خبر مفاوض زاده الضّعف../ فيصل جلّول

الساعة 12:29 م|25 أغسطس 2010

مفاوض زاده الضّعف فيصل جلّول

لم يكن قرار اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية باستئناف المفاوضات المباشرة مع “إسرائيل” مفاجئاً لأحد، ذلك أن هذه الهيئة الفلسطينية لم تقرر يوماً إلا ما أراده رئيسها الراحل، وهي تقرر اليوم ما يريده محمود عباس مع فارق أنها كانت في عهد ياسر عرفات تحترم سقفاً وطنياً فلسطينياً شاهقاً إلى هذا الحد أو ذاك، فيما هي اليوم تقرر تحت سقف شديد الانخفاض يعكس سياسة خضوع سافر، لا حول لها ولا قوة.

 

وعلى الرغم من أن قرار استئناف المفاوضات قد اتخذ من دون صعوبات تذكر فإنه بدا ضعيفاً خفيف الحجة والبرهان، وقد خانته الصياغة اللغوية التي تشي بانعدام الثقة في عباراته وفي المفاوضات المقبلة التي ينبئ بها دون فخر أو اعتزاز، ناهيك عن غياب الاندفاع والحماس.

 

أغلب الظن أن المفاوضات المباشرة بين السلطة الفلسطينية والحكومة “الإسرائيلية” تلتئم لحاجات صهيونية حصرية، ولا تنطوي على أية رهانات فلسطينية جدية حول تحصيل الحقوق وبناء الدولة المستقلة، وهي لم تحظ بحماس ظاهر من دول الاعتدال العربي، في حين لم يبادر تيار الممانعة لإطلاق الرصاص عليها مفترضاً أن خضوع المفاوض الفلسطيني لشروطها المهينة هو أفضل حجة على انعدام جدواها، وبالتالي اتساع رقعة الرهان على المقاومة والمواجهة لانتزاع التنازلات من براثن الدولة الصهيونية.

 

والحق أن الخطأ القاتل الذي ارتكبته السلطة الفلسطينية لم يبدأ مع استئناف المفاوضات المباشرة وفقاً للرغبة والأجندة “الإسرائيلية”، وعلى الضد من الموقف المعلن منذ أشهر حول الانتقال من المفاوضات غير المباشرة إلى المفاوضات المباشرة حين يتحقق تقدم جدي في الملفات الأساسية. والمؤسف أن محمود عباس كان قبل أيام يؤكد أن المفاوضات غير المباشرة لم تحقق ذرة تقدم واحدة، وأن الطرف الفلسطيني يعرض نقاطاً فيما الطرف “الإسرائيلي” يلتزم الصمت ولا يدلي برأي مفيد حول المواضيع المطروحة، الأمر الذي يستدعي قطع المفاوضات غير المباشرة وليس القفز نحو المباشرة في حركة بهلوانية غير مشرفة للمفاوض الفلسطيني.

 

وتفصح الطريقة التي اعتمدت في الانتقال من المفاوضات غير المباشرة إلى المفاوضات المباشرة عن نجاح تل أبيب في فرض أجندتها الخاصة على جميع المعنيين بهذه المفاوضات، وفي طليعتهم الولايات المتحدة التي شرعت منذ انتخاب أوباما بتغطية اللهجة الشرطية العالية التي اعتمدها محمود عباس في وقف الاستيطان، وفي مقاربة مواضيع الحل النهائي وتحديد سقف زمني لإنشاء الدولة الفلسطينية لا يتعدى السنتين.

 

والراجح أن الضغوط التي مارستها اللوبيات المؤيدة لـ”إسرائيل” قد أدت إلى تراجع تيار أوباما وتقدم تيار وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، وبالتالي مباركة المفاوضات المباشرة من دون تقدم مسبق ومن دون التزام زمني، واستناداً إلى تأكيدات أمريكية بتحرير المفاوضات من الضغوط الخارجية، الأمر الذي يحيل بيان الرباعية الذي سبق المفاوضات إلى قصاصة ورق عديمة القيمة بالنسبة للمفاوض الفلسطيني.

 

وما ينطبق على الولايات المتحدة ينطبق أيضاً على الاتحاد الأوروبي الذي كافأ التعنت “الإسرائيلي” بضم “إسرائيل” إلى منظمة التعاون والدفاع الأوروبي، وهي خطوة على طريق ضمها إلى الحلف الأطلسي، ولم يشترط الأوروبيون أن تمتنع “إسرائيل” عن الاستيطان أو أن تلتزم جدولاً زمنياً لإقامة دولة فلسطينية مع الإشارة إلى أن أوروبا تعين “إسرائيل” منذ اتفاق أوسلو ،1993 إذ تمول احتلالها للأراضي الفلسطينية، وتمول السلطة الفلسطينية، وبالتالي تضغط عليها بالاتجاه الذي يخدم أغراضها.

 

أما الدول العربية المعتدلة التي تشجع الرئيس محمود عباس على خوض المفاوضات المباشرة، وبخاصة تلك التي تحتفظ باتفاقيات سلام مع تل أبيب، فإنها وضعت بلدانها في موقع لا يتيح لها هامشاً كبيراً للمناورة في هذه القضية وفي قضايا شرق أوسطية أخرى. وهي إذ تضغط على السلطة الفلسطينية لاستئناف المفاوضات المباشرة، فإنها تستجيب لإملاءات الخارجية الأمريكية وتبتلع تعهداً معاكساً كانت قد التزمته من خلال الجامعة العربية قبل أشهر معدودة، بل ذهبت إلى حد الحديث عن عدم إبقاء مبادرة السلام العربية على الطاولة إذا ما واظبت “إسرائيل” على إدارة الأزمة الفلسطينية بدلاً من حلها.

 

في ظل هذا القدر من الإرغام يذهب عباس إلى واشنطن لاستئناف المفاوضات المباشرة مع الدولة الصهيونية في مشهد تريد من خلاله أن تقول لمن يرغب إنها الأقوى، وإن أجندتها هي التي تسود مفاوضات مباشرة، وإنها تريد اصطفافاً عربياً وأوروبيا وأمريكيا ضد محور المقاومة والممانعة في الشرق الاوسط، وإدارة للأزمة متناسبة مع المزاج والمصالح الصهيونية، فهل من يقوى على اعتراض هذه الأجندة بين المفاوضين والداعين إلى التفاوض وهل من يرغب أصلاً في الاعتراض؟ عندما يأتي المفاوض الفلسطيني إلى واشنطن تحت شعار المفاوضات ولا شيء غير المفاوضات، فإنه كمن يقول لعدوه أنا تحت رحمتك افعل بالمفاوضات ما تشاء، وهو خيار ينتمي إلى فلسفة “قوة الفلسطيني في ضعفه”، المسؤولة في لبنان عن حروب العقود الثلاثة الماضية.. في واشنطن لم يكن محمود عباس ملزماً بمفاوضات مهينة لا يريدها شعبه، ربما كان عليه أن يستمع إلى نصيحة المتنبي:

 

إذا غامرت في شرف مروم

فلا تقنع بما دون النجوم

 

فطعم الموت في أمر حقير

كطعم الموت في أمر عظيم

"الخليج"