خبر جمهورية جديدة في تركيا ..د. محمد مورو

الساعة 05:44 ص|19 سبتمبر 2010

جمهورية جديدة في تركيا  ..د. محمد مورو

 

يجبُ على الجميع أن يتعلم من أردوغان, ومن حزب العدالة والتنمية التركي, ومن هذه التجربة الجريئة والذكية في تركيا, نعم على الحركات السياسيَّة عامة, والحركات الإسلامية خاصة، أن تتعلم من تجربة أردوغان وحزب العدالة والتنمية في تركيا, فمما لا شكّ فيه أن هذا الرجل وهذا الحزب عمِلا في ظروف معقدة دوليًّا وإقليميًّا, بل ومحليًّا داخل تركيا, فهو حزب إسلامي لا يبرز إسلاميتَه, ولو أبرزها لتمَّ حلُّه على الفور, وهو يعمل في ظلّ مؤسَّسة عسكرية قوية, ومؤسسة علمانية أقوى, وفي ظلّ مؤسَّسات قضائية ودستورية معقَّدة، بل وعلاقات إقليمية ودولية شديدة الدقة, ومع ذلك استطاع هذا الحزب وهذا الرجل أن يتعامل بذكاء مع كل هذه الظروف, وأن يمرَّ من خلال ثقب الإبرة, ويحقق نجاحًا منقطع النظير, وهكذا فإن الظروف الصعبة لم ولن تكون حائلًا دون نجاح الحركات السياسيَّة عامة والحركات الإسلاميَّة خاصَّة, والذي يتحجَّج بعد اليوم بالظروف الصعبة فعليه أن يراجع نفسه, فليس هناك أصعب من ظروف الإسلاميِّين في تركيا من الناحية القانونيَّة والدستوريَّة ومن ناحية الظرف الإقليمي والدولي, والقرار الذكي مثلا خاضع لمجموعة من الاعتبارات الصعبة, وليس رئيس الوزراء حتى لو امتلك أغلبية برلمانيَّة بقادر على اتخاذ قرار ما يمرُّ به, فهناك مجلس الأمن القومي التركي الذي يتكون من جنرالات وقضاة... إلخ هو من يرسم السياسة العليا في تركيا, وهناك علاقات مفروضة مع إسرائيل فرضتْها المؤسَّسة العسكرية, وفرضتها عضوية تركيا في حلف الأطلنطي, وهناك العلاقات مع الولايات المتحدة, وهناك الرغبة الشعبية التركية في دخول البيت الأوروبي, ومع هذه العوامل الصعبة والمركَّبة استطاع أردوغان أن يحقق نجاحًا باهرًا, بل يحقِّق لتركيا ذاتها نهضة اقتصادية وحضورًا إقليميًّا قويًّا.

 

أردوغان الذي كان محكومًا عليه بالسجن قبل فوْز حزبه بالانتخابات البرلمانية الأولي, والذي قضي مدة السجن بتهمة كتابة آيات من الشعر تعبر عن إسلاميته، واستطاع بعدها أن يلحق بحزبه في البرلمان, وأن يصبح رئيس وزراء ثم يخوض معركةً شرسة وصعبة لتحقيق فوز أحد أعضاء حزبه برئاسة الجمهورية التركية, "عبد الله جول" ثم تعرض الحزب كله لتُهم قضائية كانت كفيلة بحلِّه تمامًا وإخراجه من المعادلة, ولكن ذكاء أردوغان وحزبه جعله يفلت من ذلك بأساليب غريبة وطريفة, وكأنه يمرُّ من ثقب الإبرة.

 

ثم دشن الرجل توجهًا تركيًّا نحو الشرق والعالم الإسلامي دون أن يجعل أحدًا يُمسك عليه تعارض ذلك مع الرغبة في دخول البيت الأوروبي, أو العلاقات الخاصة مع أمريكا وإسرائيل وحلف الأطلنطي, ودخل في معارك مع إسرائيل تصرف فيها بذكاء وجرأة جعلته مضرب الأمثال، بل أنه استطاع أن يجعل الشعب التركي والمؤسَّسة العسكرية ذاتها هي مَن تضغط عليه لاتخاذ موقف قوي ضد إسرائيل خاصة بعد مصرع الأتراك في سفن قافلة الحرية لمساعدة غزة.

 

فهل هو الذكاء أم الخيال المبدع أم توفيق الله تعالى وإخلاص الرجل أم أخطاء وحماقة الأعداء أم هذا كله؟

 

ويخطئ مَن يتصوَّر أن أردوغان وحزبه كان يريدان الدخول في البيت الأوروبي, بل إن الرجل وحزبه عين على الشرق, وهناك من يقول أن تلك التجربة هي نوع من العثمانيَّة الجديدة, ولكن الرجل استخدم هذه الورقة في الضغط على المؤسَّسات غير الديمقراطية في تركيا لتحقيق قدر أكبر من الحريات والانفتاح وتقليص دور المؤسَّسة العسكريَّة, وكان ذلك جزءًا من تأكيد مشروعية حزبه وعدم قدرة أحد على حلِّه بالقضاء أو الانقلاب العسكري, وهكذا فإن الرجل استخدم الورقة الأوروبيَّة في ترتيب البيت التركي الداخلي لصالحِه, ولعل تمرير استفتاء الدستور الذي تحقَّق بأغلبيَّة شعبية كبيرة تصل إلى 58% هي تأكيد لهذا التوجه، فالرجل استطاع بهذا الاستفتاح أن يفتح الباب لجمهورية تركية جديدة, بل وعثمانية جديدة, وإمكانية أن تصبح تركيا رأس الحربة في العالم الإسلامي، وهو يدرك أن ذلك مرحَّب به من الشعوب الإسلامية، على أساس أن تركيا دولةٌ مسلمة سنيَّة, ومن ثم فهو يحلُّ محل إيران الشيعيَّة, وكذا فإن حاجة أمريكا والغرب لتركيا في إطار الحرب على الإرهاب تجعل هذا الغرب وأمريكا غير قادرين على منْع الرجل من هذا التوجه، إنه مزيج الإخلاص والذكاء وتوفيق الله تعالى وبركة خاصة لأردوغان وحزبِه.

 

استهدف أردوغان من الاستفتاء تعزيز الحريات العامة والحدّ من تدخُّل الجيش في السياسة وإمكانية محاكمة العسكريين أمام المحاكم المدنيَّة, وإعطاء البرلمان ورئيس الجمهورية صلاحية تعيين القضاة هيئة القضاء الأعلى ونزع صلاحيات العلمانيين في الجيش والقضاء, وتجريدهم من القدرة على حل الحزب، أو التدخل في قرارات البرلمان، يصبح حزب العدالة والتنمية أكثر قدرةً على تمرير ما يريد من قوانين, ولعل أردوغان قد أرسل الرسالة الصحيحة عقب إعلان نتيجة الاستفتاء, في أنه سوف يسعى لإقرار دستور للبلاد، ومن ثَمَّ إنهاء الجمهورية العلمانية الكمالية وإقامة جمهورية تقوم على الحريَّات واحترام وجدان الناس وإلغاء ديكتاتوريَّة الجيش والقضاء، إنها جمهورية جديدة في تركيا.