خبر كتاب أحمد داوود أوغلو « العمق الاستراتيجي »... التوازن الداخلي العربي: أزمة القومية ومسألة الشرعية (1 من 3)

الساعة 10:42 م|06 سبتمبر 2010

كتاب أحمد داوود أوغلو "العمق الاستراتيجي"... التوازن الداخلي العربي: أزمة القومية ومسألة الشرعية (1 من 3)

تصدر قريباً الترجمة العربية لكتاب وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو، «العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية» الذي تنشر «الحياة» على ثلاث حلقات فصولاً منه.

 

ويقدم داود أوغلو في الفصل المنشور اليوم تشخيصه لحال العالم العربي والازمات التي يواجهها وإمكانات الخروج منها وموقعه ضمن التغيرات الدولية الكبرى، معتمداً على مراجعة تاريخية عميقة لتاريخ التطور السياسي في الدول العربية الرئيسة.

 

ويصدر الكتاب عن «الدار العربية للعلوم - ناشرون» و «مركز الجزيرة للدراسات» بترجمة محمد جابر ثلجي وطارق عبدالجليل ومراجعة بشير نافع وبرهان كوروغلو.

 

اندلعت حرب الخليج في منطقة الشرق الأوسط، التي كانت بمثابة إعلان انتهاء الحرب الباردة، وأحدثت تغيرات خطيرة في التوازنات الداخلية، وفي ما تحمله هذه التوازنات من أهمية للحسابات العالمية. أدى اندلاع هذه الحرب، بسبب أزمة بين دولتين عربيتين، إلى خلق أزمة على نطاق واسع داخل العالم العربي. وعلى عكس ما هو متوقع، كان لعملية السلام في الشرق الأوسط، التي أعقبت حرب الخليج، تأثير مضاعف؛ ذلك أن عملية السلام قامت على مناورات تكتيكية قصيرة المدى، بدل أن تقوم على استراتيجية طويلة المدى. ويعود هذا الكابوس الذي ظهر في المنطقة إلى عجز القوة الداخلية عن الارتكاز إلى توازن جديد، تلك القوة التي تبددت بعد انهيار الهيمنة العثمانية، واستندت خلال الحرب الباردة إلى أرضية من التوتر بين حلف الناتو - وحلف وارسو، وبين العرب - وإسرائيل. وتحتاج جميع القوى المهمة في المنطقة الآن إلى تطوير استراتيجية إقليمية جديدة.

 

في الفترة التي تلت الحرب الباردة، برز في العالم العربي بعامة وفي الدول المتاخمة لتركيا، مثل سورية والعراق، على وجه الخصوص، نوع من التناقض بين الحقائق المحلية والحقائق الإقليمية لقضايا «الوحدة العربية» و «الدولة القومية»، وهما من الوسائل الأساسية لصوغ الشرعية السياسية الداخلية لهذه الدول وسياستها الخارجية. وقد تسببت هاتان الظاهرتان في حال من التأزم في ميدان التخطيط الاستراتيجي لهذه الدول. فالتناقضات الموجودة بين الماضي الاستعماري الذي أفرز هذه الدول العربية على مسرح التاريخ، وبين أهداف السياسة الخارجية للدولة القومية، تعتبر من أكبر نقاط الضعف في العالم العربي. إذ تعمل كل دولة من الدول العربية تقريباً، لا سيما مصر وسورية والعراق، على تطوير سياسات وحدوية عربية تستمد أسسها من واقعها بصفتها دولاً قومية، وتتخذ منها مرتكزاً أساسياً لشرعيتها السياسية وسياستها الخارجية. هذه الاستراتيجيات المتعددة للوحدة العربية، التي تتعهدها الدول القومية المختلفة، هي استراتيجيات متناقضة بالضرورة، وتدفع بالعالم العربي نحو متاهات مؤكدة، تقضي فيها الصراعات والتوترات الداخلية على مجالات التعاون العقلاني.

 

السبب الرئيس خلف هذا الوضع هو التناقض بين خطاب الوحدة العربية وظاهرة الدولة القومية. ترى كل دولة عربية نفسها حبيسة حدود سياسية أضيق مما يجب، وتبني استراتيجياتها الإقليمية على نحو من شأنه تجاوز هذه الحدود. فعلى سبيل المثال، لا تفتأ سورية تكرر وبإصرار أن دورها التاريخي يتجاوز حدودها، بصفتها المركز الذي ولدت فيه فكرة القومية والهوية العربية، وترى في تشكيل الاتحاد السوري شرطاً أساسياً لقيام الوحدة العربية؛ وهي بهذا تربط بين فكرة الوحدة العربية المرحلية ذات المركز السوري وبين المحور الاستراتيجي القومي. وفي إطار هذه الاستراتيجية المرحلية، ترى أن قيام سورية الكبرى شرط أولي وضروري لفكرة الوحدة العربية؛ وتشمل سورية الكبرى في تصورها شرق المتوسط وبلاد الشام، التي تضم لبنان والأردن وفلسطين والإسكندرون، وتعتبر هذه المناطق امتدادات طبيعية انفصلت عنها. ويمكن أن يطلق على هذه الاستراتيجية «استراتيجية شرق المتوسط» (Levant)، من حيث كونها ذات محور شرق متوسطي. وقد زجت هذه الاستراتيجية بسورية إلى ساحة من التوتر المتبادل مع الدول غير العربية في المنطقة، مثل تركيا وإسرائيل، كما وضعتها في مواجهة مع قوى عربية أخرى. وتنطبق هذه الحالة على العراق أيضاً؛ إذ يرى العراق أن في إمكانه تحقيق وحدة عربية في نطاق يتمحور حول البصرة - بغداد، يستند إلى فكرة العراق الكبير، الذي يشمل الكويت وبلاد الرافدين وشط العرب وخوزستان الإيرانية، ما يعد شرطاً أساسياً لتحقيق الاتحاد العربي. وقد وضعت هذه الفكرة العراق في حال مواجهة مع الدول غير العربية في المنطقة، إيران وتركيا، ومع دول عربية أخرى كذلك. وكذلك الحال مع مصر التي تسعى لتحقيق الهدف ذاته في إطار يشمل شمال إفريقيا، ويتخذ من القاهرة مركزاً له.

 

وتتمثل المسألة الأكثر تناقضاً في الاختلاف بين استراتيجيات مشروع الوحدة العربية والدولة القومية في انتهاج الدول العربية استراتيجيات توسعية على حساب الدول العربية الأخرى، أكثر مما هي على حساب الدول غير العربية. وتعد السياسات السورية تجاه لبنان، والعراقية تجاه الكويت، أمثلة بارزة على ذلك. كما يعد تمسك مصر بالمنطقة محل النزاع الواقعة في شمال شرقي السودان مثالاً آخر. ولعل جهود الدول القومية لتأسيس وحدة عربية من خلال تشكيل ساحة تأثير خارج حدودها هي السبب الأبرز خلف الأزمة التي يعيشها العالم العربي في فترة ما بعد الحرب الباردة. استهدفت أيديولوجيات الفكر الناصري والفكر البعثي تشكيل وحدة عربية في فترة الحرب الباردة، ترتكز على الإطار الاستراتيجي المرحلي. وأصبحت الوحدة العربية والاشتراكية، وهما الدعامتان الأساسيتان لهذه الأيديولوجيات، مقياسين مهمين، تعنى الدعامة الأولى بالحسابات الإقليمية والأخرى بالحسابات الدولية. وكان من نتاج التقاء هذين المقياسين توقيع معاهدة التحالف الاستراتيجي لمدة عشرين سنة بين سورية والاتحاد السوفياتي، وانتهاج العراق سياسة تسلّحيه مدعومة من موسكو. ولكن انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك البنية ذات الثنائية القطبية أسفرا عن زلزلة مقاييس الوحدة العربية والاشتراكية التي اعتمدت عليها أيديولوجية البعث العلمانية الشمولية، التي كان كل من النظامين السوري والعراقي يستمد منها شرعيته.

 

التوازنات التركية - العربية

 

ومثلما لم يفلح احتلال العراق للكويت في تحقيق هدف العراق الكبير، ومنه إلى الوحدة العربية، فقد قضى أيضاً على التضامن العربي الذي ظهر في الحرب الإيرانية - العراقية، علاوة على أنه دشن عملية تمزق العراق. كما أن السياسات السورية تجاه لبنان وفلسطين والأردن لم تسفر عن توسيع مجال التأثير السوري، خلافاً لما كان منتظراً منها، بل إنها، وعلى النقيض، أدت إلى احتلال إسرائيل للجنوب اللبناني ووقوع الأردن وفلسطين في عملية السلام تحت وطأة التأثير الإسرائيلي لا السوري. وعلى صعيد آخر، في ظل سياسات التوازن بين النظامين السوري والعراقي، شعرت تركيا بالحاجة إلى تطوير سياستها التوازنية مع إيران والسعودية. وأسفرت هذه الأزمة الاستراتيجية عن نتائج كان منها تشغيل العراق في السبعينات لخط أنابيب كركوك/ يومورتالك، بديلاً من خط الأنابيب الذي كان يمر عبر الأراضي السورية؛ وبذلك ارتبط العراق مع تركيا بعلاقات اقتصادية عقلانية. وفي المقابل، أقامت سورية علاقات استراتيجية وطيدة مع إيران خلال الحرب الإيرانية - العراقية. ولم تكن فكرة الوحدة العربية هي نقطة الصدام بين سياسة سورية الكبرى، وسياسة العراق الكبرى، بل أسست لصراعات ومناورات توازنية داخل المنطقة. ولا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة الى العلاقات المصرية - العراقية، والعلاقات المصرية - السورية.

 

يشبه بناء السياسة الخارجية في العالم العربي صراعاً يستهدف إقامة توازن ما والحفاظ عليه. وكما تسعى الدول في هذا الصراع التوازني إلى الحفاظ على بعضها، تسعى في أحيان أخرى إلى طرد بعض الدول بعيداً من ساحة التوازن. ويتمثل المبدأ الأهم في هذه اللعبة التوازنية بعدم أحقية أية دولة في توجيه ضربة من شأنها تضييق ساحة دولة أخرى أو التصرف على نحو يخالف الروح التوازنية في الصراع. وإلا، فإن الدول الأخرى تعاقب الدولة المذنبة بإقصائها لفترة قصيرة عن الساحة. وهذا ما حدث مع العراق حين احتل الكويت، حيث تم إقصاؤه من المنظومة. أما المبدأ الثاني، فهو عدم إمكانية التحالف مع القوى الخارجية تحالفاً يزعزع تماماً التوازنات الداخلية لساحة الصراع. ولهذا، تم دفع مصر خارج الساحة العربية لفترة قصيرة بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد. وترتبط عودة الدولة إلى موقعها القديم بالتوافق والانسجام التام مع التوازنات الداخلية. بين الحين والآخر، تشعر الدول التي تسعى إلى البقاء على قيد الحياة، من خلال التربص المستمر بعضها ببعض، بالحاجة إلى إيجاد عدو مشترك ليحفظ لها تكاملها الداخلي. وكما سنفصل لاحقاً، وجدت تركيا نفسها في وضعية المتلقي لردود الأفعال الموجهة ضد إسرائيل، لأنها لم تتمكن من التعامل مع الأزمة في العالم العربي، ومع المناخ النفسي/السياسي الذي أنتجته هذه الأزمة، بالشكل الصحيح والقدر الكافي. ولذا، عانت تركيا حتى أواخر عقد التسعينات من القرن العشرين تراجعاً واضحاً في مسيرتها داخل المتاهات الديبلوماسية في الشرق الأوسط.

 

ظهرت بعد مرور ست سنوات على القمة العربية، التي عقدت في القاهرة عام 1996، نتائج مهمة على صعيد التوجهات السياسية العربية. فقد خرجت هذه القمة ظاهرياً بردود أفعال ضد القوى الإقليمية غير العربية، أي ضد إسرائيل وتركيا وإيران، على الترتيب. وساهم رد الفعل العربي إزاء إسرائيل - بسبب سياستها المتصلبة التي انعكست في برنامج حكومة نتانياهو بعد الانتخابات الإسرائيلية - وإزاء تركيا - بسبب الاتفاق الاستراتيجي الذي وقعته مع إسرائيل - إسهاماً كبيراً في تعزيز الانطباع بأن هذه القمة تمثل رد فعل موجهاً من القوى الخارجية. وإذا نظرنا إلى تلك القمة من زاوية أخرى، نجد أن توقيت عقدها أكسبها أهمية خاصة، كونها استهدفت تجاوز أزمة الشرعية التي شهدها العالم العربي، والفراغ الأيديولوجي الذي شعرت به البنى السياسية للدول العربية.

 

أصبحت  الحركات القومية المناهضة للدولة العثمانية، والتي دُعمت من الإنكليز في النصف الأول من القرن العشرين، وسائل مهمة لتشكيل جبهة معاداة إسرائيل بعد الحرب العالمية الثانية، وما زالت حتى الآن؛ وحددت هذه الحركات الأطر السياسية العربية في النصف الثاني من ذلك القرن. تعرضت بنية هذين النموذجين السياسيين لأزمة شرعية حادة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، بخاصة مع افتقاد النفط أهميته الاستراتيجية في السبعينات والثمانينات. وأسفرت الانقسامات بين دول الوطن العربي، والتفكك داخل دوله الثورية ذات الأجندة السوفياتية، عن زيادة حدة أزمة الشرعية هذه بقدر كبير. وبتحول القومية العربية، المرتكزة إلى خطاب ثوري مناضل ضد القوى الخارجية، إلى نهج تصالحي يتسم بقدر كبير من المرونة تجاه عملية السلام، انتقل محور الخطاب المعادي للغرب ولإسرائيل إلى أيدي الحركات الإسلامية. كما أن الحركة القومية العربية، التي كانت تضم العناصر الثورية والمعادية للمنظومة العالمية خلال الفترة بين بداية الخمسينات وحتى أواخر السبعينات، شرعت بعد الثمانينات في تطوير شخصية تابعة للنظام الدولي بسرعة متزايدة. ولم تكن الخطوات المتناقضة المتباينة التي اتخذتها دولة كمصر، أو شخصية كياسر عرفات، سوى انعكاس لأزمة الشرعية. وقد أدت هذه الأزمة أيضاً إلى تبلور شعور بالغربة لدى الجماهير العربية المسلمة تجاه النخب السياسية، وإلى اكتساب حركة المعارضة المعادية للمنظومة العالمية شخصية ذات محور إسلامي. ونذكر هنا أبرز نماذج هذا المتغير وأكثرها تعبيراً عنه، وهو الخلاف القائم في فلسطين بين ياسر عرفات، الزعيم القومي العربي التصالحي، وبين حماس، حركة المعارضة الإسلامية. وثمة أزمة شرعية قائمة بين القطاعات الجماهيرية، والأنظمة الاستبدادية والنخب السياسية العربية القمعية، التي تحول دون تحقيق المشاركة السياسية في البلاد العربية.

 

من هذا المنظور، نجد أن القمة العربية في القاهرة عام 1996، التي عرفت بقمة ردود الأفعال، استهدفت إطلاق موجة جديدة من القومية العربية. وتدرك الولايات المتحدة أن مثل هذه الموجة ستساهم في تجاوز النخبة السياسية العربية لأزمة الشرعية؛ ومن ثم، فإن الولايات المتحدة تدعم هذه الموجة القومية الجديدة، طالما أنها لم تطور توجهاً معادياً للنظام العالمي. وتحمل الاتفاقية التي وقعتها تركيا مع إسرائيل أهمية كبرى من هذه الناحية، ومن حيث التوقيت أيضاً؛ فموجة العداء لإسرائيل لم تعد كافية من أجل فكرة القومية العربية، لأن المعارضة الإسلامية المعادية للغرب تتبنى هي أيضاً موقف العداء لإسرائيل. ولذا، فإن السلوك المعادي لإسرائيل يعني إشهار إفلاس سياسات النظم العربية، التي هي بمثابة المهندس لعملية السلام المتواصلة، كما سيكون إقراراً بصحة موقف حركات المعارضة الإسلامية المعادية لإسرائيل. وهكذا، نلاحظ أن الأنظمة العربية القومية استغلت التطور السريع للعلاقات التركية - الإسرائيلية على الصعيد الاستراتيجي استغلالاً يعزز من شرعيتها. وعمدت النخبة السياسية العربية، التي تفتقر إلى الدعم الشعبي لشرعيتها، إلى اعتماد الاتفاقية التركية الإسرائيلية مرتكزاً أساسياً لموجة القومية العربية المتسقة مع النظام العالمي.

 

أميركا والقومية العربية

 

ومن المدهش أن موجة القومية العربية باتت اليوم ظاهرة مرغوباً فيها من الولايات المتحدة بخاصة. فأميركا هي التي جذبت هذه الموجة إلى داخل النظام العالمي من خلال اتفاقية كامب ديفيد، ومن خلال موقفها المعادي للحركة القومية العربية المعادية للنظام العالمي والتي تزعمها عبدالناصر في الخمسينات والستينات من القرن العشرين. ولذا، فهي اليوم تدعم موجة القومية العربية المتسقة مع النظام العالمي ضد المعارضة الإسلامية المتنامية والمعادية لهذا النظام. ونشير هنا إلى أن تصدي مصر لزعامة هذه الموجة الجديدة هو أمر له دلالته ومغزاه لأنه يصدر عن دولة تعد من أبرز متلقي المساعدات الأميركية. أما تركيا، فقد تعرضت لضعف واضح من حيث مرونة التحرك في السياسات الإقليمية، بعد أن حولت اتفاقية - قيل انها اتفاقية ذات أغراض تقنية - إلى خطوة استراتيجية. ويحمل الوضع، الذي سينتج من تصاعد تيار القومية العربية المدعوم من القوى المركزية في النظام العالمي، في داخله مخاطر بالغة الأهمية بالنسبة الى سياسات تركيا الإقليمية. وعلينا ألا ننسى النتائج التي أدت إليها القومية العربية ذات الدعم البريطاني في بداية القرن العشرين، وتأثيرات سياسات الاتحاد والترقي المتشددة التي مهدت لهذه النتائج.

 

كما تؤثر أزمة الشرعية السياسية في العالم العربي، والتحول الذي تمر به القومية العربية، أيضاً في بنية الزعامة السياسية داخل الدول العربية. وقد ظهر في وجه عام نموذجان للزعامة في الأنظمة السياسية التي نشأت في البلاد العربية بعد تحررها من الإدارات الاستعمارية، ومارست دوراً مؤثراً في السياسة الإقليمية خلال مرحلة الحرب الباردة: أنظمة السلطة البيروقراطية التي عملت على استغلال أطر أيديولوجية معاصرة بهدف اكتساب شرعية سياسية حديثة، والأنظمة الملكية التي عمدت إلى الاستفادة من قوالب الشرعية التقليدية. ظهر أبرز نماذج الزعامة البيروقراطية في دول مثل مصر وسورية والعراق والجزائر وليبيا وتونس، وهي دول كانت ولا تزال تدار من جانب زعماء وأحزاب ترنو إلى إعادة تشكيل المجتمع العربي كلية وفق مبادئ العلمانية والقومية والاشتراكية. أما نمط الزعامة المستند إلى قوالب الشرعية التقليدية، فبرز رواده الأوائل في المملكة العربية السعودية والمغرب والأردن ودول الخليج العربي.

 

ومن الصعب سبر أغوار سياسة الشرق الأوسط من دون فهم جذور البناء السلطوي للزعامة، الذي نشاهده في الأنظمة العربية في الشرق الأوسط باعتباره سمة مشتركة، والذي اكتسب شرعيته من طريق انتهاج خطاب تقليدي في بعض الدول وخطاب ثوري في دول أخرى. وهناك ثلاثة أسباب مهمة خلف ظهور هذه النماذج من الزعامة: يتعلق أولها بالبنى الداخلية لهذه البلاد، ويتعلق الثاني بسياستها الإقليمية، ويتعلق الثالث بالنظام العالمي. فأما السبب المتعلق بالبناء السياسي الداخلي فيرجع إلى كون هذه الأبنية السياسية إرثاً خلفته الحقبة الاستعمارية في هذه البلاد؛ وكان أبرز نتائج هذه الحقبة تشكل لدول من دون أن يكون لها بناء ثقافي سياسي سليم ومؤسسات سياسية. وهو ما أسفر عن أزمة شرعية سياسية من الصعب تجاوزها؛ فقد رسمت القوى الاستعمارية خرائط هذه الدول، ولكنها لم تسمح لها باستكمال أبنيتها السياسية على نحو مستقل. وهكذا، لم يكن من سبيل سوى أن تقفز تلك الزعامات أو العائلات القوية لملء الفراغ الموجود أو المصطنع، على اعتبار أن هذه الزعامات والعائلات هي المسوغ الوحيد لتشكيل دول مجزأة ومختلفة من المجتمعات المشتركة في الدين والعرق واللغة؛ أي أن الزعامة السياسية هي من أقام البناء السياسي لهذه الدول؛ ففي خمسينات القرن العشرين، كان الارتباط بعبدالناصر يسبق الارتباط بمصر في الأهمية لدى الشعب المصري؛ إذ كان عبدالناصر رمزاً للمثل العربية كلها فضلاً عن المصرية. بذلك، ملأت الشخصيات الكاريزمية الفراغات الموجودة في الأبنية السياسية، بل أصبح في مقدور هذه الشخصيات تحريك شعوب الدول العربية الصغيرة نحو مثل عليا. وعلى هذا النحو، تنتفي على سبيل المثال ثنائية أن تكون عراقياً أو عربياً. أما الدول الصغيرة، المحرومة من تحقيق المثل العليا، فتنشد تعزيز شرعيتها الثقافية من خلال إبراز أبطالها المحليين. وباختصار، يمكن القول إن بعض المشكلات الموجودة داخل البناء السياسي توفر أرضية خصبة لمصلحة نموذج الزعيم الكاريزمي.

 

أما السبب الثاني المتعلق بسياسة المنطقة، فهو الكيان الإسرائيلي، الذي يمثل عنصر التهديد الدائم في المنطقة، والذي يحمل أهدافاً توسعية على حساب الدول العربية. وقد تم إقناع العرب الذين لم يحرزوا نجاحاً في حروبهم مع إسرائيل بضرورة وجود الزعامات العسكرية والسياسية القوية في مواجهة ذلك التهديد.

 

وأما السبب المتعلق بالنظام الدولي، فلا يخص الدول العربية وشعوبها وحدهم، بل تعنى به أيضاً كل الدول الإسلامية ومجتمعاتها. فبعد الكثير من التجارب المؤلمة، فقدت هذه المجتمعات الثقة في وجود آلية موضوعية عادلة للنظام الدولي. وثمة ظواهر دفعت إلى استغلال حالة عدم الثقة هذه من أجل استمرار الزعامة الاستبدادية. بين تلك الظواهر، عدم تطبيق القرارات الخاصة بفلسطين الصادرة عن الأمم المتحدة، والصمت إزاء احتلال إسرائيل لجنوب لبنان، ووقوف النظام الدولي موقف المتفرج لفترة طويلة أمام محاولة الإبادة في البوسنة. وقد مهدت حالة عدم الثقة، التي هيمنت على المجتمعات المسلمة، لميلاد مناخ نفسي/ثقافي يرنو إلى توفير الأمن، تحت مظلة الاستقرار الذي توفره الزعامات الكاريزمية. ويشكل الشرق الأوسط مشهداً للاستقرار الخطر بسبب البنية الزعامية في الدول العربية؛ حيث لا يبرح أولئك الذين يمسكون بمقاليد القوة السياسية مناصبهم ما لم تقع ضرورة قاهرة، مثل الوفاة أو الإصابة بداء عضال أو الاغتيال؛ ويتمتع هؤلاء بسجل من الزعامة لا يقل عن خمس عشرة سنة. وتدل هذه الصورة على فقدان العلاقة المباشرة بين الاستقرار السياسي والشرعية. ومن ثم، فإن الاستقرار في العالم العربي لا يمكن أن يحقق للمجتمع الأمن السياسي والاجتماعي، أو النهوض الاقتصادي.

 

ومع اكتمال العمر البيولوجي للزعماء، بدأت تتغير الزعامات السياسية في البلاد العربية؛ وقد ظهر أول نماذج ذلك التغيير في زعامتين سياسيتين رئيسيتين في الشرق الأوسط، إحداهما تمثل أنظمة السلطة البيروقراطية، والأخرى تمثل الأنظمة الملكية التقليدية. كانت الأولى في وفاة الملك فيصل، ملك السعودية، نتيجة عملية اغتيال، باعتباره الشخصية الرمزية التي تمثل النمط الثاني السابق الذكر؛ ثم وفاة الملك حسين، الذي مثل أبرز شخصيات هذا النمط من حيث الكاريزما؛ وانتقال الحكم من الملك فهد إلى أخيه الأمير عبدالله انتقالاً فعلياً بسبب تدهور حالته الصحية. ولم تؤد هذه التطورات إلى أزمات سياسية جادة على نحو يمكن ملاحظته. بيد أن اختفاء هذه الشخصيات الرمزية يمكن أن يرافق  نقاشات حول الشرعية الخاصة بالزعامة التقليدية. وإذا لم تتم الاستجابة لمطالب الجيل الجديد، الذي تلقى معظمه التعليم في الغرب، بالمشاركة السياسية، وإذا لم تتحقق عملية تحول وبناء مؤسسي سليم، فستشهد تلك الدول تدهوراً خطيراً على المدى المتوسط. وبوفاة حافظ الأسد، وهو من أطول الزعماء الكاريزميين عمراً، ظهرت أولى تجارب الانتقال الجاد في ما يتعلق بهذا النمط. وهناك شخصية أخرى مهمة، وهي شخصية بورقيبة في تونس.

 

ويمكن تفكك الأبنية السلطوية أن يؤدي إلى توليد دينامية خاصة تشبه الدينامية السياسية التي شهدها العالم العربي في الخمسينات والستينات من القرن العشرين. ومن هنا، فإن من الضروري أن يوضع في الاعتبار إيقاع هذا التغيير ومقاييسه الاجتماعية الثقافية عند إجراء التحليلات الاستراتيجية والتكتيكية في الشرق الأوسط؛ كما عند قيام الدول بوضع خططها المستقبلية.