خبر تركيا التحولات... تركيا الجمهورية الثانية!../ عبد اللطيف مهنا

الساعة 09:52 ص|26 سبتمبر 2010

تركيا التحولات... تركيا الجمهورية الثانية! عبد اللطيف مهنا

26/09/2010  10:43 

يتابع العرب، كل العرب، هذا الذي يجري في تركيا. يتابعونه نخباً وأنظمة وشارعاً. لعلها واحدة من تلك اللحظات العربية القليلة، التي تلتقي فيها اهتمامات هذه الأطراف الثلاثة، وكل من موقعه وعلى طريقته ويراها من زاويته.

 

النخب تشغلها قراءة التجربة التركية الأردوغانية وتغذي نقاشاتها. وكالعادة تختلف عليها مثلما درجت على الاختلاف حول سواها، وبالتالي هي تنقسم في تقييماتها لها إن سلباً أو إيجاباً. البعض مثلاً لا يستطيع التخلص من نظرته المستحكمة لحزب العدالة والتنمية كحزب إسلامي الجذور، ويحاكم خطواته على هذا الأساس. وحتى هناك من هؤلاء من تغريه نظرية المؤامرة بأن يرد الظاهرة بمجملها إلى نوع من تشجيع غربي خفي لأنموذج إسلامي يأمل من خلال جاذبيته قطع الطريق على الصنوف المتشددة العديدة للإسلام المعادي للغرب. وبالمقابل، هناك من بيننا المفتونون بهذه الظاهرة، ومنهم الذين يكاد البعض منهم أن لا يفرق بين العثمانية والأردوغانية، وينتظرون من أردوغان ما كان ذات يوم من محمد الفاتح!

 

أما الأنظمة، فقليلها النادر يتابع التحول الاستراتيجي التركي باهتمام، ويرى فيه ما يصب في الصالح العربي من حيث التأثير في مستقبل معادلات الصراع المحتدم في المنطقة. وأما أغلبها، فهو المتكتم، الذي لا يفارقه تحفظه الناجم عن خشيته من تداعياتها وتأثيراتها في الشارع العربي. تحفظ من هالهم كل ما يحظى به رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان من شعبية في الوطن العربي. ومن زاوية مصالحهم السلطوية الضيقة يقلقهم ما يتوقعونه من انعكاسات الحالة التركية كأنموذج ديمقراطي يغري بالمطالبة بتقليده في المنطقة. وفي هذا السياق نحن لا نعدم ملاحظة تجنيد البعض منهم أقلام كتبته للتشكيك في المرامي والخلفيات والدوافع التي يتصورها للسياسة التركية المحدثة، بحيث لم يتورع هؤلاء عن نبش ما يحلو لهم أن يستدلوا به من رواسب التاريخ.

 

الطرف الثالث، الشارع، بسطاء الناس، هؤلاء، وبحس عفوي شعبي لا يخطئ، استقبلوا التحول التركي بترحاب عميق عم كتلة الأمة من محيطها إلى خليجها، ويكفي هنا، أنه بالتوازي مع وقائع أسطول الحرية وسقوط الشهداء الأتراك الساعين لفك الحصار عن غزة، قد رفرفت من الأعلام التركية التي رفعتها الجماهير في عديد المسيرات والتظاهرات التي عمت العديد من جهات الوطن العربي ما قد يفوق ما كانت قد رفعته منها السلطنة إبان الحقبة العثمانية! وهذا لم يكن معزولاً عن مقدمات شهدتها حادثة دافوس الشهيرة بين أردوغان وبيرس، والموقف التركي إبان الحرب على غزة.

 

للوقوف أمام ما تقدم، علينا التوقف ملياً أمام ما عنته نتائج الاستفتاء على تعديل الدستور، هذه العملية التي حظيت بموافقة الشعب التركي بأغلبية فاقت التوقعات، والتي هي مجرد مقدمة واضحة تمهد لدستور تركي جديد يطوي صفحة ويفتح أخرى، ويؤرخ لجمهورية تركية ثانية... هذا الاستفتاء الأشبه بالانتخابات التي انتصر فيها الحزب الحاكم على اتحاد أحزاب المعارضة الكبرى المصطفة ضده، والرد الذي كان على حملة شيطنته التي أجمعت عليها جبهة غلاة القوى اليمينية، ومعها بعض القوى اليسارية المتكلسة، بالإضافة إلى مساندة أصابع الغرب الخفية وأبواق إعلامه وصهاينته... كانت المفارقة أن أكراد حزب السلام والديمقراطية، أو ما يوصف بالواجهة السياسية لحزب العمال الكردستاني، قد انضموا لمعارضي التعديلات الديمقراطية. وكان لافتاً أيضاً، التقارب المعلن مؤخراً بين الأخير وإسرائيل، أو ما كشف عنه ما نشرته صحيفة "هآرتس" حول مقابلة عرضت في التلفزيون الإسرائيلي مع مراد قره إيلان نائب عبدالله أوجلان، الذي يعاتب فيها الإسرائيليين قائلاً: "خلال الستينيات والسبعينيات كنا نحن وإسرائيل أصدقاء، كنا معجبين بكم". وإذ يشكو لهم تعاونهم العسكري مع تركيا، يؤكد لهم أن: "أعداءنا هم أيضاً أعداء إسرائيل"، ويلفت نظرهم إلى أنه "أكثر من أي رئيس حكومة تركي فإن رئيس الحكومة هذا، أردوغان، يظهر علناً كيف أنه يقوي العلاقة مع حزب الله وسوريا. إنه يعانق أحمدي نجاد ويشيد بحماس"!

 

وبالنظر إلى ما تقدم، لقد قال لنا هذا الاستفتاء، إننا إزاء لحظة تركية لا تعدم الرمزية المدروسة التوقيت والتي من شأنها أن تحض على المقابلة بين 12 أيلول/سبتمبر 1980م و 12 أيلول/سبتمبر 2010م التركيين. بين دستور الجنرال كنعان ايفرين الساري المفعول، ودستور أردوغان المنتظر. بين تركيا الأول، أو تغيير ايفرين، وتركيا الثاني، أو تغيير أردوغان... وتكتمل رمزيتها بزيارة أردوغان، إثر إدلائه بصوته، لقبر عدنان مندريس بعد فروغه من الصلاة في مسجد الصحابي أبو أيوب الأنصاري!

 

في هذا الاستفتاء، وعبر نتيجته هذه، انتصر الشعار الأردوغاني "الحاكمية للشعب والقانون" على قوى الوصاية، وفازت حكومة حزب العدالة والتنمية على "الحكومة الخفية"، وعلى عقيلة "اركنغون"، لكن يجب أن لا ننسى أن ما كان هو ليس صناعة أردوغانية منقطعة بقدر ما كان حصيلة تحولات ثلاثين عاماً، سياسية واجتماعية، شهدتها تركية، أعقبت آخر الانقلابات العسكرية، وأذنت بالجديد التركي، أدركها هذا الزعيم التركي وسعى بذكاء إلى ترجمتها، أو بالأحرى قادها، وبدا منذ تصديه لقيادتها، واثقاً من حصيلتها.

 

هنا علينا إدراك أن حزب العدالة والتنمية ليس حزباً إسلامياً أو دينياً وفق المعايير التي يظنها البعض من هؤلاء الذين تمت الإشارة إليهم، وإنما يمكن القول أن له خلفية إسلامية وتوجهات ديمقراطية، يحسن قراءة التحولات الكونية، ويقيس بدقة نبض الشارع التركي، ويمتلك الحنكة والبراغماتية التي لا تغفل عن المتاح للمصالح التركية في هذه الحقبة الكونية ولا تتردد في اغتنام الظروف المناسبة التي توفرت لها في راهن المنطقة.

 

خلاصة القول، أن تركيا حزب العدالة والتنمية قد أحسنت توظيف ما تقدم في سبيل تحقيق ما تريده من مكانة ومن دور... دور ومكانة ترى أنها باقتصادها متسارع النمو، وموقعها الجيوسياسي، وإرثها الحضاري، ومواريثها التاريخية والثقافية، وما توفره لها عودتها إلى محيطها، واستعادتها لهويتها، تستحقها. هنا علينا، ألا ننتظر من تركيا أن تعادي الغرب، أو تبتعد عن أطلسيتها، أو تكف عن المطالبة بعضوية الاتحاد الأوروبي، أو تنقلب كلياً على علمانيتها التي هي حتى الآن لا تحاول سوى ترشيدها وتخليصها من أوصابها، أو تقطع علاقتها مع إسرائيل... لكن هناك حقيقة واحدة، تنطبق على تركيا كما تنطبق أيضاً على إيران قبلها، وأيضاً على العرب إن هم عادوا من غيبوبتهم... هذه الحقيقة تقول: إن الغرب يريد فحسب مركزاً إقليمياً واحداً تدور من حوله دوائر المنطقة، مركزاً مؤتمناً عنده وموثوقاً لديه وأداة هيمنة تنوب عنه في حماية مصالحه هي إسرائيل... وعليه فإن الدور الإقليمي التركي المراد والمستحق والإيراني الطامح الصاعد حتام سيصطدمان لا محالة وشاءا أم ابيا بهذا المركز المفتعل المراد له أن يكون القادر الأوحد وبالتالي المواجهة التلقائية مع الغرب... والسؤال المر أين نحن العرب من كل هذا الآتي؟!