خبر لا ليست هذه رام الله التي أعرفها..عبد الحميد صيام

الساعة 08:33 ص|06 أغسطس 2010

لا ليست هذه رام الله التي أعرفها..عبد الحميد صيام

أبحث عن رام الله التي أعرفها فلا أجدها. أبحث عن البساطة في شوارعها ومبانيها ولباس أهلها فلا أعثر على شيء. كل شيء تبدل. هذه مدينة أخرى تشعرني منذ اللحظة الأولى أنني غريب ولا مكان لي ولعالمي الذي عشته في مدينة الصبى وأوائل الشباب أيام الدراسة الثانوية.

أين مدرسة الهاشمية الثانوية ومدرسة رام الله الثانوية ومدرسة أبو ريا الخاصة ومعهد المعلمات؟ هل ضاعت أم أنا الضائع في غابة الإسمنت والمباني الشاهقة والفلل الفارهة والأسواق الكبيرة؟ بعض المعالم البسيطة في رام الله القديمة ما زالت قائمة. قلة من المباني على جانبي الشارع الرئيسي الذي يمتد من ساحة المنارة إلى رام الله التحتا بقيت دون إضافة طبقات جديدة. شارع الإرسال، الذي كنا نسميه شارع العشاق، لم يعد كما هو. أصبح شارع رجالات الأمن والتجار والمباني المتراصة ومقر السلطة ومعبرا للسيارات الفخمة والسيارات المصفحة والوفود الأجنبية. المباني الشاهقة والأسواق التجارية والمنشئات القائمة على جانبي الشارع العريق غيرت كافة معالمه ولمساته الجمالية. كان الشارع المفضل لطلبة الثانوية للتنزه أمام بيوت عائلات رام الله الأصيلة لعلهم يسعدون بمشاهدة فتاة عن بعد تقف على شرفة أو تعبر الطريق. ذلك بيت الباتح الذي بني على الطراز الأندلسي تحول الآن إلى فندق الحمراء. بقية البيوت بيعت بأسعار خيالية وانتصبت مكانها العمارات الشاهقة. تلك عمارة السلوادي وعمارة الإسراء وسوق مخماس التجاري وسوق فلسطين التجاري ومقر بورصة فلسطين وغيرها العشرات. ما زال بيت أبو عقال بشموخه وهندسته الألمانية الفريدة يقف وحيدا في الجانب التحتي من الشارع، يملأ الساحة، بشبابيكه العالية وقرميده الأحمر القديم، والأشجار المثمرة تحيط البيت بأذرع حانية تحاول أن تضمه إلى صدرها لتحميه من صخب الشارع التجاري وعروض المستثمرين. أما السروات الباسقات فما زلن يزددن طولا ليكن شواهد على ما تعرض له هذا الشارع من تغيرات ولينعش ذاكرة الغائبين عن الوطن أمثالي ويذكرهم بما كان ويفتح عيونهم على ما هو قائم ويحذرهم مما هو آتٍ.

 

أسعار العقارات في رام الله ارتفعت بشكل لا يصدقه عقل فقد بيعت قطعة أرض مساحتها 450 مترا مربعا بمبلغ مليون وربع مليون دولار أمريكي وهناك قطعة قرب المنارة لا تزيد مساحتها عن دونم واحد رفض أصحابها عرضا بثلاثة ملايين ونصف مليون دولار. لقد سأل مذيع تلفزيزني في برنامج اختبار المعلومات عن أغلى قطعة أرض في العالم إذا ما كانت في طوكيو أو باريس أو نيويورك أو رام الله فتحير المشاركون في الإجابة ولم يتوقع أي منهم أن يكون الجواب الصحيح رام الله.

 

رام الله تحاول أن تكون دولة في مدينة، بل هي تجسيد لهذه الفكرة. موجات متلاحقة من المشاة ليس لها نهاية. من أين أتى كل هؤلاء الناس؟ ازدحام السير يذكرني بتايمز سكوير في منهاتن غير أن الانضباط للقوانين هنا غير وارد. يحاول رجال الشرطة المساكين أن يفرضوا شيئا من نظام لكن تأثيرهم يظل محدودا. كل المحلات التجارية مزدحمة بالمتسوقين. إنظر إلى محلات الذهب المزدحمة بالناس وكأن نساء البلد كلها سيحتفلن بزواجهن غدا. هناك إزدحام في المطاعم، والمقاهي، والمنتزهات، والنوادي الليلية، ومحلات الكنافة، وبوظة رُكب الشهيرة، وفلافل عبدو التي كانت تُسيل لعابنا ونحن صغار عندما نعجز عن توفير قرشين للساندويش الواحد، وشاورما أبو العبد، والحمام التركي الجديد، ومقاهي الإنترنت، ومقرات المنظمات غير الحكومية التي لا تحصى عددا. معظم سطوح البنايات الكبرى تحول إلى مطاعم فخمة تزدحم ليالي الخميس والجمعة بالزبائن وتقدم مع الوجبات كل أنواع النرجيلة والمشروبات وحفنة من المغنين المحليين أو العابرين من الضفة الأخرى. المدينة/الدولة باختصار تحولت إلى سوق تجاري كبير لا ينام.

 

الحديث في السياسة وممارسات الاحتلال هما أكبر الغائبين عن المشهد اليومي . آخر شيء يمكن أن تسمعه في هذه المدينة ما يتعلق بالأسرى أو المداهمات الليلية أو مصادرة الأراضي أو ما يجري من تهويد منظم للقدس أو العودة إلى المفاوضات العبثية التي شكلت غطاء شرعيا خلال سبعة عشر عاما للاستيلاء على مزيد من الأرض وإقامة مستوطنات جديدة أوتسمين المستوطنات القائمة لخلق وقائع جديدة على الأرض. حكاية الاحتلال غـُـيبت بشكل متعمد وذكي حتى لا تكاد تراه. الحاجز اللعين على مخيم قلنديا تحول إلى شبه معبر دولي للداخلين إلى القدس. معظم الحواجز التي تحيط برام الله إما سحبت تماما أو بقيت في أماكنها للرقابة واحتمالات الطوارئ. دولة/مدينة رام الله أصبحت رهينة للسوق والبنوك والمستثمرين الكبار الذي يبجثون عن ربح وفير في ظل استقرار زائف يذكرني بقول مظفر النواب" "وهذي البلاد إذا سمـُنت وارمة".

يا مدينة الصبى، لم كل هذا المساحيق التجميلية التي تحاول أن تضعيها على وجهك لإخفاء الواقع المر؟ هل حقيقة تم تحرير الأرض وإقامة الدولة المترابطة المستقلة ذات السيادة ليكون هناك وزارات وحرس رئاسي ومدراء ودائرة مراسم ونشيد؟ هل أصبح الاحتلال ذكريات من الماضي؟ ولماذا إذن يقف حاجز بيت إيل قرب فندق الستي إن لمنع الفلسطينيين من العبور إلى شارع ألدي سي لأنه مخصص للمستوطنين والدبلوماسيين وحملة بطاقة الفي أي بي من رجالات السلطة الأشاوس؟ رأسي يكاد ينفلت من جسمي وأنا أرى هذه الوف من البشر تتزاحم في شوارع مدينة قصيرة الذاكرة خلعت ثوب النضال والمواجهة وتسربلت بثوب آخر من ابتكار مصممي الأزياء في باريس وميلانو وسمحت لوكلاء الإنشاءات والبناء بأن تمحو آثار اقتحامها الدموي عام 2002 كي لا يشاهد العائدون أمثالي صور الماضي القريب والتي تساهم في تكوين الذاكرة الجماعية لشعب ما زال بعيدا عن الاستقلال الحقيقي حتى لو كتب اسم فلسطين على واجهات البنوك والمعاهد والمسارح وقصر الثقافة ويافطات المحلات التجارية وأرقام السيارات.

لا هذا المكان ليس لي. سأهرب من هذه الفوضى التجارية وألجأ قليلا إلى مقام محمود درويش واتلو على نفسي ما تيسر من سورة الغضب والإحباط خوفا من أن تكون الأيام قد أثبتت خطأ نبوءته عندما قال " على هذه الأرض، سيدة الأرض، ما يستحق الحياة".

أستاذ جامعي مقيم في نيويورك

-عن القدس العربي