خبر العراق والاحتلال.. انسحاب من أجل البقاء!../ عبد اللطيف مهنا

الساعة 09:39 م|15 أغسطس 2010

العراق والاحتلال.. انسحاب من أجل البقاء! عبد اللطيف مهنا

الجرح العراقي المفتوح لا يكف نزفاً، وكل يوم جديد يزفّ لنا من جديده مزيداً من المآسي ومريع العذابات. ومع الأيام لا يعدم هذا الجرح المفتوح من ينكأه و يدفعه حثيثاً نحو التعفن. والعرب، نحن العرب، أو قُل أغلب العرب، قد تفرقوا ما بين الغافل والعاجز، والساكت واللامبالي، أو من ارتضى لنفسه منزلة الشيطان الأخرس.

 

كان العراق، بما يعنيه، عراق الإنسان والمقدرات والدور والتاريخ والموقع، واحداً من تلك الركائز التي عليها تسند احتمالات النهوض العربي... النهوض بأوجهه كافة، هذا إذا ما قيد لهذه الأمة المغيّبة المقهورة نهوضاً، أو سُمح لها به، أو بالأحرى تمكنت هي من انتزاع نهوضها من براثن محرمات أعدائها الكثر... أعداء الخارج والداخل...

 

ولأن هذا هو العراق وما يعنيه ويظل، جاؤوه تسبقهم إليه أكاذيبهم، ويستظلون حديدهم وذرائعهم، ومعهم، أو يتبعهم، صنائعهم وعملاءهم، فأجهزوا على كل مقومات الدولة فيه، ودمروا كل ما كان ركائزها... وقبل هذا وذاك، استهدفوا الإجهاز ما استطاعوا على تليد عنفوانه المعهود، أو ما خُص به ومُيّز به إنسانه. وعلى الركام والدمار والدماء ومزق الأكفان أطلقوا ما أسموه "العملية السياسية" ساعين لإنتاج حراس ووكلاء وملتزمين ينوبون عنهم، إن إيحاءاً أو بالأوامر والنواهي المباشرة، ليبقى العراق كما أرادوه، وليبقوا هم بعد رحيلهم فيه...

 

في مقال سابق، أشرنا إلى أن العراق قد تفرّد فشهد أسرع مقاومة لغاز عرفها التاريخ. بدأت مع بدء أيام الغزو واستمرت وتصاعدت واتسعت فشملت خارطته من بصراه حتى موصله... مقاومه أيضاً لها فرادتها الأخرى باعتبارها المقاومة الوحيدة التي تفرق قومها العرب ما بين الغافل عنها، والعاجز عن دعمها، والساكت على خبرها وحتى المتكتم عليه، فاللامبالى بتضحياتها أو غاض النظر عن حقائقها، أو من ارتضى لنفسه موضوعياً أن يسهم في حصارها ويرتكب فعلة إنكار وجودها... وعليه أسهم الأخوة مع أعداء شقيقهم خارجاً وداخلاً في مطبق التعتيم، الأقرب إلى خطيئة الإنكار والحصار لما شهد العالم بأنها أسرع مقاومة عرفها التاريخ، فكرر بالتالي أغلب إعلام العرب ما يقوله إعلام الغزاة أو ما يريد هؤلاء قوله عن العراق.

 

في العراق المقتلة مستمرة والدماء البريئة تسفك، وحيث البلد مفتوح ومباح ومتاح لعبث مرتزقة ما هبّ ودبّ من أجهزة أعدائه الكثر، وعلى رأسهم المحتلون والصهاينة، فالتكتم على الفاعلين الحقيقيين والأيادي السوداء مستمر، وينسبون ما يقترفونه زوراً وبهتاناً للمقاومة، وحيث الشيء بالشيء يذكر ففي أفغانستان مثلاً، يحمّل تقرير للأمم المتحدة طالبان مسؤولية ضحايا المذابح الأطلسية للمدنيين متوالية الارتكاب هناك! لا أحد يصدقهم، لكنما وحيث الكل يصمت فبالصمت هذا الكل شاء أم أبى يتواطأ.

 

...وقلنا دائماً، إن الأمريكان هم العدو الأول للأمة، كل الأمة من محيطها إلى خليجها، في فلسطينها، وعراقها، وسودانها، وصومالها، وكل مواقعها وجهاتها المرشحة لأن تغدو واحدة مثلها مثل هذه المواقع والجهات التي عددنا. وعليه، قلنا ولا نزال، إن إسرائيل، ومن جاؤوا مع الغزاة أو التحقوا بهم أو والوهم... والعاجز والغافل والساكت واللامبالى ما هم، موضوعياً، إلا مجرد تفاصيل من تفاصيل هذا العدو الأكبر، هذا الذي يختزل في حماقاته وبشاعاته وعضلاته آخر تجليات المشروع الغربي المعادي لأمتنا وجوارها ومحيطها الإسلامي.

 

اليوم، وللأسباب التي أولها المقاومتين، في العراق، وأفغانستان، وثانيها دواعي مداواة الأمراض الإمبراطورية، أو تلافي أعراضها التي تلازم بالضرورة انحدارها المحتوم، بعد أن بلغت القوة مداها وما من مزيد، والاقتصاد أرذل أيامه ولا مما يوحي قريباً بالنهوض، والكلفة الباهظة المتربتة على الاحتلالات والتي لا قدرة على الاستمرار مديداً في دفعها، أو تفادي الاستنزاف البشري والمادي والأخلاقي الذي يواجهه الغزاة المحتلين، وسائر من تبعهم من الأطلسيين والمتآمرين، أو هؤلاء الذين بدأوا في الفرار من السفينة الغارقة... ها نحن نسمع عن استراتيجية تنسخ أخرى في سياق تخبط ما قبل الهزيمة في أفغانستان... وكلام كثير يقوله الأمريكان وغربهم وعربهم يدور حول اقتراب مواعيد ومهل ما يدعى الانسحاب المقترب من العراق وفق "المهل المحددة"، وعن خطوات يسلم الغزاة فيها من أتمنوهم على المناط بهم أو ما أشرنا إليه بداية... هل هذا الانسحاب وارد؟

 

الأمريكان، لأسباب إمبراطورية، واستراتيجية، أو جيوسياسية، واقتصادية، وخصوصاً نفطية... ودائماً إسرائيلية، لم يأتوا إلى العراق ليخرجوا منه... وأنهم إنما اليوم يريدون الانسحاب منه لتقليل الكلفة أو تفادي الكلفات التي أشرنا إليها آنفاً... مع ضمان البقاء فيه... في العراق الاحتلال يعيد تشكيل شكل احتلاله لا أكثر، وهناك من الدلائل التي يتحدث عنها الغربيون وبعض الأمريكان أنفسهم، لا بأس من أن نسوقها لمن لازالت تعوزه الدلائل بعد على ما ذهبنا إليه... ومنها:

 

إلى جانب أضخم سفارة في العالم، يصفونها في الغرب بأنها في حجم الفاتيكان، يجري التأكيد على بقاء 49 قاعدة عسكرية يشغلها خمسون ألف جندي تحت ذريعة تدريب العراقيين ومحاربة الإرهاب، وبداعي توفير الأمن، ونية حفظ الاستقرار، الأمر الذي يعني ضمان استمرار فعل كل ما يراه الأمريكان ضرورياً لمواصلة الاحتلال، أو عملياً، وكما قلنا، إعادة تشكيل الحالة الاحتلالية وضمان ديمومتها.

 

يؤكد هذا، جاري مواصلة سياسة خصخصة الاحتلال، حيث يوجد إلى جانب القواعد المشار إليها وجنودها، ضعف عدد هؤلاء الجنود أي مئة ألف من المرتزقة، وهناك من يطالب بزيادة هذا العدد... السيدة كلنتون وحدها تقترح تجنيد سبعة آلاف مرتزق مختص في خمس وظائف دائمة تريدها وزارتها في العراق... هؤلاء الجند والمرتزقة ومعهم مجندو كلنتون جميعاً يقع على عاتقهم ضمان بقاء نتائج تحقيق الاستهدافات التي جاء الغزاة ليدمروا العراق ويحققونها بتدميره... وحراسة عشرات العقود النفطية التي وضعت 60% من نفط العراق تحت سيطرة الشركات الأجنبية التي جاءت مع الدبابات وحاملات الطائرات لأجل طويل يوازي عدم نضوبه... ويؤكد هذا، القلق الذي يبديه ساسة عراق ما بعد الاحتلال من حكاية "المهل المحددة" للانسحاب المزمع... رئيس أركان الجيش العراقي، مثلاً، يقول: "يجب أن يبقى الجيش الأمريكي حتى تكامل الجيش العراقي عام 2020"، وعنده "المشكلة تبدأ بعد2011" أي موعد هذا الانسحاب!!!

 

... وأخيراً، ليس هناك ما يسهّل ويغطي ما تقدم ويخدم كل تلك الاستهدافات أكثر من مواصلة اللعب بالأوراق الطائفية، والإفادة من استخدام الحالة الكردية... مثلاً، قبل أسابيع أبدى أحد جنرالات المحتلين قناعته بضرورة وجود قوات فصل بين عرب العراق وكرده بعيد الانسحاب الموعود الذي يتحدثون عنه!

 

إذن، ما هي إلا استراتيجية الخروج بهدف البقاء، سابق سياسة بوش ذاتها والمؤتمن لاحقاً على تطبيقها وحرفياً خلفه أوباما، وهي ضرورات أمريكية تُجمع عليها المؤسسة تقضي بمحاولة الاقتصاد في الكلفة البشرية والمادية، وتستوجبها دواعي التركيز على الورطة الأفغانية المتفاقمة وتأجيل الهزيمة أو تخفيف فضيحتها هناك... والأسباب الكامنة لكل هذا المجمع عليه والمستوجب إنما هي تعود لبداية العد العكسي للزمن الإمبراطوري الأمريكي، وانكشاف حدود القوة الرعناء على أيدي فقراء بلاد الأفغان... وتلك المقاومة الموصوفة بأنها الأسرع في التاريخ.