خبر نموذج جنين..معاريف

الساعة 10:56 ص|23 يوليو 2010

بقلم: بن كاسبيت

جلس شرطيان فلسطينيان غافيان عند مدخل موقع الحاكم في جنين. أشار الأول بالمرور وأشار الثاني بالوقوف على التوازي. داس داني عطار دواسة بنزين سيارته البيجو ومر. ولم يحدث شيء. سددنا الطريق امام سيارة الحاكم في الموقف ودخلنا. جنين كانت منذ زمن غير بعيد "مدينة المنتحرين" الفظيعة، مغمى عليها في حرارة تموز. أخرب مبنى حاكم المدينة حتى آساسه في "السوق الواقي"، وافتتح المبنى الجديد منذ وقت قريب. بل إنه يوجد تكييف هواء (لا يعمل الا في مكتب الحاكم). وصور عرفات وأبي مازن. وهدوء. الكثير جدا من الهدوء.

        داني عطار رئيس المجلس الاقليمي الجلبوع منذ 17 سنة. 33 بلدة، فيها قرى زراعية وكيبوتسات و 6 قرى جماهيرية و 5 قرى عربية (30 في المائة من سكان المجلس عرب). نائبه هو عيد سليم. الأمر يبدأ هنا في الحقيقة. الصلة بين عطار وسليم، اللذين يسلكان سلوك زوجين متزوجين. عيد سليم، من قرية مقيبلة. يشغل المنصب الاصلية لعرب اسرائيل وهو ان يكونوا جسرا نحو الفلسطينيين. أصبح موسى قدورة، حاكم جنين في السنين الاخيرة أخ سلاح لعطار وسليم يسلكون سلوك أصدقاء قدماء في خدمة الاحتياط، برغم ان عطار كان ضابطا في جولاني ومكث قدورة 12 سنة في الاعتقالات (ولا سيما الادارية) في السجن الاسرائيلي. يجولون معا في البلاد وفي العالم ويطرقون باب كل من هو مستعد للاستماع ولرؤية كيف ينجح "نموذج جنين، وكيف أصبحت مدينة المنتحرين بلدة وادعة، وكيف يمكن حقا اجراء تعايش في تساو، وكيف تضيع السلطة الاسرائيلية كل هذا باهمال او بغباء يميزها.

        "عندي 250 ألف فلسطيني في محافظة جنين"، يقول قدورة "وجامعتان والكثير جدا من الزراعة. نحن المحافظة الوحيدة في الضفة التي اخليت منها المستوطنات لكن الارض لم تسلم الينا. لا يوجد عندنا وجود عسكري اسرائيلي، لنا حدود طويلة مع اسرائيل، 72 كيلومتر من الغور حتى ظاهر طولكرم، ولا توجد عندنا أي حوادث. هدوء تام.. ولدت في جنين، وترعرعت ودرست فيها، ومكثت في سجنكم، وكنت في وفد محادثات السلام في مدريد. وكنت رئيس حركة فتح في الشمال حتى عينت حاكما قبل أربع سنين.

        بدأت العلاقات بينه وبين عطار من الفور بعد اوسلو. جلسا لأحاديث تلمس وقررا أنه يجب الحديث، ويجب جعل الجدار "سبيلا للسلام"، وأنه لا يحل قطع العلاقة حتى في الأزمان الصعبة وهذا ما كان. اجتازت العلاقة بينهما الانتفاضة الثانية، و "السور الواقي"، والمجزرة التي لم تقع أيضا. "يبعد بعضنا عن بعض 50 متر، ونتنفس الهواء نفسه ونشرب الماء نفسه"، يقول قدورة. ويهز عطار وسليم رأسيهما. تدخل امرأة ما وتسكب قهوة سوداء ويتابع قدورة الحديث. "أنا وداني، جهدنا جهدا عظيما كي يفتحوا حاجز الجلمة. فتح الحاجز قبل سنة تقريبا. كان ذلك نصراً عظيما. انخفضت البطالة عندي انخفاضا حادا. في السبت الأخير دخل هنا ثلاثة آلاف سيارة من اسرائيل (لعرب اسرائيليين فما يزال ذلك محظورا على اليهود). التقيت بولي (رئيس الادارة المدنية) من وقت قريب وقائد المنطقة مزراحي وطلبت أن يفتحا المدينة لليهود ايضا. انا ادعو الاسرائيليين من هنا الى اتيان جنين. المدينة مفتوحة أمامكم. نحن  مستعدون لقبول الجميع من جميع الشعوب والاديان والالوان ما عدا المستوطنين بطبيعة الأمر. أهلا وسهلا".

        أكثر أمنا من تل ابيب

        عرقت في غير ارتياح في المقعد. فالمكان جنين على كل حال. سأت قدورة هل جنين آمنة للاسرائيليين. "أنا أقرأ واسمع عما يحدث عندكم وأقول لك ان جنين اكثر أمنا من تل ابيب. ليست عندي جريمة لا تحل الغازها. فجميع القضايا تحل، وجميع الجناة يعتقلون. توجد هنا محاكم وعندنا سجن ونظام في الشوارع. ولنا سيطرة أمنية كاملة. لا يوجد ما يقلق. أنا اتحداكم، حاولوا ان تجدوا سيارة واحدة غير قانونية في جنين. الكل مسجل والكل منظم".

        قدورة صادق. جلنا بعد ذلك قليلا في المدينة، من غيره. من غير شرطة أو قوات أمن او مصاحبة ما. الشعور العام كما في يافا، لكن بغير مظاهرات الحريديين. الجو حار والمكان نظيف منظم والميادين واسعة مع تماثيل حديثة، وسوق رائجة، ومقاه مليئة، وحوانيت فلافل وشاورما. توجد سيارة شرطة في كل مفرق تقريبا. ليت ذلك يكون في يافا. لا توجد نقوش في الحيطان ولا أعلام حماس ولا شعور بالتهديد. سألت قدورة كيف فعل هذا. "عندما توليت عملي قبل أربع سنين أنشأت 50 حلقة عمل لأناس من جميع الاصناف. فحصنا عما يقلقهم. وماذا يريدون. كان الأمن الشخصي على رأس سلم الأوليات وبعد ذلك الأمن الاقتصادي. بدأنا خطة استراتيجية لمحافظة جنين 2008 – 2017 وبدأنا نعمل. يفرحني أن أعلن بأننا نفي بالاهداف. ما كنت لأنجح في فعل هذا من غير داني. من غير مساعدته وتعاونه. ويؤسفني انه يكاد يكون وحده. فالمؤسسة الاسرائيلية لا تساعد ببساطة. يرون ما يحدث، وكيف ينجح ولا يحركون ساكنا".

        يهز هذا داني عطار هزا شديدا. فعنده ما لا يحصى من القصص عن بلادة الحس عندنا. كيف هرب الشاباك من هنا مستثمرا تركيا اراد ان ينشىء مشفى دوليا على الجدار، في جانبنا، بنفقة تقرب من 4 مليارات شيكل، وكل ذلك على حسابه (وحساب حكومة تركية)، وفي ضمن ذلك نفقة لصيانة المكان 20 سنة. وهي خطة كانت تستطيع ان تدفع المحافظة كلها قدما في طرفيها الاسرائيلي والفلسطيني. وعن أوامر الهدم التي تصدرها الادارة المدنية على الدوام للمؤسسات التي يحاول قدورة بناءها. وعن دخول وتغلغل الجيش الاسرائيلي الفظ في المدينة في ساعات النهار (على حسب الاتفاق، يدخل الجيش الاسرائيلي في الليل فقط، والى منتصف الليل تعمل قوات الأمن الفلسطينية). كل دخول كهذا يذل الفلسطينيين، ويقفهم في ضوء اشكالي ازاء السكان المحليين، وكل هذا بعد أن برهنوا على التصميم وأنتجوا نتائج حقيقية في القضاء على الارهاب.

        "اعتقدت أنكم عندما ترون أن الأمر يجوز وينجح سأتلقى منكم علاقة خاصة"، يقول قدورة، لكنه يتلقى بدل ذلك كالعادة البيروقراطية قبل كل شيء. من وقت قريب كان عنده رئيس الشاباك يوفال ديسكين وقائد المنطفة آفي مزراحي. جالوا في المدينة، ورأوا فيلما وتحمسوا. كذلك يؤيد ايهود باراك، بالكلام في الاساس. لم تستجب رسالة أرسلها اليه داني عطار يتوسل المساعدة، بعمل حقيقي. ويمكن الانفجار حقا. فمنذ سنين تؤمل اسرائيل ان يحدث شيء كهذا وها هو ذا يحدث. فقد سكنت مدينة عنيفة، مضروبة بالارهاب والمنتحرين وبدأت تزهر. اختار الناس جميعا طريق السلام. بدل الاستثمار هناك كل ما لدينا الان أننا نرهقهم. "اعتقدت أن تعطوني المستوطنات التي أخليتموها"، يقول قدورة، "اصبح عندنا نموذج لانشاء قرى أولاد دولية هناك ليأتي الاولاد من العالم كله الى قرية سلام. هذه رؤيانا المشتركة، أليس كذلك؟". لكن يبدو ان الامر ليس كذلك. فكل شيء عالق بين الادارة ووزارة الدفاع والجيش الاسرائيلي، وفي النهاية ينتهي الامر الى نقيب ما يريد ان يؤثر في الرفاق فيقوم بأعمال بهلوانية في الشارع الرئيس.

        مع ذلك، من المدهش رؤية ما يحدث هناك. توجد خطط لمشروع سياحة مشترك (يومين في الجلبوع، ويومين في جنين، وأصبحت توجد قرية استجمام حسنة تنتظر في المدينة)، وتوجد منطقة صناعية مشتركة (ألف دونم في الجانب الفلسطيني 750 دونما في الجانب الاسرائيلي)، وتوجد خطط أخرى هي تجسيد للحلم. يقول قدورة: "يأتي كل شيء من أوامر أبي مازن وسلام فياض الصريحة. هذا حلمهما وحلمنا. اخترنا السلام اختيارا استراتيجيا لكنكم لا تمدون ايديكم لنا ببساطة. ليس اختيارنا سياسيا بل حقيقيا. نحن نؤمن بهذا. لسنا الاردن او مصر او سورية. لن يكون لكم معنا سلام بارد. فمعنا إما ان يكون سلاما حارا او حربا ساخنة. فنحن قريبون جدا. وجيران. فلماذا لا نسير معا؟".

        بوظة في العفولة

        يجب ان نذكر ان قدورة حث مرشحين من قبله في الانتخابات الاخيرة لحركة فتح. دخل الجميع تقريبا. وهو ما يشهد على قوة وعلى ثقة يعبر عنها الناخب الفلسطيني بطريقته. ليست عنده مشكلة ثقة بالذات. عنده مشكلات وجودية تراكمها عليه الادارة المدنية والجيش الاسرائيلي كل يوم تقريبا. "اذا نجح النموذج هنا فقد يكون أساسا صلبا للمسيرة في المنطقة كلها"، يقول "تردمون لنا آبار ماء ضحلة لا تعرض للخطر الماء الجوفي، وتهددون بهدم كل ما أبني، ولا تجيزون لي بناء ملعب، وتصعبون علي أمر المدارس. ماذا تريدون؟ ألا ينجح هذا؟ إن بيبي يتحدث في كل مكان عن نموذج جنين. فلماذا، لنفترض، لا يطلق عدة سجناء من جنين؟ أنا أفهم صفقة شليت عالقة. هذا هو الوضع. لماذا لا تستغل اذن هذه الظروف لتشيروا للناس في جنين الذين اختاروا السلام وتطلقوا لهم عدة سجناء؟ أتعلم، اذا لم يكونوا سجناء فلتكن جثثا على الأقل. إنني أتوسل منذ زمن بعيد الحصول على عدة جثث مدفونة في اسرايل تحت أرقام تسلسلية لناس من جنين. عندي عجائز يجلن منذ سنين ويسألن عن أبنائهن أهم أحياء أم أموات. إذا كان يمكن أنت ندعهن يمتن عالمات بما حدث لابنائهن فلماذا لا أبذل هذا الجهد؟".

        لم تكن عند قدورة أجوبة. ولا حتى عندما تحدث عن الحاجة الى فتح المعبر 24 ساعة في اليوم، لا بين العاشرة صباحا والرابعة بعد الظهر ("أتحرك شوقا الى أن آخذ العائلة لتناول البوظة في العفولة لكن الساعة تهددنا"، قال) وعن الحاجة لزيادة العلاقات التجارية، وتمكن تاجر في تل ابيب من استضافة نظيره من جنين والعكس. في هذه الاثناء تنمو مدينته نموا غير سيء. سيكون مهرجان افلام في جنين في آب (أؤمل ألا يعرض هناك فيلم "جنين جنين")، وسيكون نحو من 400 فيلم من العالم أجمع. يريد قدورة أن ينصب شاشة ضخمة على الجدار كي يمكن الاسرائيليين من الطرف الثاني من المشاهدة والمشاركة. وقف توني بلير منذ وقت بعيد واشترى لنفسه الفلافل في الشارع الرئيس. وجالت ثلاث حافلات لاعضاء مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية في نيويورك في الشوارع وتأثروا. "لا توجد هنا حادثة واحدة او خلل واحد، انا اجول كل سبت وأراقب ما يحدث"، يقول قدورة الذي يحمل فوق كتفيه كل هذا الجهد، ولا يساعده أحد من جانبنا سوى داني عطار وعيد سليم.  "ماذا تريدون منا بعد؟"، يسأل. سألته عن السلام. أيوجد لأبي مازن قوة وسطوة للتوقيع على سلام مع اسرائيل؟ وأجاب قدورة بنعم. "أبو مازن أقوى من بيبي. فبيبي غير قادر على أن يحرر لنا جثثا فما الذي تتحدث عنه أصلا"، وسألت، اذا لم يحرز اتفاق ماذا تقول عن دولة واحدة للشعبين؟

        يقول قدورة "غدا صباحا، تفضلوا". ويقول عطار لا لن يكون ابدا. وكان هذا هو الاختلاف الأول الذي لحظته بينهما في ذلك اليوم.