خبر عبقريَّة التفاوض باحتمال 1%-- عبد الستار قاسم

الساعة 05:50 م|01 سبتمبر 2010

عبقريَّة التفاوض باحتمال 1%-- عبد الستار قاسم

الشعبُ الفلسطيني محظوظ جدًّا لأن السيد محمود عباس يقودُ السلطة الفلسطينية، وسيستمرُّ في هجوم السلام والمفاوضات حتى لو تضاءلتْ احتمالاتُ النجاح إلى 1% هذا رئيس سلْطَة يتمتع بثقة ذاتيَّة عاليَة جدًّا، وهو لا ينثني حتى تحت أحلَك الظروف وأقسى الاحتمالات، إنه مثابرٌ وصبور ومصمّم، ولديه قدرة عجيبة على الاستمرار بالفشل، لقد أعلنَ في حفلةِ إفطار رمضانيَّة أنه سيستمرّ في المفاوضات مهما كان الأمر، دونما اعتراض من أحد.

 

قادةُ الدول والأحزاب والتنظيمات يحسبون الاحتمالات فيما يتعلَّق بنجاح سياساتهم، ودائمًا يحاولون اتخاذ الخطوات اللازمة لرفْع نسبة الاحتمال، ويترددون كثيرًا في المضي بسياسات معينة إذا وجدوا أن احتمالات النجاح متدنية، القادة يحسبون جيدًا، يطرحون ويجمعون ويضربون ويقسمون، ويفكرون مرارًا وتكرارًا، ويستدعون المستشارين والخبراء وأصحاب الاختصاص من أجلِ المساعدة في وزْن الأمور والتقدير والتقييم، إنهم يحذَرون التسرُّع، ويعرفون أن قراراتِهم تمسّ شعوبًا أو أمَّة بأكملِها، ويعون أنه يترتَّب على أخطائهم تبعات كبيرة جدًّا لا تقتصر على نفَرٍ قليل من الناس.

 

هناك قادةٌ لا يطمئنون لنسبة نجاح تراوح 70%، ويفكرون مليًّا في الإجراءات التي يجب اتخاذُها من أجلِ رفْع النسبة أو المحافظة عليها قبل اتخاذ القرار بالتنفيذ؛ وهناك قادةٌ ينشغلون كثيرًا في تقييم الأمور إذا راوحت نسبة النجاح 60%، وآخرون يغيِّرون مجرى تفكيرهم إذا رأوا أن احتمال النجاح يراوح 50%، قادة الدول والشعوب لا يجرِّبون حظوظَهم بمصائر شعوبهم، وليس لديهم الاستعداد للمقامرة لعل وعسى أن تدورَ عجلة القمار لصالحهم، القائد يبني ويخطِّط ويطوِّر ويحسِّن ويشارك شعبه ويطلب العون منهم، ويزِنُ الأمور باستمرار من أجل بناء قدرات توصله إلى النجاح في مختلف المجالات.

 

هذا جدلٌ صحيحٌ بالنسبة للجراح الذي يزِنُ نسبة نجاح العمليَّة الجراحيَّة قبل أن يمسك بالسكين، وصحيح بالنسبة للأفراد الذين يريدون القيام بعمل معين لتحقيق هدف معين، في كل بقاعِ الأرض، يقومُ الشخص أو الجماعة أو الحزب بالتفكير مليًّا باحتمالات النجاح للخطوات التي يبْغُون القيام بها، وإذا وجدوا أن النسبة هابطة، فإنهم يتراجعون لصالح التفكير بخطة وخطوات جديدة، الذين لا تردعُهم الاحتمالات الهابِطة لا يتميَّزون بالذكاء، أو ربما لا يكون النجاح ضمن حساباتهم، أو أن النجاح الذي ينوون تحقيقه ليس ذلك المعلَن.

 

من إصرار عباس، من الممكن استخلاص التالي:

 

أولًا: المفاوضات بالنسبة لعباس عبارة عن أيديولوجيا، وليست آليَّة من أجل الوصول إلى هدف، المفاوضات بالنسبة له عبارة عن هدف أو منهج حياة لا طلاقَ معه، وقد عبَّر عن هذا كبير مفاوضيه في كتابِه المعَنْوَن "الحياة مفاوضات".

 

الحياة لا تخلو من المفاوضات سواءٌ على مستويات فرديَّة أو جماعيَّة، لكنَّها عبارةٌ عن آليَّة أو أداةٌ للوصول إلى تفاهُم وحلّ المشاكل القائمة، أما عندما تنقلبُ إلى أيديولوجيا فإنها تتحوَّل إلى نشاطٍ عبثيّ لا هدف له، أيديولوجيا المفاوضات عبارة عن طقوس وثنيَّة تخلو من المضمون، وقيمتها تنحصر فقط في طقوسيَّتها.

 

هذا ليس غريبًا عن السيد محمود عباس الذي تبنَّى فكرة المفاوضات منذ السبعينيات، ووقف ضد المقاومة على اعتبار أنها بدون جدوى، وهو الذي ردَّد بأنه سيفاوِضُ إن فشلت المفاوضات، وسيفاوض إن فشلت، وسيبقى يفاوض ويفاوض.

 

ثانيًا: بتصريحِه في الاستمرار بالتفاوض، يصِرُّ عباس على الفشل، إذ من المستبْعَد جدًّا أن ينبثقَ الـ 1% إلى نجاح، في حين أن احتمال 99% يتراجع إلى فشل.

 

المنطقُ الفلسطيني يدعو السيد عبَّاس إلى مراجعةِ مختلَف جوانب المفاوضات عندما تتدَهوَر نسبة النجاح إلى 60%، أو 50%، لكن تجاهلَه للأمور المنطقيَّة، ولأبسط قواعد العمل السياسي الناجح يعني أنه يصِرُّ على الفشل، وإذا كان يصِرُّ على الفشل الفلسطيني، فإنه يصر على نجاح الطرف الآخر، وهذه مصيبةٌ عظيمة.

 

ثالثًا: عباس يتحدَّى بتصريحه مشاعر أغلب الفلسطينيين في كافَّة أماكن تواجدِهم، ويتحدى مختلف الفصائل والأحزاب الفلسطينية التي أعلنتْ عن معارضتِها لاستئناف المفاوضات، المنطق يدعو عباس، إذا كان حريصًا على وحدة الشعب ووحدة الفصائل، أن يدعو إلى لقاءات موسَّعة وإلى نقاش مفتوح في الساحة الفلسطينية داخليًّا وخارجيًّا، لكن وقد ارتأى تحدي الآراء المختلفة فإنه بالتأكيد غير معنيٍّ بإخراج الشعب الفلسطيني من مآزق الانقسام والتشرذُم.

 

رابعًا: تصريح عباس ينسجم تمامًا مع مسألة التنسيق الأمني القائم مع الإسرائيليين، ومع الدفاع عن الأمن الإسرائيلي، الدفاع عن الأمن الإسرائيلي يتناقض تمامًا مع الحقوق الوطنيَّة الثابتة للشعب الفلسطيني، وتصريح عباس بشأن المفاوضات يتناقض تمامًا مع هذه الحقوق، أي أن التصريح منسجمٌ مع الحفاظ على الأمن الإسرائيلي، وهذا يعني أن المفاوضات لا تهدف إطلاقًا إلى استعادة حقوق وطنية، ربما تنجز المفاوضات حقوقًا إنسانيَّة مثل زيادة أعداد العمال في إسرائيل، أو الإفراج عن بعض المعتقلين، لكن ذلك لن يتطوَّرَ إلى مناقشة الحقوق الوطنيَّة الثابتة للشعب وعلى رأسها حقّ تقرير المصير.

 

خامسًا: من الممكن أن يفاوضَ المرءُ، لكنَّه في ذات الوقت يحرصُ على تطوير بدائِلِه حتى لا يجدَ نفسه بالعراء، السيد عباس لا يطور شيْئًا من البدائل، ويترك الشعب تحت رحمة الـ 1%.

 

سادسًا: من فن المفاوضات ألا يعرِّي المرءُ نفسَه أمام عدوِّه أو أمام الطرف الآخر على طاولة المفاوضات، السيد عباس يقول للإسرائيليين من خلال تصريحه: إنه لا يبحث عن بدائل، والطريق الوحيد السالك أمامَه هو المفاوضات، إنه يقول للإسرائيليين، بالاستنتاج: إن بإمكانهم الاستمرار في مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات لأنهم مهما فعلوا لن تتوقف المفاوضات.

 

سابعًا: هنا تتبيَّن عمق الجريمة التي تم اقترافُها بحق الشعب الفلسطيني عندما تم ربط أسباب معيشتهم بالأموال القادمة من الدول المانحة، أشخاص مثلي قالوا عن هذا العمل عام 1994 إنه جريمة عظيمة وعلى الشعب أن يرفض مثل هذا الترتيب، لكن يبدو أن المنطقَ غاب أمام المصالح الذاتية، وكانت النتيجة أن علينا التخلي عن إرادتنا السياسية مقابل المال، وشعارنا الآن هو: نركع ولا نجوع، هذا علمًا بأن الشعب الذي يصمِّم على الحياة الحرَّة لا يجوع، والأحرار في النهاية يصنعون الخبز، نحن الآن يَصنع الخبز قراراتنا السياسية، ونحن رهائن رواتب موظفي السلطة وسيارات أكابرها.

 

على الرغم من النقاط أعلاه، أعود وأُسمع الناس ما كرَّرته منذ عام 1979 حول عدم أصالة القيادات الفلسطينية، كان تقديري واضحًا وجليًّا منذ عشرات السنوات، وهو أن القيادات الفلسطينيَّة ليست قيادات حقيقية، وأن الشعب سيجد نفسه منتقِّلًا من تنازل إلى تنازل بسبب الإحباطات المتكرِّرة وعوامل التمزيق والتفتيت، فمهما كان المنطق قويًّا، تبقى الغلبة للارتباطات.