خبر الفشل الامريكي في العراق يولد دولة فاشلة ..د. بشير موسى نافع

الساعة 11:00 م|08 سبتمبر 2010

الفشل الامريكي في العراق يولد دولة فاشلة ..د. بشير موسى نافع

كان من الطبيعي أن يثير الانسحاب الامريكي الجزئي من العراق جدلاً حول حقيقة هذا الانسحاب ودلالاته، من حيث حصول العراق على استقلاله وارتباطات العراق الجديد بالولايات المتحدة، عسكرياً وسياسياً وعلى مستويات أخرى. ما يكاد يشكل منطقة إجماع بين أغلب قراءات الانسحاب الامريكي الجزئي، والإعلان المواكب عن نهاية الانخراط القتالي للأمريكيين في العراق، أن ثمة طريقاً طويلاً قبل أن يستطيع عراق ما بعد الغزو والاحتلال وضع خاتمة عسكرية وسياسية للحرب التي شنت عليه في مطلع 2003، وأن النفوذ الامريكي وإن كان قد تراجع فما يزال مستمراً. والحقيقة، أن تراجع النفوذ الامريكي في العراق لم يرتبط بصورة خاصة بحجم قوات الاحتلال، بل بجوهر المشروع الذي تصورت إدارة بوش تعهده وحظوظ هذا المشروع من النجاح. بكلمة أخرى، بدأ النفوذ الامريكي في العراق في التراجع منذ سنوات، وربما مباشرة بعد اكتمال الاحتلال، واستمر في التراجع حتى عندما تجاوز حجم القوات الامريكية وعناصر الشركات الأمنية المتعاقدة معها ربع المليون من الجنود والعناصر المسلحة. ولكن المشكلة أن هذا التراجع لم يخلف مكانه دولة عراقية كفؤة ومستقرة وقادرة، لا بمعنى الدولة التابعة ولا بمعنى الدولة الوطنية المستقلة.

طبقاً لمذكرات السيد توني بلير، الشريك الأساسي في الحرب، المنشورة مؤخراً، لم تقتصر أهداف سياسة إدارة بوش بعد أحداث الحادي عشر من ايلول/سبتمبر على أفغانستان والعراق، بل أن نائب الرئيس الامريكي السابق ديك تشيني طالب بأن تشمل الحرب على الإرهاب كلاً من سورية وإيران، على الأقل. كانت الحرب الامريكية على أفغانستان، بالرغم من استنادها إلى قراءة سياسية قصيرة النظر، متوقعة، سيما بعد أن توجهت أصابع الاتهام في الهجمات على نيويورك وواشنطن إلى القاعدة وبن لادن. ولكن العراق كان شيئاً آخر.

وقد صدرت عن أوساط أمريكية متعددة خلال الفترة القصيرة التي تلت احتلال العراق تقارير افادت أن العراق كان المرحلة الأولى من مشروع استهدف تغيير بنية المشرق وصورته. وربما كانت الخلافات داخل التحالف الغربي وفي صفوف الإدارة الامريكية هو ما منع اتساع نطاق الحرب لتطال الفضاء المشرقي كله، كما طالب تشيني، وتحول المشروع إلى محاولة الحصول على الأهداف نفسها عن طريق بناء نموذج عراقي جديد، ليبرالي، مستقر، حليف للولايات المتحدة، وقادر على تشكيل أداة ضغط قصوى، سياسية وثقافية، على الدائرة العربية الإسلامية المحيطة، من مصر إلى إيران، ومن سورية إلى السعودية. ولعل التفاؤل الامريكي الكبير بثورة الأرز في لبنان، التي يتراجع قادتها الآن عن مجمل أهدافها، والضغوط لعقد الانتخابات الفلسطينية، والضغوط الأخرى لتغيير المناهج الدراسية والقوانين في مصر والسعودية، كانت انعكاساً لمشروع أخذ يواجه عقبات الإخفاق منذ الشهور الأولى للاحتلال.

تبلورت الساحة العراقية بعد الاحتلال في صورة بالغة التعقيد بلا شك، ولكن من الضروري ربما اللجوء إلى بعض التبسيط لفهم العوامل والقوى التي أدت إلى إخفاق المشروع الامريكي. قبل الاحتلال، بنى عرابو الحرب على العراق حساباتهم، مدفوعين في الأغلب بقراءات حلفائهم في المعارضة العراقية الشيعية والكردية، على أساس أن السنة العرب لن يشكلوا مصدر تهديد للاحتلال، لأن قوتهم تنبع من ارتباطهم بنظام حكم البعث؛ وما أن يطاح بالنظام حتى يتقلص العامل السني العربي. ولكن المفاجأة أن سنة العراق سرعان ما رفعوا لواء المقاومة، وأن هذه المقاومة أوصلت إدارة الاحتلال منذ 2005 إلى حالة من الشلل. لم تستطع قوى المقاومة التحول إلى قوة فعل سياسي، واختلط فعل المقاومة أحياناً بأعمال إرهاب صريح. ولكن المقاومة كانت حقيقة فاعلة، أدت في النهاية إلى دفع مؤسسة الدولة الامريكية إلى إعادة النظر في مجمل سياسات إدارة بوش. ومن جهة أخرى، كان مشروع الاحتلال يواجه فشلاً في الجهة الثانية من المعادلة السياسية الجديدة، عندما اتضح أن قوى التشيع السياسي المتحالفة مع الاحتلال كانت مزدوجة الولاء، على الأقل، وأن عرفانها للامريكيين الذين أوصلوها للحكم والسلطة لا يفوق ارتباطها السياسي بإيران. بخلاف الحلفاء الأكراد، وجد الامريكيون أنفسهم وسط مناخ، هبت عليهم جوانبه، كما قال بشار بن برد في العراق قبل قرون: ليس بإمكانهم التراجع أمام السنة، ولا بإمكانهم الثقة بالشيعة. لم يعد أمام مشروع النموذج الليبرالي، المزدهر، الحليف، من وسيلة للتقدم، وتحول الهدف بذلك إلى مجرد منع الهزيمة وضمان بقاء حالة انقسام العراق على الذات، لتأمين بعض النفوذ على المدى الطويل. وفي هذا نجح الامريكيون بالفعل.

هذه النتيجة المزدوجة للاحتلال، فشل المشروع في صورته الأولى ونجاحه في تحقيق أهدافه الثانوية، المحدودة، فاقمت من عناصر فشل الدولة الجديدة، الفشل الذي يعيشه العراق حتى الآن. بخلاف الاحتلال البريطاني للعراق في أعقاب الحرب العالمية الأولى، الذي شهد بناء دول ملكية مستقرة نسبياً، بفعل تسليم مقاليد الدولة الجديدة لمجموعة الضباط الهاشميين من الجيش العثماني، أطاح الامريكيون بنظام الحكم السابق ومؤسساته كافة تقريباً، وأفسحوا المجال لعناصر وقوى وفئات لا يجمعها بالضرورة جامع إلا السعي إلى الحصول على أكبر قدر ممكن من السلطة والثروة. عراق ما بعد الحرب العالمية الأولى لم يتغير كثيراً من جهة بنية الدولة عن عراق ما قبل الحرب؛ فأغلب العناصر التي أمسكت بمقاليد الإدارة الملكية انحدرت من مؤسسات الحكم والإدارة العثمانية، لتوفر بالتالي مساحة ملموسة من الاستمرارية، حتى في ظل وجود إدارة الاحتلال البريطاني ومستشاريها. ولكن عراق ما بعد الاحتلال الامريكي هو عراق القطيعة الكلية مع ميراث الدولة الوطنية السابقة عليه، الدولة التي بدأت بتنصيب فيصل الأول وانتهت بإطاحة صدام حسين. المنطقة الوحيدة التي لم تشهد قطيعة جوهرية هي المنطقة الكردية، التي تعيش استقراراً نسبياً مقارنة بمناطق العراق الأخرى.

أطاح الامريكيون بالمؤسستين العسكرية والأمنية وبالصفوف الأولى من الإدارة المدنية؛ وأطاحوا معها بهوية الدولة العراق، وثقافتها وقيمها، بغض النظر عن التقييم الأخلاقي لتلك المؤسسات والقيم. صحيح أنهم عملوا على بناء مؤسستين عسكرية وأمنية جديدتين، واضطروا تحت تأثير تصاعد المقاومة إلى تسليم مقاليد الحكم للعراقيين بسرعة فائقة. ولكن الدولة الحديثة، التي يعرفها الامريكيون جيداً ويعرفون ما تعنيه، هي دولة مسيطرة بطبيعتها، بغض النظر عن إطارها الفيدرالي أو غير الفيدرالي؛ بمعنى أن الدولة الحديثة تدير كافة شؤون الحياة العامة وتقرر بشأنها، من الاقتصاد والتجارة إلى التعليم والثقافة، ومن الجيش والشرطة إلى تنظيم حقول الزراعة والصناعة. ولأن الدولة الحديثة تفترض لنفسها هذا القدر الهائل من السيطرة، فمن غير الممكن أن تتعهد دورها بنجاح بدون ثقافة موحدة، بدون هرم قيم واضح، بدون توجهات كلية واضحة وإجماعية، تلتف حولها الطبقة الحاكمة، وتتلقى دعم أغلبية الشعب. ولكن عراق ما بعد الاحتلال، عراق القطيعة الكاملة، يفتقد إلى أدنى شروط نجاح الدولة واستقرارها.

ثمة جيش بمئات الآلاف، ولكن أحداً لا يعرف ما هي على وجه اليقين عقيدة هذا الجيش. إقامة جيش على فكرة مكافحة الإرهاب، بينما تتقاسمه الولاءات الحزبية والطائفية، يجعل من الجيش مؤسسة أقرب إلى مؤسسة الشرطة منها إلى المؤسسة العسكرية الوطنية. ومن المشكوك فيه أن الأجهزة الأمنية الجديدة تعرف فعلاً من هو العدو الذي يشكل التهديد الأكبر للوطن والدولة. ولعل الجدل حول مناهج التعليم الجديدة، التي لا يختلف كثيرون على منحاها الطائفي التقسيمي، هي مثال آخر على عجز الدولة الجديدة عن توفير مبررات الولاء الوطني الضرورية لاستقرار الدولة وإطلاق فعاليتها. أما الخلافات الداخلية، الجوهرية في بعض الأحيان، بين الحكومة المركزية وحكومة المنطقة الكردية، والحكومة المركزية وعناصر إدارتها الرئيسية المرتكزة على عصبيات حزبية وفئوية وطائفية، فأكثر مما تحصى. ولأن هذه الدولة لا تمتلك كتلة صلبة من الثقافة والقيم والتوجهات الكلية، شهد العراق الجديدة واحدة من أغرب الحلقات السياسية الخارجية في العام الماضي، عندما اتهم رئيس الحكومة العراقية سورية بالوقوف خلف عمليات الإرهاب في العراق، بعد ساعات من قيامه بزيارة مدوية لدمشق، وخالفه في موقفه ذاك كافة القوى المتحالفة معه في الحكومة نفسها، والتي تشكل أكثريتها البرلمانية مبرر وجوده.

هذا هو السياق الضروري لفهم الخلاف الطويل على تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، الذي لا يجب أن ينظر إليه باعتباره شأناً غير طبيعي أو استثناء. فهذه دولة أسست أصلاً لتتناحر، لا أن تجتمع، لتخاف قواها من بعضها البعض، لا أن تطمئن وتتآلف. بنيت الدولة ليخشى الأكراد العرب، ويخشى السنة الشيعة، وتخشى القوى السياسية، الطائفي منها وغير الطائفي، من بعضها البعض. الذين يتناحرون على موقع رئاسة الحكومة لا تحركهم دوافع الواجب الوطني، حتى بمعناه الجرماني أو الأنغلوساكسوني، بل دوافع الحصول على الحماية من الخطر، وطموحات القوة، التي توفرها معاً مناعة السلطة والثروة الملحقة بها. وربما ستجد هذه الطبقة السياسية البائسة في النهاية وسيلة للتفاهم على تشكيل الحكومة، إن لم يكن بقوة المنطق والواقعية السياسية، فعلى الأقل بفعل القصور الذاتي لإرهاق شهور التفاوض الطويلة. ولكن ذلك لا يعني أنها في طريقها لتوفير الشروط الحيوية لبناء الدولة القادرة. الخلفيات التي جاءت منها قوى هذه الطبقة السياسية وعناصرها، والسياق التاريخي الذي أفرزها وسلمها مقاليد الحكم، لا تؤهل لمثل هذا التطور الهائل في أداء هذه الطبقة. وهذه هي مأساة العراق المضاعفة، بعد عقود من الحروب والحصار والاحتلال.

 

' كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث