خبر ما وراء شجرات العديسة / علي عقلة عرسان

الساعة 05:32 م|08 أغسطس 2010

ما وراء شجرات العديسة / علي عقلة عرسان

لا أذكر بالتحدي تاريخ ذلك اليوم البعيد من أيام صيف بداية الخمسينات من القرن العشرين، حين اصطحبني رفيق لي من قرية كفركلا، بناء على طلبي، وبعد أن استأذنا والدته وسمحت لنا،، لكي يريني الجزء الأقرب إلى القرية الجنوبية من فلسطين التي يحتلها اليهود. كنا صبيين في حدود العاشرة من العمر، وقفنا يومذاك على حافة مرتفعة من الأرض تعلو بستاناً فيه أشجار فاكهة، قال لي هذا البستان الذي تحتنا هو لليهود، وتلك هناك أمامنا قرية المطلَّة.. جلت ببصري طويلاً في المدى المفتوح أمامي، واستعدت حكايات عن الحرب وتهجير الفلسطينيين، وعن الخيام التي يغرقها لمطر في الشتاء ويسفع ساكنيها الهجير في القيظ.. وكنت كمن يُسْكِن تلك المناطق من فلسطي ولبنان دمَه ولحمَه، وحين سألت رفيقي: هل البحر قريب من هنا، قال لي: لا البحر في هذا الاتجاه، وهو بعيد من هنا.

عدنا إلى كفكلا، وكَمَنَ ذلك المشهد في ذاكرتي حتى أيقظته زيارات قمت بها في الثمانيات والتسعينات من لقرن الماضي، وهذا العقد من القرن الحالي، إلى تلك المواقع التي بدأت تشهد ولادة المقاومة اللبنانية وتضحياتها وبطولاتها.. كان ذلك الموقع الذي أشرفنا منه على فلسطين، هو موقع ما يسمى اليوم" بوابة فاطمة".. لم تكن هناك، في ذلك الوقت، طريق معبدة محاطة بالأسلاك الشائكة والقناصة، ولم كن هناك معالم فاصلة بين فلسطين ولبنان، فتلك أرض لم تعترف بسايكس وبيكو وتقسيماتهما، ويبدو أنها لن تعترف بذلك حتى لو اعترف الناس فالجغرافيا أقوى من ذاكرة البشر والتاريخ. وفي محاذاة ذلك الموقع من كفكلا صعوداً كنا نتحرك لنصل إلى العديسة والطيبة من قرى الجنوب اللبناني التي تشرف على فلسطين المحتلة مباشرة.

منذ ذلك التاريخ ارتسم الجنوب اللبناني في عيني وقلبي وسكن دمي، بأشجاره وهضابه وترابه وأناسه.. قد لا يعرف الكثيرون من الجنوبيين أنني ذلك الصبي الذي وقف على مشارف المطلِّة في خمسينات القرن الماضي، وعلى الهضبة المشرفة عليها في عامي 2000 و 2005 وعلى "دُشَم" المواقع المحررة من العدو الصهيوني بقوة المقاومة في قلعة الشقيف، وأشرف على وادي الحجير الذي شهد مجزرة "الميركافا" على يدي المقاومة أيضاً في عام 2006 .. وزار مواقع المقاتلين في الجرود المحيطة بالنبطية، وأماكن المجازر التي ارتكبتها الصهيونية بحق الأبرياء من اللبنانيين في الزرارية و"قانا" وأنصار وقرى أخرى من الجنوب والبقاع، حين كان الجنوب شبه مستباح من جانب العدو، وكان المقاومون الشرفاء يتصدون لقوة الاحتلال بما يملكون قوة وإيمان، في أصعب الأوضاع والظروف، مع بداية نشأة المقاومة وتأسيس تنظيماتها في الجنوب، وعلى رأسها حزب الله.. ولا يهمني كثيراً أن يعرفوا.. لأن ما يهمني هو أن يطمئن دمي، وأن يهدأ ذلك الساكن فيه منذ بداية خمسينات القرن العشرين، بعد وقوفي الأول على الحد الفاصل بين فلسطين المحتلة وجنوب لبنان.

اليوم أستعيد ذلك وأنا بين الزهو والقلق، الزهو بمواقف المقاومة وقدراتها وصلابتها وانتصاراتها، واستعدادها لرد الصاع صاعين للعدو المحتل، وبالحكمة والشجاعة والمسؤولية التي يتحلى بها قادتها ويتصرفون وفقها.. وبين القلق عليها وعلى لبنان كله، مما يُحاك له وللمقاومة فيه من دسائس وفتن، على يدي الصهاينة والأميركيين وعملائهم والمرتبطين مصيرياً بهم، ومجرمين يستمتعون بقطف الحنظل وزهر الدُّفْلَى وفرك عيون الناس بهما، ليثيروا دماً على دم، ويسفحوا دماً بدم، ويشعلوا نار فتة ـ إن هم استطاعوا ـ تمتد على مدى أوسع من المتوقع، وتحرق ما شاء لها أن تحرق من الأخضر واليابس، إذا لم تجد من يدفنها قبل أن تذر قرنها، ويشتعل فتيلها.

ليست أربع شجرات في قرية العديسة هي التي ستثير الفتنة وتشعل حرباً في الجنوب ـ  وعلى كل حال فقد قُطعت تلك الأشجار بإشراف اليونيفيل ـ  ولا عدسات آلات التصوير الصهيونية المصوبة على طول حدود لبنان مع فلسطين المحتلة، فالعدو يتجسس بكل الوسائل، ويخترق المياه والأجواء في كل الأوقات، ويعبث في كثير من الجيوب على امتداد الخط الأزرق، تحت سمع القوة الدولية وبصرها.. ويحصل على ما يريد وأكثر بوسائل عدة منها جراثيمه الفتاكة التي يزرعها في جسم لبنان على شكل جواسيس، يتكاثرون تكاثر الفئران، ويتساقطون في مصائد القوى اليقظة الشريفة تساقط الفئران أيضاً.. ليست شجرات العديسة هي المشكلة الكبرى.. ولكن الدلائل والمؤشرات التي ارتفعت في فضاء لبنان بعد محاولة العدو التسلل إلى ذلك الموقع وتصدي الجيش اللبناني له، ومنعه من تحقيق أهدافه.. تلك كانت حركة لا يتوقعها العدو الصهيوني، ولذلك أخذ يطرح تساؤلات فيها الكثير من الدهشة وتنطوي على الكثير من الوقاحة.. يتساءل: هل الأمر بإطلاق النار على الجنود الصهاينة تم من آمر موقع متقدم للجيش اللبناني، أم أنه صدر من قيادات سياسية وعسكرية عليا؟ وهل وصل اختراق المقاومة اللبنانية للجيش اللبناني إلى هذا الحد؟ إن كلاً من ذينك التساؤلين مثير ومدهش في دلالاته من جهة، ومبشر بولادة وضع لبناني جديد من جهة أخرى.

فوجه الإثارة والدهشة يجيء من جانب العدو الصهيوني الذي اعتاد على اختراق السيادة اللبنانية من الجو والبحر وعلى الأرض، في جيوب كثيرة تمتد على طول الحدود، من دون أن يتصدى له الجيش، واستمر ذلك بعد صدور القرار 1701 تحت سمع القوة الدولية وبصرها، فما الذي استجد حتى يرد الجيش اللبناني على خرق عادي في العديسة لقطع شجرات تحجب الرؤية الواضحة عن عدسة آلات التصوير وسبل التجسس.؟ 

وهو وجه ينطوي على وقاحة متناهية للعدو، حيث يفترض أن القيادات السياسية والعسكرية اللبنانية العليا، لن تسمح بالتصدي للخروق الإسرائيلية، وكأنما يفترض عجزها أو تواطؤها.. وإلا ما معنى الدهشة المريبة تلك؟ إن يقيم حساباته على أساس أن الانقسام الداخلي اللبناني لن يسمح للقائد والمسؤول بأن يتخذ قراراً في مسالة قد تنطوي على مواجهة تتصل بالحرب والسلم، ذلك لأن الإجماع اللبناني حولها لن يوجد بتقديره، ومن ثم يكون الانقسام مصدر العجز والضعف والصمت.

أما وجه الإثارة فهو افتراض العدو الصهيوني أن الجيش اللبناني محصن ضد بعض أبناء لبنان، وأن المشاعر الوطنية والمواقف من اختراق السيادة اللبنانية من قبله بالذات يحملها فريق من اللبنانيين دون فريق، وأنه إذا تحركت جهة لبنانية معنية بالدفاع عن لبنان ضد الاحتلال فإن تهمة الإرهاب ستكون لها بالمرصاد، لأن التصدي للعدوان والاحتلال الصهيونيين ليس في مصلحة الجيش وبعض الساسة اللبنانيين!؟! منطق عجيب، منطق صهيوني متهافت بامتياز، ووقح بامتياز.. وهو مواقف ينم عن تفكير عنصري مريض، يشكل وباء في التفكير والتدبير والتقرير.. منطق لا يأخذ بالاعتبار مواقف الجيش اللبناني المشرفة، ومواقف قيادات لبنانية كبيرة وكثيرة اتخذت قرارات حاسمة وصارمة، وتصدت لعدوانه واحتلاله، كما لا يأخذ بالاعتبار تضحيات الجيش اللبناني الكبيرة والكثيرة على طريق الصمود والتحرير.. إن العدو الصهيوني يبني على مخلفات الحرب الأهلية اللبنانية المقيتة وأسسها، ويستثمر في بذور الفتنة التي يتعهدها بالعناية والرعاية، ويتحرك وفق ما يصله من أصوات ومعلومات من لبنانيين قلة ربطوا مصيرهم بمصيره.. ولا يدرك، هو أو هم، أن تلك المرحلة قد انتهت إلى غير رجعة، وأن لبنان قد تعافى واستفاد من التجربة المرة، وتجاوزها إلى الأكرم والأفضل، وأن حكمة لبنانية داخلية بدأت تكبر وتحكم، وقد تمثلت في قولين قصيرين محددين، أحدهما لسعد الحريري الذي قال " إنه لن يسمح بأن يكون دم والده الشهيد رفيق الحرير مصدراً لإشعال نار فتنة في لبنان"، والثاني للسيد حسن نصر الله الذي أعلن أن المقاوم بإمرة الجيش اللبناني، وأن اللبنانيين جيشاً ومقاومة وشعباً، في خدمة الوطن وضد الاحتلال والعدوان.".. لقد أصبحت تلك الحكمة حاكمة لكثير من المواقف السياسية والشرائح الاجتماعية بتقديري.. تضاف إليها أو تؤسس لها سياسة عربية مسؤولة أخذت تدرك أن ما يُحاك للبنان قد يشعل المنطقة كلها، وأن الدور الصهيوني الذي يوزع الاتهامات ويقذف كرة النار هنا وهناك لا بد أ يوضع لتصرفه الشرير حدوداً، وأن ما قد يبدأ في لبنان وضد فئة أو طائفة فيه لن يتوقف عند حدود لبنان، وأن وراء ذلك أهدافاً أبعد وأكبر، تتصل بالقضايا المصيرية والمصالح العربية العليا.. ولذلك بادرت وسعت لاحتواء الأزمات والأوضاع المتفجرة، والملفات التي قد تكون مصدراً للتفجير، بشجاعة وحنكة وحكمة ومسؤولية، وسيكون لذلك كله تأثيره الكبير على كل القضايا والمواقف والأطراف المعنية بالشأن اللبناني، وأعني القمة الثلاثية السورية ـ السعودية ـ اللبنانية التي عقدت في بيروت، وما رافقها من مساع وتحركات لها دلالة عميقة، وتأثير كبير على كل ما يتصل بقضية تسييس المحكمة الدولية، وما يرتبط بها وينشأ عنها من مضاعفات.

إن كرة المحكمة الدولية التي تلقى هنا وهناك لتحقيق أغراض سياسية وفتح طريق للعدو الصهيوني لكي يعبث بالناس ويثير الفتن، ليحقق أهدافه، ويتملص من التزامات ومآزق واستحقاقات دولية ملحة أوصله إليها نزوعه العدواني، وصلفه، وحماقاته المتكررة، لن تنجح هذه المرة بإشعال لبنان، ولن تمكن العدو الصهيوني من تصدير أزماته الداخلية والدولية إلى الخارج.. العدو الصهيوني في مأزق، ولكنه مغطى بغطاء سميك، ومحصن بقوى ربيبته الولايات المتحدة الأميركية، من كل المآزق في المنطقة وفي المحافل الدولية.. ولذلك يحق لنا أن نقلق على المقاومة وعلى لبنان الذي بدأت تتسع دوائر الوعي فيه، وتنتشر بين شرائح من أبنائه لم تكن منصهرة في بوتقة ذلك الوعي.. أعني الوعي بقيمة احتضان المقاومة، وتداخلها العضوي مع الجيش والشعب لحماية لبنان أرضاً وسيادة ومصالح، في تسلسل حاكم للدستور والقانون والمرجعيات السياسية والرئاسات المعنية بأمور السلم الأهلي، وحالات السلم والحرب، وبالدفاع عن لبنان وحقوقه وسيادته وحضوره. إن  حقنا أن نقلق لأن العدو الصهيوني  المحمي من الولايات المتحد الأميركية، يستمر في العدوان والغطرسة، ويعمل على قلب الأوضاع وخلط الأوراق ليظهر بمظهر الضحية.. ولكن إلى متى والربيبة الأميركية ذاتها أخذت تعاني اليوم من مآزق وأزمات، وتنكشف أكثر فأكثر أمام العالم.؟ 

إن المبشر في الوضع اللبناني، منذ حادث العديسة، هو قرار الجيش اللبناني التصدي للعدو الصهيوني مهما كانت التضحيات، ووضع المقاومة نفسها بتصرف الجيش وتحت إمرته، لرد العدوان والتطاول عليه وعلى سيادة لبنان، ووقوف الشعب اللبناني وكثير من ساسته وراء هذا التوجه بقوة ستجرف معها بعض من لا يطيب لهم هذه اللحمة بين الجيش والمقاومة والشعب والمسؤولين المعنيين بأمر السلم والحرب في لبنان.

لقد رأينا ردة الفعل الأميركية على تصدي الجيش اللبناني للاختراق الصهيوني الأخير في العديسة، حيث عبر عنها رجال في الكونغرس هددوا باسمه بقطع المساعدة العسكرية عن الجيش اللبناني، وكأن الكونغرس إنما يقدم مساعدة لذلك الجيش ليكون في جيب إسرائيل، ويتخلى عن واجباته الوطنية؟! إن الأميركيين مثل الصهاينة وأشباههم، يعتقدون أن كل الناس يباعون ويشترون، وأن الوطنية مصلحة تحرك شراعها رياح الأنانية.

لا أشك في أن لبنان المجرِّب لم ينس آلام التجربة المرة التي خاضها على مدى سنوات، وأنه يعرف كيف يقرأ التاريخ ويستثمر في المحبة، ولا شك أيضاً في أن تحركاً محموداً على مستويات عدة، لبنانية وعربية، بدأ يؤتي أكله،

وأن يقظة من نوع جديد بدأت في المنطقة، وفي كثير من المواقع السياسية والعقول، وأن نجم الشر الأميركي ـ الصهيوني أخذ بالانحسار والتراجع وربما بالأفول.. ونسأل الله سبحانه وتعالى التعجيل بذلك، لأن ما أصابنا ويصيبنا منه أصبح فوق حدود الاحتمال.