خبر انتظر.. هنا نقطة تنسيق إسرائيليّة لرام الله المحتلة

الساعة 05:46 ص|06 أكتوبر 2010

انتظر.. هنا نقطة تنسيق إسرائيليّة لرام الله المحتلة

رانيا زبانه

كانت عقارب الساعة تقارب التاسعة صباحا، وفي الخارج وقفت ثلاث سيارات تحمل لوحات تسجيل فلسطينية أمام ما يشبه السجن؛ بوابات حديدية، جنود إسرائيليون مدججون بالسلاح وأسلاك شائكة فوق جدران إسمنتية شاحبة... هذه نقطة التنسيق الإسرائيلية لمدينة رام الله المحتلة في مستوطنة بيت إيل، القابعة على أراضي الفلسطينيين المحتلة شمال شرق المدينة.

خلف الزجاج السميك في غرفة الانتظار مجندة إسرائيلية اسمها معايان، حنطية اللون، بليدة وفظّة. على الجدار لوحة إعلانات تبيّن الوثائق المطلوبة لتقديم الطلبات المختلفة، هذه التي لا تلبث أن تتغير كل مرّة. وفي الزاوية وثائق بالعربية لأوامر عسكرية إسرائيلية تعلن عن مصادرة قطع أراض لأسباب «أمنية». وعلى المقاعد الخشبية فلسطينيون ثلاثة ينتظرون تعليمات الاقتراب من النافذة لاستلام أرقام تسمح لهم بدخول غرفة أخرى لتقديم طلبات تصاريح لدخول أراضيهم، أداء صلاتهم أو تلقي علاجهم...

سفيان كان أحد الوافدين صباحاً إلى نقطة التنسيق هذه. «صارت بيت إيل بيتي الثاني»، يقول متهكما. الفلسطيني البالغ من العمر 35 عاماً أمضى ما يزيد عن نصف عمره عاملاً في البناء داخل إسرائيل، حاله حال 40 في المئة من العمال الفلسطينيين الذين يعملون هناك من دون تصريح. جاء اليوم في محاولة أخرى لاستصدار تصريح يسمح له بحضور محكمة تقام له داخل الخط الأخضر، بعد أن ألقت الشرطة الإسرائيلية القبض عليه قبل نحو عامين؛ فمنعته من دخول إسرائيل وفرضت عليه غرامة مالية تتجاوز قيمتها 1300 دولار أميركي. أكثر ما يخشاه سفيان في حال لم يتمكن من حضور المحكمة هو الحكم عليه بالسجن الفعلي في ما لو ألقي عليه القبض من جديد.

وأخيراً، تنادي معايان: «تعال ع شباك،» باللهجة التي اعتاد الفلسطينيون سماعها من الجنود الإسرائيليين. يتقدم فلسطيني آخر، يسلّمها هويته من شق صغير أسفل الزجاج المزدوج، ويقول لها إنه هنا بناء على طلب المخابرات الإسرائيلية. تأخذ معايان الهوية وتغيب.

يعود سفيان ليسرد قصته: ليست هذه المرة الأولى التي تحاكمه فيها دولة الاحتلال، فقد اتهم عام 2005 بالعمل من دون تصريح داخل إسرائيل. حينها، أجبر على توقيع تعهد بعدم الدخول لإسرائيل، وحوكم بالسجن لثلاث سنوات مع وقف التنفيذ، أمضى منها نحو ثلاثة أشهر خلف القضبان الإسرائيلية. بيد أن لقمة العيش شقيّة، يقول سفيان. فعلى الرغم من أنه يعمل بما يقارب ثلثي راتب العامل الإسرائيلي ولا يأخذ ربع حقوقه، إلا أن فرص العمل في السوق الفلسطيني محدودة، مما يضطره للمخاطرة والتسلل عبر منطقة التماس القريبة من قريته جمالة، شمالي غرب رام الله.

في الطرف المقابل، يجلس فلسطيني في الأربعينيات من العمر، ما لبث يطل ليرى ما خلف الشباك. تمرّ ساعة ولم تعد معايان... يصل فلسطينيون آخرون، وتزدحم الغرفة الخارجية بشباب ينفثون السجائر، رجال يطرقون الأرض «طفرا» بأحذيتهم، ونساء بأثواب فلسطينية سرعان ما يغادرن المكان. أولئك جئن طلبا لخدمات البريد التي تسمح لهن بإرسال بضع مئات من «الشواقل» لأبنائهن في السجون الإسرائيلية. وبما أن معظم جنود الاحتلال المتواجدين في مكتب التنسيق الإسرائيلي لا يتحدثون العربية، وفي أحيان كثيرة لا يتحدثون الانكليزية أيضاً، يتبرع سفيان بالترجمة من وإلى العبرية للإجابة عن تساؤلاتهن: «مش هون يا حجة،» يقول سفيان وهو الخبير في الإجراءات بموجب حضوره المتكرر. «بدكم تنزلوا ع الـDCO قبال City Inn وين كانت المواجهات!».

تعود معايان، ويقفز الأربعيني إلى الشباك في محاولة لاستغلال دقائق حضورها القليلة، لكنها تبادره بالسؤال عن «أخمد للمخابغات»! تجلس أمام شاشة الحاسوب، تطرق على لوحة المفاتيح أرقاماً من دون أن تعير الأربعبني انتباها. يتبرع سفيان بالترجمة من جديد، ويوضح لها أن الرجل كان قد حصل على عشرات التصاريح التجارية على مرّ السنوات الماضية، إلى أن بدأت كل طلباته تقابل بالرفض منذ نحو عام، وأن كل ما يريده هو أن يعرف السبب!

ترفض معايان الشرح وتصيح: «كله يقعد على كرسي». وكعادتها... تغيب من جديد!

تتجاوز الساعة الحادية عشرة. يطلّ خيال قرب الشباك الصغير، فيهب الجميع نحوه. جندي آخر، يحمل مجموعة من الهويّات الفلسطينية والأوراق. وأمام الشباك أيد تحمل طلبات وهويات. تتداخل الأصوات: «كنت هون قبلك، عيب يا جماعة، أنا من الصبح هون..»، والجندي الإسرائيلي من خلف الشباك ينظر في كومة الهويات. «مين هون للمخابغات؟»، فتعلو الأصوات مرّة أخرى، إلى أن يصيح الجندي بالجمع من جديد: «واخد، واخد ع شباك»! يقرأ أسماء شبان أربعة يعلو القلق ملامحهم، قبل أن يفتح لهم الباب.. هم على موعد مع المخابرات.

كم من الأحلام والأوهام تتلاشى في هذا المكان الصغير... أحدهم جاء يستغل موعداً لمقابلة عمل للسير في شوارع القدس القديمة، فتخونه عقارب الساعة. وآخر يترجى من المخابرات موعدا يؤرق آخرين! تلك حفت أقدامها من كثرة التنقل لتغيير عنوان سكن من يمين الجدار الفاصل إلى يساره، وهذا ما عاد يحتمل الانتظار ولسان حاله يقول: «أتعلمون، لدينا أيضا حياة.. خارج ساعات الانتظار»!