خبر السياسة وفن تجريع الوهم..علي عقلة عرسان

الساعة 12:26 م|08 أكتوبر 2010

السياسة وفن تجريع الوهم..علي عقلة عرسان

 

قمة استثنائية عربية تعقد في سرت اليوم السبت، وأخرى إفريقية ـ عربية غداً الأحد، العاشر من شهر تشرين أول/أكتوبر 2010، لبحث قضايا عربية مهمة، منها مفاوضات الرئيس عباس مع العدو الصهيوني حول ما تبقى من فلسطين والحقوق والناس، وقضايا أخرى تتعلق بالجوار العربي وما يستهدِفه ويتطلع إليه.

إن ما يرجى من القمتين كثير، وربما لن تخرجا بشيء ملموس يغير من واقع الأمور على الأرض شيئاً، ومن نظرة الناس إلى الساسة ومعاناتهم في ظلهم أشياء، ولكن من المؤكد أننا سوف نسمع كلاماً مشجعاً في البيانات والتصريحات والإذاعات والفضائيات، وسوف يساعدنا ذلك على ابتلاع مزيد من الوهم الذي أدمنَّاه بفضل تلك السياسات وأبطالها وإبداعهم، فتلك الميزة التي للخطاب السياسي العربي لا تضاهيها ميزة، ولا تُقدَّر بثمن، وهي حيوية وضرورية لمن هم في مثل وضعنا، لأن علاجنا من داء التآكل والتواكل والوهم غير ممكن في الزمن العربي الراهن، ولا بد إذن من مسكِّنات لمن يشعر بألم الطموح ويتطلع إلى الإصلاح والإنصاف والنهوض والحرية والكرامة، ولا بد أيضاً من "مهضِّمات" ومشهِّيات ليبتلع الشعب العربي وجبات أخرى من الهم والوهم.

ولأن السياسة عموماً حاكمة ومتحكِّمة إلى حد بعيد، لا سيما في ظل الجهل والتجهيل، وتفشي الفساد والإفساد، واستخدام القوة بنوعيها الصلبة واللينة إلى حد الطغيان، وتفعيل سلاح التشويه والتهويش والتهميش حتى السحق ضد المغاير النظيف القادر، وتغييب روح المواطنة المنتمية بوعي والتزام وصدق بذرائع شتى، يحسِن تزويرها وحشدها الفارغون من كل قيمة وكفاءة، وندرة المبادرات الشجاعة البناءة، وغياب الوعي المتمثل إرادة جماهيرية حرة، قادرة وفاعلة ومهيمنة.. لأن ذلك كذلك، فإن الأمل في الخروج من هذا النفق المظلم ضعيف، بل ضعيف جداً حتى ليكاد يبدد الأمل.. وأن المرتجى المنتظَر يكمن في تربية وطنية وقومية ودينية واجتماعية علمية متينة وسليمة، وثقافة متمكِّنة متكاملة مسؤولة، تساهمان في تكوين الضمير الحي والوجدان الجمعي، وفي تنمية قدرات الإنسان ومعارفه، وإرادة التغيير والعقل المستنير لديه، وتلتزمان العدل والحرية والديمقراطية السليمة سبيلاً لحسم المختَلَف عليه من دون إلغاء أو تزييف أو تحريف أو عنف.. ومن ثم التغيير بالحكمة والحنكة والإرادة الصلبة والاستقامة الخيِّرة التي تزداد الحاجة إليها لأن الفضيلة الأصيلة غير متمكنة ولا متأصلة في الأنفس. وهذا كله أو جله لا يتحقق من دون إرادة سياسية تتمثل إرادة الأمة وتعي الواقع والضرورات، وتدرك أن الإنسان الحر الكريم العارف المنتمي بمسؤولية ووعي، هو الرافعة الأولى والرئيسة، وربما الوحيدة، للنهوض وتوفير الحماية ومقومات التحرير والحرية والأمن بشمول الكلمة لمفاهيمه وأبعاده ومجالاته، ولمواجهة التحديات الخارجية والداخلية، تحديات العصر والعلم والآخرين الطامعين، وللخروج من الأزمات، والإبداع في إيجاد وسائل النهوض وأدواته ومقوماته، وممارسة فعلي البناء والتقدم، باقتدار علمي وتقني وعملي.

ولا يستطيع السياسي، ومن ثم ما يرسمه من سياسات وما يضعه من خطط وبرامج، وما يستخدمه من طاقات ويوظفه من إمكانيات.. لا يستطيع أن يختار هذا الاختيار، وأن يقوم بالفعل الذي يحققه، بتجرد ونزاهة وغيريّة وموضوعية وترفع، وارتفاع إلى مستوى المنقذ من الأفعال، إلا فيما ندر من حالات وشخصيات، وفي أزمنة وأمكنة معدودة، فهو عادة لا يرى من المشهد القومي الوطني والاجتماعي والثقافي، وحتى الإنساني العام، إلا ذاته وسلطته ومصالحه، ولا يسعى إلا إلى ضمان بقائه في السلطة، بصرف النظر عن الأساليب والوسائل والأدوات والمعايير والقوانين، والنتائج التي تترتب على سياساته ومواقفه وممارساته.. فالمستقبل لديه هو مستقبله قبل الوطن والناس، والنهوض بالأمة هو في طاعتها له وتدني سلم تطلعاتها، وربما في ضعفها المستمر وذلها المقيم وجهلها المتفاقم.. وهو في أحسن الأحوال والتطلعات والإصلاحات يماهي بين ذاته ومصالحه من جهة والوطن والناس من جهة أخرى.. فما هو خيِّر ومفيد له خيِّر ومفيد للناس والوطن.؟!

وهكذا نجد أنفسنا نعود، عند طلب الإصلاح والتغيير والحياة الكريمة والأمن من جوع وخوف.. نعود إلى السياسي والسياسة التي يرسمها، سواء ذلك القابض على زمامها أو من يأتي بالقوة ليمسك الزمام ذاته وبالمواصفات ذاتها، أو بما هو شبيه لها أو قريب منها. والسياسي في الأحوال كلها لا يرى وجاهة لما ينبغي أن يغيَّر أو يُصلَح أو يُعمَل، وقبولاً به وإقبالاً عليه، إلا إذا كان مما يخدمه ويعزز نفوذه وسلطته وسطوته، ويبقي عليه آمراً وآمناً في سدة الحكم، وعلى مصالحة نامية، في مناخ اجتماعي وثقافي لا ترتفع فيه الرؤوس والأصوات، ولو بكلمة حق أو تضور من جوع، أو بشكوى من ألم..

وبهذه العودة الملزِمة تكتمل الحلقة المفرَغَة التي ندور فيها، وتستمر الطواحين التي تسحقنا في أثناء دورانها.!؟

  إن من المؤكد أن الزمن لا يترك حالاً من الأحوال تستقر إلى الأبد على ما هي عليه، وأن دولابه يدور وفي دورانه تغيير، لأن ذلك من قوانين الحركة ونتائجها، وأنه لا يبقى حاكمٌ في الحكم إلى الأبد، وأن تداول الدول يتحقق، و"في تغيير الدول رحمة" بمعنى من المعاني، حيث يسقط متسلِّط ومنتفِع وفاسد فيرتاح مغضوب عليه ومسحوق ومظلوم ومستغَل ومقهور ونظيف، ليحل محل من يسقط آخر يفعل فعل الأول وتطال شروره أفراداً وشرائح اجتماعية أخرى، تصبح بدورها في موقع المظلوم والمقهور والمستعبَد والمستغَل.. وهكذا دواليك تدور دوائر السياسة على أهلها وعلى الناس. والسؤال المؤرق: كيف نضمن أن نغير الأحوال ومآل التداول السياسي ومضامين السياسة ومفاهيم الحكم وأهدافه وممارساته، لكي نصل إلى تغيير يكون نحو الأفضل بالضرورة، إذا لم تكن الأجيال التي تنشأ وتكبر وترتقي سلم المعرفة والقيم والحكم، ناضجة نفسياً وعقلياً ومعرفياً وخلقياً، ومحققةً تقدماً روحياً وثقافياً واجتماعياً ومعرفياً وسياسياً على الخصوص، فتفرز قيادات تتمتع بالحكمة والعدل والرؤية المستقبلية المبنية على احترام الإنسان وحرياته وحقوقه وتلبية احتياجاته الضرورية، وعلى خدمة الناس والوطن والقيم الخلقية والاجتماعية والإنسانية الرفيعة.؟! إن هذا يحتاج إلى مناهج تربوية ومعرفية، وإلى قدوة في القول والعمل، وإلى مناخ سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي يساهم في ذلك التكوين.. ومفاتيح ذلك كله بيد السياسة السياسيين، وشريك فيها من ينافقهم ويزين لهم أعمال ظلم وقهر، من المقربين والمثقفين والحواشي وسواهم.. وهكذا نعود إلى دورة بغل الناعورة ومعاناته. 

يبدو أن ضمان الوصول إلى ذلك الأفق أو الطموح المشروع أو التطلع إليه، دونه رط القتاد، ويدخل في نطاق الأحلام والأوهام التي يجرِّعُنا إياها الساسة والسياسة دائماً وبعض المثقفين والثقافات أحياناً، وهو ما نتطلع إلى تغييره أو التخلص منه، وأن كل تلك الأحلام الوردية التي نتفيأ ظلالها هرباً من قَرٍّ الظلم والقهر وقيظهما، أو تطلعاً إلى العدل والكرامة والسعادة.. ما هو إلا توغّل في بيداء الوهم، وبحث عقيم عن الغول والعنقاء والخل الوفي.. كما يبدو أيضاً أن الطوباوية والمثالية، الدينية والفلسفية، الأفلاطونية والماركسية وسواهما.. تتداخلان، بل تتماهيان عضوياً في تفاعلهما، وأن أحوال الجماعات البشرية الفقيرة والبسيطة والنظيفة والبريئة أحياناً، تخرج من ظلم إلى ظلمة، ومن نزف إلى حرب، ومن وهم إلى هم ووهم، ومن بؤس سياسة إلى زمهرير سياسة أشد بؤساً.. وأن الكثرة الكاثرة من البشر تدور، مثل بغل الطاحون والناعورة، في الحلقة المفرَغَة ذاتها، تجر الرحى وتلهث، تدوخ وتمشي وتلهث، تلتهم الوهم وتطلب المزيد منه لتصبر وتنسى وتحتمل، وتنشد الخلاص والراحة.. ولكن متى وأين؟! وذلك يمكن أن يتوفر لها إن لم يكن في الحياة ففي الموت، وإن لم يكن في الدنيا ففي الآخرة.   

إن الشكوى والأمل والتطلع والسعي، كل ذلك لن يتوقف ولن ينقطع، ويبقى من حق الإنسان أن يعترض على ظلم الإنسان وطغيانه، وأن يحتج على سياسة لا تجيد إلا فنون تجريع الوهم للناس، وأن يتطلع إلى عدل ومساواة وأمن من جوع وخوف في ظل حرية وكرامة أثناء وجوده حياً.. وأن يُعدّ نفسه ويستعدّ للدفاع عن الذات والحياة والحق والهوية، ومقومات العيش المادية والروحية، في دنيا هي، كما يبدو، دار بلاء وابتلاء.. وأن يستمر في ذلك إلى أن تعود الأنفس إلى بارئها: مالك الملك، وخالق الخلق، وباذل الرزق، ومن تؤول إليه الأمور، وترجع إليه كل نفس، وهي بما كسبت واكتسبت رهينة، لترى ما عملت محضراً، وتوفَّى حسابها بعدل.. فمن يعمل مقدار ذرة خيراً يره، ومن يعمل مقدار ذرة شراً يره.

  دمشق في 8/10/2010