خبر حديث أمة يستنسر بغاثها..علي عقلة عرسان

الساعة 06:59 ص|28 أغسطس 2010

حديث أمة يستنسر بغاثها..علي عقلة عرسان

 

سوف يذهب "عرب القضية المركزية" إلى مفاوضات مباشرة مع الكيان الصهيوني، بشروط يفرضها صهاينة، يرفضون المرجعيات الدولية بوصفها شروطاً فلسطينية مسبقة!؟ وذهاب أولئك المفاوضين معزز بغطاء عربي سميك، وبحضور قادة عرب "يحاطون بالتبجيل"، ليوافقوا على التنازل الكلي على ما بقي للفلسطيني من حق وأرض. تتم تلك الرحلة المقرونة بالخسران المبين، على الرغم من أن جماهير شعبية عربية واسعة ترفضها، ويرفضها قادة ومناضلون فلسطينيون، وفصائل المقاومة الفلسطينية كلها، وشخصيات ومنظمات ومرجعيات قومية ووطنية في الوطن العربي من أقصا إلى أقصاه.. ولكن.. ما قيمة ذلك وأولئك بنظر م يغتصبون مفاتيح الحل، أي حل؟ إنهم على الرغم من هذا كله، يذهبون إلى مفاوضات كارثية " من أجل "السلام" الذي يعشقونه، ولو كان هناك أمل بنسبة 1%، ذلك لأن حبهم لـ "السلام" يطغى على تعلقهم بالحق والعدل الحرية والتاريخ وكرامة الأمة العربية كلها بمن فيها فلسطين وشهدائها الأبرار، ويطغى على مصلح أوطانهم وشعوبهم، فهم "يخلصون له" أكثر من إخلاصهم لقضاياهم وشهدائهم ومصالح شعبهم ومقدسات عقيدتهم التي تُنتهك أمام أبصارهم كل يوم.."؟! وماذا يستطيع أولئك أن يفعلوا ورقابهم بأيدي أعدائهم وحلفاء أعدائهم؟! ماذا يفعلون لو أن الأعداء وحلفاءهم قطعوا عنهم الرواتب والرتب العالية، وحاصروهم كما يحاصرون غزة منذ أربع سنوات ونيف، وهم لا صبر لهم على مفارقة حالة الرفاهية التي يعيشونها، نتيجة قربهم من المحتل الذي يريد لهم "دولة" يسيطر هو على مجملها وكل تفاصيلها وأحلامها ومستقبلها و.. و..؟!

إنه "لا سبيل أمامهم غير ذلك"، بعد أن أحرقوا مراكبهم، وأصبح العدو من أمامهم من ورائهم،  وعن يمينهم وشمالهم، وبعد أن قطعوا العلاقات النضالية مع تاريخهم وشعبهم وأمتهم، وراهنوا على الاحتلال والقوى المتحالفة معه، تلك التي تشن اليوم حرباً على الأمة، مقدماتها حملات تنطلق من المناداة بعالم "بلا إسلام"، وكانت قبل ذلك قد وضعت خناجرها وخناجر من تآمر وتحالف معها من العرب في قلب العروبة، الغائبة المغيبة، أو المستقيلة من مهامها ووجودها، بفعل تهافتها وسلبية كثير من أبنائها، ليكون هناك أرض بلا عرب!؟ إن هذه الكارثة، أو الطامة الكبرى إن شئت، تدفعني إلى الحديث عن العرب وغيابهم، لا عن المفاوضين في ذهابهم وإيابهم، وعن الأمة العربية التي يستنسر بغاثها، وهي غثاء كغثاء السيل. 

إن أعداء العروبة اليوم في حالة هجوم، وأهل العروبة " من قوميين وإسلاميين وسواهم، ممن يعلنون انتماء للوطن العربي ويعيشون فيه، في انكفاء وانكماش وما يشبه السبات، فتفرق القوى القومية وتنابذها، وحتى تناحرها، أفقدها قوة الحضور والمبادرة والرؤية السليمة للمخارج من الأزمات والتوجه نحو المستقبل بمشروع متكامل. وتقاتل القوميين والإسلاميين فاقم الضعف وزاد في عمره وتنوع مجالاته وأدواته ووسائله، ونهوض الشعوبية الجديدة، بأطرافها التي يجمعها عداء للعروبة، وتدعمها جهات خارجية معادية للأمة العربية وحركتها التحررية ومقاومتها للاحتلال وثباتها على المبادئ، من الأمور الملحوظة.. والكل ينهش القومية العربية والأمة العربية، ويرميها بتهم منها "الشوفينية والعنصرية..إلخ"، وينال منها في عقر دارها، بينما بعض أهلها يتنصلون منها ويعطونها ظهورهم.. والعروبيون الأصليون، "قوميون وإسلاميون"، في تضاد واحتراب وتناحر واستلاب.. حتى داخل التنظيم القومي الواحد هناك اختلاف يصل حدود انعدام الثقة والغدر والمكر والاقتتال من جهة، والسذاجة و"العبط" من جهة أخرى!! إنهم يضعون مناوئيهم في أحضانهم، ويستمرئون منهم بعض ما يزري بهم وبمبادئهم وأصالتهم وانتمائهم وقوميتهم ودينهم.

وما لم يوضع حد نهائي للصراع المقيت المفتعل بين العروبة والإسلام من جهة، وللتضاد المخل بالإيمان وبالانتماء للعروبة الشاملة الواسعة المتسعة، بين تيارات وتنظيمات عربية، بينها من يرفعون راية القومية العربية ويكادون يحتكرون الانتماء إليها، وبين الإسلاميين الذين لا يتنكرون للعروبة ولا يتوافقون مع القوميين العرب من جهة أخرى، فإن الحال لن يتغير إلى الأفضل، وصورة المستقبل ستزداد ضبابية، وأعداء الأمتين العربية والإسلامية سوف يتغلغلون بين اللحم والعظم، وسينحرونهما باسم مكافحة الإرهاب وسواه من الأسباب.. فمنذ أن سمعنا في الربع الأخير من القرن العشرين قول صهاينة وأميركيين:" وداعاً للعروبة، وداعاً للقومية العربية.. وبدأ اتهامهم للإسلام بالإرهاب.."، ونحن نحصد الزؤان، ونبيدر قمحنا في بيادر أعدائنا ليأخذوه براحة واقتدار، ويجوع صغارنا ويموتون بين أيدينا.   

  وقد شخص المفكر العربي عصمت سيف الدولة وضع الطرفين القومي والإسلامي في تنازعهما، حيث قال: " ـ " في الوطن العربي طائفتان اختلفتا فاتفقتا: طائفة تناهض الإسلام بالعروبة، وطائفة تناهض العروبة بالإسلام، فهما مختلفتان.. وتجهل كلتاهما العروبة والإسلام كليهما فهما متفقتان. وإنهما لتثيران في الوطن العربي عاصفة غبراء من الجدل تكاد تضل الشعب العربي المسلم عن سبيله القويم. وإنهما لتحرضان الشباب العربي على معارك نكراء تكاد تلهيه عن معركة تحرير أمته.".

وبعد فإنني أطرح تساؤلات للتوقف عندها والتفاعل معها:

هل القومية العربية وما انبثق عنها وبُني عليها واشتُقّ منها وأوحت به وعمَّق مدلولاتها وإيحاءاتها، من فكر قومي ومشاعر شعبية وتوجهات نظرية وتنظير وتنظيم وعمل، كانت مجرد وهم نمّيناه وابتلعناه فتورّم في أعماقنا وأصبحنا بسبب من ذلك خارج حدود التاريخ ومعطى الواقعية، بتياراتها ومذاهبها، كما يحاول أن يشيع أصحاب العداء المقيم للعروبة؟!.

وهل هي مشروع صدَّره الإنكليز، كما صدروا حركة الإخوان المسلمين، كما كانت تقول تنظيمات حزبية وشخصيات في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين ويتوارث عنهم قولهم بعض المعاصرين.. أم أنها نبت أصيل في أرض الأمة وتربتها الثقافية، تعود جذوره إلى تاريخ أبعد من تاريخ أية أمة من الأمم، لَهَج بمقولاتها وأفكارها وأهدافها دعاة متشددون في مطلع القرن العشرين ابتداء من " مجلس المبعوثان " العثماني بالذات، يوم قال خالد البرازي مبعوث حماة في مجلس المبعوثان، حين كانت قضية طرابلس الغرب مطروحة على النقاش:

"أيها الأخوان شاع في المحافل أن الصلح سيعقد، ومع أنني واثق بالحكومة، وأمين من وجدان رجالها، فلنفرض أنها استحصلت على فرمان بالاعتراف بإلحاق طرابلس الغرب بإيطاليا، فإنني أقول، باسم "الأمة العربية"، إننا نمسح هذا الفرمان بدمنا ولا نرضى بذلك، ولو لم يبقَ عربي على وجه الأرض.".

 وهل التطلع الوحدوي العربي، الذي يعتبَر أهم أقانيم الفكر والعمل القوميين، وأبرز شعاراته وأهدافه التي ضحت الجماهير العربية من أجلها، وتطلعت إليها طوال عقود من الزمن، هو أبعد من حلم، وأكثر من خرافة وتخييل، وصنو الغول والعنقاء والخل الوفي، ونوع من أساطير تُبنى عليها سياسات أو تتقنع بها سياسات لتراوغ وتناور، وأن ذلك التطلع لا تمتد له أية جذور في الواقع المعيش، حيث لم يرسّخ وتنمو جذوره في التربة الوطنية والقومية  نمواً طبيعياً عندما تحقق له مناخ اجتماعي وثقافي، ووجود سياسي، في أقطار عربية وصلت أحزاب قومية فيها إلى السلطة، وتوجهت نحو الوحدة. ؟!

هل العرب أمة، حسب المعايير التي وضعها المنظرون لوجود الأمم وتطورها وحضورها الفاعل في التاريخ، أم أنهم ما زالوا، بنظر الشعوبيين المعاصرين ومن لا ترضيهم القومية العربية بالذات، مشروع أمة، ومشروع قومية، ومشروع وجود، ومشروع حلم.. على الرغم من توافر مقومات القومية العربية جميعاً وحضور الذي لا يغيبه إلا التجني عليها وقصر النظر؟! ومن المؤسف أنه حتى في مجال التطبيق العلمي للمنهج والمعايير الموضوعية لتعريف القومية وتحديد مقوماتها، تبدو ازدواجية ظاهرة، ومتطرفة في عداء مكشوف للقومية العربية.؟!

وهل " التشنج" القومي هو السبب في رفض عرب اليوم دخول أبواب

"سلام اليوم" الذي يقدمه للمنطقة: الصهيوني المحتل، والمتصهين المرتبط بالاحتلال ومشاريعه، والإمبريالي الذي يرقِّط جلده بوشم الشعارات الإنسانية والسلام، ويلغو بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة، وهو يزري بكل ذلك ويزني به في كل آن، ويتواطأ مع مزيفي تلك القيم والشعارات والمتاجرين بها، ومن يستخدمونها مدخلاً لتصفية قضايا مصيرية عادلة، وللنيل من دول وشعوب وعقائد وثقافات وتنظيمات، والهيمنة عليها ونهب ثرواتها.؟!

وهل القومية العربية لا تقوم إلا على أسس علمانية ـ إلحادية، وعلى نفي الدين وقيمه، والتنازع مع الإسلام، فإما هي وإما هو؟! وأنها لا يمكن أن تكون تقدمية وعصرية ومرضياً عنها، إلا إذا زوّرت هويتها وأهدافها وتنازلت عن هويتها وثوابتها ومبادئها وحقوقها التاريخية، وغيرت تاريخها وبنية مجتمعاتها، وارتدت ثوباً مفصَّلاً على الطريقة الصهيونية ـ الغربية، لحل مشكلة مجتمعية، اقتصادية وسياسية، أو لخلق مشكلات لكل المجتمعات، تعيشها وتعاني منها، ليتفرغ اليهودي لمشروعه الصهيوني الاستيطاني الاقتلاعي الإحلالي، وعبثه بمقدسات الفلسطينيين، وبالعرب الآخرين ومن يناصرهم من المسلمين، وبقومياتهم وعقائدهم وثقافاتهم وحقوقهم ودمائهم؟!

وبعد هذا كله وقبل هذا كله: هل القومية العربية، " أي العروبة ".. أفلست، وهي بلا مستقبل، وأن عليها أن تلملم أوراقها وتنسحب خارج التاريخ والعصر، بعد أن تحمّل نفسها مسؤولية كل ما حدث للأمة العربية خلال هذا القرن والقرن العشرين الذي لفظ أنفاسه، وأنّ على التيار القومي بكل تنظيماته وتشعباته وفروعه واجتهاداته وتناحراته، أن يخلي الساحة لسواه، بعد أن يعلن إدانة نفسه، ويكتفي من الغنيمة بالإياب، لأنه ومنطقه القومي، حكما على مستقبلها بالموت، من وجهة نظر من يطرحون هذه المقولات، ويتمنون تلك الأمنيات؟.

وهل أفلست طروحات ذلك التيار ونظرياته، ووصل إلى درجة من الجمود لا تجدي معها المراجعة ونقد الذات وتصحيح المسارات.. أم أنه تيار يرى ما له وما عليه، ومازال حضوره في ساحة العمل والنضال هو الأساس لتحقيق أهداف الأمة، وأن مساحة المستقبل مفتوحة أمامه.. ولكن وصوله إلى حالة من الأداء الملائم والمطلوب تحتاج إلى وقفة نقدية شجاعة ودقيقة وجريئة.. مع الذات، يجري فيها مراجعة ومحاسبة ونقداً ذاتياً موضوعياً حكيماً ومسؤولاً، ليخرج بعد ذلك أكثر تعافياً وواقعية،وأقل جهلاً وجاهلية وعنجهية، وأشد تواصلاً العصر والعلم، ومع أصوله وحقائق توجهات جماهيره وركائزه التي حاولت تنظيمات وتيارات أخرى أن تهزها هزاً عنيفاً، وأنّ تدخل من خلالها إلى بنية أمة لا يمكنها أن تقبل الهُجنة والدخيل، ولا أن تتخلى عن منظومات قيمها وعقيدتها وهويتها وأصالتها وحقوقها وتاريخها الحضاري العريق.. وتعي أن أعداءها يرمون إلى نفي وعيها، واحتلال عقلها وتغيير ثقافتها وعقيدتها، وتفتيت تماسكها، تمهيداً لنقض بنيانها من الداخل، وإضعافها تماماً بعد تمزيقها تماماً، ومن ثم الانقضاض على وجودها ذاته؟!.

تلك أسئلة نطرحها ونحن أمام واقع ووقائع، تتجذر وتترسخ في وطننا العربي وبين أجياله لصاعدة، تنقض معمار العروبة الفكري والعاطفي والسياسي والاجتماعي، وتؤسس لانهيار كبير، ولا تساهم في استشراف صورة إيجابية لمستقبل العروبة والأمة العربية.. ومن ذلك الذي نحن أمام معطياته وحقائقه:

ـ قطرية عربية مستفحلة متورمة ضيقة النظرة، منطقها السائد: "أنا أولاً" والأمة من بعدي، أو "أنا ومن بعدي الطوفان"!.. قطرية تعطي ظهرها للقومية المنقذة، ولقضايا الأمة المصيرية، وتشكل صيغة اعتراضية على القومية، وتساهم في تضييع الأخ وقتله وتدمير كل ما يملكه، من دون الارتفاع إلى مستوى رؤية المشترك والقومي والأخلاقي الإنساني، واستشراف المستقبل البعيد.

ـ تحالفات مع أعداء الأمة العربية، إذا كان في تلك التحالفات مجرد بقاء أنظمة وحكام في سدة الحكم، أو تلميح بحماية من ثورة الشعب عليها وفرضها بالقوة إذا اقتضى الأمر.

ـ تخلي شباب عربي عن كثير من قيم الأمة والمهام والاهتمامات الوطنية والقومية العليا.. وسعيه وراء السطحي والآني واللذيذ"؟!؟" في خضم انحلال وحاجة، وفساد وإفساد مستشريين بفداحة وفجاجة.

ـ نماذج من الفعل المدمر، يقوم بها ساسة عرب "مسؤولون" عن حمل أمانة الانتماء للأمة وقيمها، يصدق فيهم قول الشاعر الفرزدق:

    وكنت كذئب السوء، لما رأى دمى     بصاحبه يوماً، أحال على الدم

  وأمام اقتتال مقيت يشتعل بين آن وآخر في هذا القطر العربي أو ذاك، بين هذا القطر العربي وذاك، وفي خضم تبعية للأميركي خاصة والغربي عامة، وتحالف مع الصهيوني ضد المقاومة "والممانعة" والتحرير والمصلحة العربية العليا والكرامة القومية، أي ضد كل من يرفض الخضوع والتنازل عن الأرض والحق والذات والمبدأ والمصلحة والانتماء والإيمان بالله والوطن، ويقف بوجه العدو والتحالفات المناهضة لحقوق العرب ومصالحهم.

ونحن أيضاً في خضم انفلات العملاء من كل قيد وخلق وقانون، حيث تراهم يثخنون أمتهم وأقطارها جراحاً، ويهددون ثقافة الأمة وقضاياها، وتستبد بهم الوقاحة إلى درجة الاستهانة بأبسط قيم "الوطني والقومي والإنساني"، وبمقومات كل ذلك وخصائصه.. ويتمتعون بحماية خارجية مؤثرة، ويرفعون في أوطاننا أعلاماً وقامات فوق القامات والمقامات؟! إن هذا الوضع يقتضي من العرب المنتمين بأصالة لأمتهم، المعنيين بحاضرها ومستقبلها وقضاياها ومصالحها ومصير أجيالها، أن يواجهوا هذا الواقع، وأن يتصدوا، بجرأة وعلمية ووعي، لمن يحز رقابهم بسكاكينه.. وإلا فالطامة الكبرى آتية، والكل مصطل بنارها، ومعني بها، ومسؤول عنها.. مهما نأت دار، وناءى عن الأمة بجسمه ورأيه وإرادته وقراره.