خبر رحلة العذاب إلى غزة ..فهمي هويدي

الساعة 11:06 ص|09 أكتوبر 2010

رحلة العذاب إلى غزة  ..فهمي هويدي

الرحلة إلى غزة أو مغادرتها عبر البوابة المصرية أصبحت قطعة من العذاب، ونموذجا للمذلة التي يتجرعها أبناء القطاع في صبر مسكون بالدهشة، في حين أنها تشين مصر وتسيء إليها أيما إساءة.

ذلك أن الغزاويين الذين يحنون إلى وطنهم وأهليهم ما إن يصلوا إلى مطار القاهرة الدولي حتى يزج بهم في قبو قذر، لا نظافة فيه ولا خدمات، ولا من يسمع إلى شكاوى المحتجزين، ولا من يستجيب إلى طلباتهم، ولا ماء لديهم ولا طعام،

 

 وإنما عليهم أن يشتروا من حر مالهم، لأنفسهم وأطفالهم وللشرطة التي تحرسهم، الطعام والشراب والدخان، وبالسعر الذي يفرض عليهم، فلا أحد يقوى على المساومة أو النقاش، فمن يرد أن يأكل فليدفع، ومن ليس معه فلا يلزمه.

 

في ذلك القبو البائس، الذي يتناقض تماما مع مطار القاهرة الدولي، الذي يتيه ببنائه، وبالخدمات الرائعة ذات النجوم الخمسة التي يقدمها للمسافرين منه، أو العابرين فيه، يجتمع مئات الفلسطينيين مع عشرات آخرين من جنسيات مختلفة، ولكن الصبغة العامة للمحتجزين أنهم من أبناء غزة، من الرجال والنساء، والشباب والصغار والأطفال، الذين يجتمعون في مكان واحد، تختلط أنفاسهم، كما يضيق المكان بأجسادهم، وتضج ساحته الضيقة بصراخ وبكاء الأطفال،

 

وهم الذين جاءوا من أماكن عديدة، كانوا يتمتعون فيها بالحرية، ويزهون بالكرامة، وينتقلون كيفما شاءوا من مطار إلى آخر، دون قيود أو عقبات، وكانوا يعتقدون أنهم سيجدون من السلطات المصرية، معاملة حسنة تليق بهم كفلسطينيين عرب، عائدين إلى أرضهم ووطنهم،

 

ولكنهم يفاجأون باحتجازهم من دون المسافرين وأخذ جوازاتهم منهم، وبعد ساعتين أو أكثر يظهر شرطي حاملا رزمة جوازات السفر، ويتولى النداء على الأسماء، ليسوق الجميع إلى القبو الآثم، بعد أن تجري سلطات الأمن فرزا مقيتا للمسافرين، فتفصل الأم عن أطفالها، وتعزل الأب عن أولاده، وتحتجز الأم دون الأطفال، وأحيانا الأطفال دون الأم، وأمام موقف من ذاك القبيل لا تجدي الدموع، ولا تنفع العبرات، ولا تغير الاستجداءات ولا الدعوات ولا آهات النساء، وصراخ الأطفال. بل هي قرارات يجب أن تنفذ، وما على رجل الأمن إلا أن ينفذها بكل ما تحمل من خشونة وقسوة.

 

في الصباح الذي قد يتأخر لأيام عدة، وبعد أن يصل عدد الفلسطينيين المحشورين في القبو إلى المئات، تبدأ عناصر الشرطة في دفع الناس إلى حافلات خاصة، وتسيرهم ضمن قوافل محروسة، ومواكب أمنية إلى معبر رفح الحدودي، فيما يشبه عمليات نقل الأسرى والمعتقلين، دون مراعاة لحرارة الجو اللاهبة، أو لطول المسافة ومشقة الطريق، أو لحالة الصبية والأطفال، والشيوخ وكبار السن، تبدأ الرحلة إلى غزة، في ظروف قاسية، وحافلات غير مريحة، فيقسم المرحلون فيها ألا يعودوا لمثلها من جديد، وألا يغادروا قطاع غزة مرة أخرى، وأن يبقوا في غزة مرابطين لا يغادرونه.

 

أما الزائرون فيقسمون ألا يفكروا في زيارة قطاع غزة عبر معبر رفح، وأن يكتفوا بالتضامن مع أهله عن بعد، وفي نصرته من مكانهم، دون الحاجة إلى الانتقال إليهم. وبعضهم تجشم عناء المغامرة وركب البحر ضمن قوافل الحرية، ليدخل إلى غزة عبر البحر، ليتخلص من المعاناة التي يلقاها المسافرون في طريقهم إلى معبر رفح.

 

حين يمر المرء بتجربة من هذا القبيل فإنه لا يستطيع أن يكتم مشاعره. وإنما يظل يستعيد على مسامع أهله ومعارفه قصة المعاناة في الذهاب أو الإياب، كأن المخططين لمسار رحلات الذل والهوان، يريدون أن يتناقل الناس هذه القصص والحكايا، ليمنعوهم من مغادرة القطاع، وليحولوا دون عودتهم إليه.

 

وواقع الحال يقول إن السلطات الأمنية المصرية تبالغ في إجراءاتها القاسية. إذ فضلا عن احتجاز المسافرين والعابرين في أقبية مطاري القاهرة والعريش، فإنها تمنع أي وافد غزي من الدخول إلى مصر، حتى يحصل على إذن أمني أو تأشيرة مسبقة.

 

وإذا حدث أن وصل إلى المطار دون أن يحصل على الموافقة الأمنية والتأشيرة الرسمية، فإن سلطاته تجبر الشركة الناقلة بإعادة المسافر من حيث أتى، أما إذا حصل على الإذن أو التأشيرة فإن هذا لا يعني أن يجتاز الأراضي المصرية حرا إلى معبر رفح، وإنما يعني أن يسافر مخفورا إلى القبو انتظارا لقوافل السبي التي تقوده مع مئات إلى معبر رفح الحدودي.

 

حين تلقيت هذه الرسالة على البريد الإلكتروني من أحد ضحايا الرحلة الحزينة وهو من حملة شهادة الدكتوراه، قلت: لا خير فينا إذا لم ننشرها. وها هي بين يديك للعلم والنظر.