكون ضمانات مستقبلية لهم، وحتى الأماكن التي تدخلوا بها عسكريا بغية إحداث التغيير المنشود، تحولت إلى أعباء جديدة، أمام ناظر البلدان والشعوب التي تراها مجرد سياسة تجريبية تعمل على افتراض المنطقة كمختبرات تجريبية، في وقت باتت فيه التكنولوجيا المتاحة وصنوف المعرفة تفرض وعيا يعري ويكشف طبيعة الهيمنة الأمريكية، التي هي متقدمة على الصعيد التقني على كل العالم، ولكنها متأخرة على الصعيد الإنساني والبشري.

وبالتالي فمنطق العصر، لا يمكن أن يبقى وفق عقلية الماضي التي تنصاع فيها الشعوب أمام هاجس الرعب، ففي اغلب البلدان ونتيجة التجويع والقهر والإذلال، أصبح يستوي منطق الموت والحياة، فالقهر الذي بلغته الشعوب وهي حية وتعيشه وتتمرغ فيه يوميا، بات يصنع نقيض الخوف، فروح التحدي تصنع من فقراء أفغانستان ودول كثيرة، قنابل ترغب بالانفجار في كل وقت ومكان، أكثر من رغبتها بالهروب والوقوف في طوابير اللاجئين، كما هي قراصنة الصومال، فهي ببساطة مزاحمة وسط الموت للقراصنة الكبار، فالمنطقة بمستضعفيها تشهد تمردا على النمط السياسي القديم، وبات يداعب عقول الناس إحلال منطق مختلف، وتعامل مختلف مع الشعوب.

فأمريكا تعجز كليا عن أن تجعل شعوب المنطقة تستظل بالإحباط، خصوصا بعد حربي تموز وغزة، في مشهد يؤشر نحو رحيل المنطق الأمريكي، وإذا كنت افترض النموذج التركي بديلاً، فذلك لأن تركيا الجديدة وساستها نشأوا في ظروف مشابهة عاشتها المنطقة العربية، وإذا كنت استثني سياسة عربية راشدة، فالزعماء العرب لا يزالون بمعزل عن شعوبهم، ولم يصنعوا بعد مراكب فضائية للتواصل بينهم وبين شعوبهم. السياسة الأمريكية ترتكب نوعا من الجنون الذي لا يستوعبه عقل، فهي تريد أن تكون كامل منطقة الشرق الأوسط مجرد (أشباه دول) كما هي الصومال، وهو منطق معقد، فمرحلة أشباه الدول، التي تقوم على أساس تأجيج الصراعات الطائفية والعرقية، وتشعل روح الانقسامات، وفي نهاية المطاف، لا تعي أمريكا منطق التطرف الذي بات يتمدد وسط هذه الفوضى، وهو منطق يولد في أشباه الدول، وهو مرض يصيب صانعه بالعدوى فمركزية الدولة، هي ضمانة فوق الفوضى مهما كان حجم المشكلات السياسية الداخلية. فاحتلال أفغانستان مثلاً، جعل مجموعات وأفرادا في صحراء افريقيا، المنطقة الأكثر عطشا في الكون، جعلها الآن تمتص من خيرات أوروبا، ولعل الترجمة في أزمات الرهائن.

السياسة الأمريكية تتجه نحو الرحيل، لأن أمريكا تجفف منابعها في بلادنا، فهي سياسة صفراء لا يلوح منها ما يبشر بخير، ولا تُطمئن حتى حلفاء أمريكا، فالملك العقيم، يستشعر استجابته لأمريكا عنوان زواله، فالرهان ليس على الشعوب فحسب، خصوصا ان حركة الشعوب بطيئة، بعد أن جردت من كامل مقومات القوة، لكنه رهان قد لا يبدو منطقياً، أن تستشعر ذات القوى الحاكمة شكلا جديدا للسياسة، ولعل في نموذج كردستان العراق ذلك الهمس الهادئ، فالأكراد غضوا الطرف عن كركوك، وسيفعلون المزيد، وسيتوجهون من جديد عربياً، فالجسور مع تركيا ستعيد الطبع إلى أصله.

ومن الأمثلة، أن السدود التي بنتها الحكومات التركية السابقة بالتعاون مع إسرائيل من اجل منع الماء عن سورية، هذه السدود تحولت الآن في سياسة تركيا الجديدة، إلى خزانات احتياطية لمساعدة سورية، بينما إسرائيل ـ التابع الأمريكي- نقلت هذه التجربة إلى إثيوبيا لأجل أن تعطش مصر، رغم وجود كامب ديفيد الذي أخرج مصر من دائرة المواجهة، هذا هو منطق السياسة الأمريكية التي لا تفهم غير الهيمنة، بمقابل منطق السياسة التركية التي ستكون بديلا طبيعياً، أمام الرحيل الأمريكي المرتقب.

كاتب فلسطيني