خبر القضية الفلسطينية في الذاكرة العربية..د. يوسف نور عوض

الساعة 03:04 م|22 يوليو 2010

القضية الفلسطينية في الذاكرة العربية..د. يوسف نور عوض

أود في البداية أن أتعرض إلى بعض الأحداث التي ركزت عليها وسائل الإعلام في العالم العربي أخيرا، ويتجه اهتمامي في أول الأمر إلى ما أطلق عليه أسطول الحرية، وهو مجموعة من السفن كانت تحمل المساعدات لسكان غزة المحاصرين، ولم تستطع هذه المجموعة الوصول إلى القطاع بسبب المحاصرة الإسرائيلية التي وصلت إلى حد قتل وجرح عدد من ركابها وبالتالي منعها من الوصول إلى القطاع،

ومن جانبها ظلت وسائل الإعلام العربية تتحدث عما اعتبرته فضيحة إسرائيلية على المستوى العالمي، وانتظرت في الوقت ذاته أن تكون هناك ردود فعل عالمية بالنسبة لإسرائيل، وهو ما لم يتحقق إلا في مستويات ضيقة جدا، ولم تمض فترة طويلة حتى تحركت سفينة أخرى تحمل معونات ليبية، وهي أيضا لم تواصل رحلتها وأعلنت أنها قررت التوجه لميناء العريش في مصر بعد أن حصلت على ضمانات من اسرائيل بواسطة وسطاء على توصيل مواد الإغاثة إلى غزة وأيضا توصيل مواد البناء، وكذلك السماح باستثمار نحو خمسين مليون دولار من أجل إعادة الإعمار في غزة المحاصرة، وفي هذه المرحلة بدأت وسائل الإعلام العربية تنقل تصريحات للأمين العام لجامعة الدول العربية يقول فيها إنه لا يرى جدوى من بدء المباحثات المباشرة مع اسرائيل دون أن تكون هناك ضمانات مكتوبة، يقول ذلك في وقت يعلم فيه الجميع أن اسرائيل مستمرة في أسلوبها في التعامل مع القضية الفلسطينية دون أن يكون هناك موقف عربي حقيقي تجاه هذه القضية التي تراجعت إلى درجة كبيرة في المنظور الرسمي العربي، ولم يتبق منها سوى شعارات ترددها وسائل الإعلام التي تكتفي فقط بإظهار ألوان العسف الإسرائيلي دون أن تركز من الجانب الآخر على مواقف الدول العربية من هذه القضية بل وحتى في موضوع الإغاثة الذي بدأنا به ظلت وسائل الإعلام تركز على الممارسات الإسرائيلية دون أن تشير إلى أن بعض الدول العربية تفرض أيضا حصارا على غزة، ليس لأن ذلك يخدم مصلحة فلسطينية واضحة بل فقط لأن الحصار يجعلها تنأى بنفسها عن الضغوط الاسرائيلية والأمريكية التي أصبحت بالنسبة لكثير من الدول العربية أكثر أهمية من مطالب الفلسطينيين الملحة.

ودعنا هنا نتساءل كيف حدث هذا التحول في سلوك الدول العربية، إذ المعروف أن أجيالا من الأمة العربية تربت على أن القضية الفلسطينية هي قضية العرب الأولى وكان الإحساس بها قويا في كل البيئات العربية، وأذكر أننا في مرحلة الطفولة في السودان كنا نعرف أنه قبل اتمام مراسم الزواج لأي فتاة تقوم النسوة بتدريب العروس على الرقص قبل يوم الزفاف، وكانت الأغنية التي تدرب عليها الفتاة، تقول باللهجة السودانية 'يافلسطين حربك متين'وكنت ألحظ أن كثيرا من أهالي الحي الذي أسكن فيه يعانون من جروح أو أمراض بسبب مشاركتهم في الحرب التي وقعت بين العرب واليهود والتي انتهت باحتلال فلسطين، وهو الوضع الذي ما زال سائدا حتى اليوم.

وحتى بعد أن وقعت الكارثة، فلم يتغير المزاج كثيرا إذ كان الجميع يعتقدون أن هذا مجرد وضع مؤقت وأن العرب سيكونون قادرين على استرداد فلسطين مرة أخرى ،وبالتالي فلم يكن أحد يتحدث في تلك المرحلة عن اتفاقات سلام أو مفاوضات بل ظل الحديث يتمحور حول الاستعداد للحرب التي يتم بها التحرير واسترجاع الحقوق الفلسطينية، وظهرت في هذه المرحلة كثير من الأنظمة الانقلابية في العالم العربي وهي التي جعلت قضية فلسطين الشعار الذي تعتمد عليه في استقطاب قلوب الملايين من العرب الذين صدقوا تماما أن هذه الأنظمة تعمل من أجل الاستعداد للحرب التي تعيد الحقوق لشعب فلسطين وقد رفعت الحقبة الناصرية الآمال لدرجة كبيرة بل أصبح الكثيرون لا يقبلون حتى النقد للنظام الناصري الذي آمنوا أنه النظام الوحيد القادر على تحقيق الطموحات العربية، ولكن كارثة عام ألف وتسعمئة وسبعة وستين أحدثت نقلة اساسية في التفكير العربي، ذلك أنه لم يتصور أحد أن الجيوش العربية لم تكن حتى قد بدأت الاستعداد لمواجهة إسرائيل، فقد كانت الهزيمة سهلة وكاسحة ومع ذلك رفضت الجماهير العربية استقالة عبدالناصر ليس لأنها كانت تؤمن أن التحرير سيكون على يديه بل لأنها كانت تريد أن تعبر من خلال هذا الرفض عن موقفها الثابت في ضرورة تحرير فلسطين واستعادة الحقوق المغتصبة، ولكن المؤامرة مازالت مستمرة على العقل العربي وكانت أكبر مؤامرة هي حرب العبور التي قام بها الرئيس السادات، فقد بدت هذه الحرب وكأنها الرد الحاسم على عدوان سبعة وستين، ولكن الشكوك بدأت تراود الكثيرين عندما توقف زحف القوات المصرية بعد أن عبرت القناة وكأن الأمر كله لم يكن سوى مجرد محاولة لاسترداد الكرامة الضائعة تمهيدا لمراحل أخرى وذلك ما تأكد بعد أن قام السادات بزيارته الشهيرة إلى القدس وهي التي خاطب فيها الكنيست الإسرائيلي وقدم نفسه كرسول سلام يستحق جائزة نوبل وهي الجائزة التي تتحكم إسرائيل في من يحصلون عليها، وبعد هذه المصالحة التاريخية بين مصر وإسرائيل حدث التحول الأساسي في القضية الفلسطينية إذ لم يعد العرب يتحدثون عن التحرير أو استعادة الحقوق بل أصبحوا يتحدثون عن المفاوضات واتفاقات السلام دون هدف واضح لهذه الاتفاقات وما إذا كان من الممكن أن يكون هناك سلام دون أن تسترد الحقوق الفلسطينية أو على الأقل أن توافق إسرائيل على إقامة دولة فلسطينية وذلك ما لم تظهر إسرائيل حتى الآن أنه أمر يمكن التفكير فيه، وإذا افترضنا أن العرب قد بدأوا يفكرون بطريقة جديدة بعد أن تأكدوا أن إسرائيل تمتلك أكثر من مئتي رأس نووي، فإن التفكير المنطقي يقول إما أن توافق إسرائيل على إقامة دولة فلسطينية وإما أن تقبل أن تقيم دولة واحدة تشتمل على اليهود والفلسطينيين معا وهذا خيار لا يمكن أن تقبل به إسرائيل التي أقامت دولتها على أساس ديني وعنصري وهي لا يمكن أن تغامر بأن تشمل الفلسطينيين مع اليهود في دولة واحدة خشية أن تجد نفسها من جديد في المربع الأول بعد ازدياد عدد المواطنين الفلسطينيين. إذن لا نستطيع أن ننظرإلى القضية الفلسطينية إلا من خلال هذا الإطار الواقعي، فهل الدول العربية لا تدرك بصفة عامة هذا الواقع أم أنها بدأت تتخذ مواقف سياسية على أسس أيديولوجية دون التفكير في مصلحة الشعب الفلسطيني؟ لا نريد في الواقع أن ندخل في افتراضات نظرية لأن الواقع الذي وصل إليه الفلسطينيون هو انعكاس للواقع العربي الضعيف والمهترىء.

وهنا يجب أن نتوقف لنتحدث عن الواقع العربي ذاته، لأننا ظللنا نتحدث عبر فترة طويلة من الزمن عن العالم العربي وعن الأمة العربية وعن الوحدة العربية دون أن نتوقف لنفكر في ما نقول، ذلك أن الرواد الأول الذين كانوا يتحدثون عن الوحدة العربية كانوا يبشرون بأنها وحدة ممكنة بكونها تقوم على وحدة اللغة والثقافة المقصود بها في الأساس الدين ولكن هل اللغة هي وحدها التي تؤسس للوحدة؟ إذن لماذا لا تكون هناك وحدة بين بريطانيا وأستراليا ولماذا لا تكون هناك وحدة بين هاتين الدولتين والولايات المتحدة؟.

إن قضية الوحدة إذا كانت ضرورية فهي بكل تأكيد أكبر من ذلك كله وقد ظهر ذلك في الوحدة التي تمت بين مصر وسورية في عقد الخمسينيات وهي الوحدة التي انتهت بالفشل الذريع لأنه لم تكن هناك خلفية سياسية تؤسس لقيام وحدة بين البلدين وكشف فشل هذه الوحدة أن العالم العربي لا يحتاج إلى دكتاتور يحكمه من المحيط إلى الخليج كما يقول أحد الكتاب الذين قرأت له أخيرا، والذي كان يرى أن كل ما تحتاجه الأمم هو زعيم مثل مانديلا وغاندي ومارتن لوثر كنغ من أجل التوحد دون أن يهتم هذا الكاتب بالأسس الحقيقية التي تبنى عليها الدول والتي هي غائبة بشكل كامل في العالم العربي الذي مازال يحكم بطرق تفتقر إلى الحداثة وتسيطر فيها عقيدة الخوف من الآخر، دون التنبه إلى أن شكل الحكم ليس مهما كثيرا بل المهم هو المحتوى، فبريطانيا دولة ملكية ولكن ذلك لم يحل دون أن تصبح أكثر الدول تطورا في نظامها السياسي، وهذا الواقع يمكن أن ينطبق على العالم العربي إذا اتجهت الدول العربية نحو التحديث النظمي وذلك ما لم تفكر فيه حتى الآن بحيث أصبحت جامعة الدول العربية جثة هامدة لا يكترث بها أحد بكونها ترفض أن تطبق النظم الديمقراطية المتعارف عليها في مثل هذه المؤسسات، فما الذي يجعل مؤسسة تشتمل على أكثر من عشرين دولة تخضع لأمين عام يختار من بلد واحد دون اعتبار لبقية الدول؟

النتيجة هي أن هذه الدول ستتخلى عن مسؤولياتها في الجامعة العربية وتتركها تمارس عملها كجسد مريض وذلك هو واقع الجامعة في الوقت الراهن وهو الواقع الذي انعكس على السلوك العربي بصفة عامة والقائم على الخوف من الآخر بحيث لم تعد الدول العربية قادرة على اتخاذ أي موقف موحد وتفضل أن تقدم التنازلات ظنا منها أن ذلك يحافظ على نظمها السياسية وذلك ما أبقى القضية الفلسطينية معلقة دون حل وما أبقى العالم العربي مريضا وغير قادر على أن يتخذ قرارات حاسمة وهكذا لم تعد القضية الفلسطينية التي هي قضية العرب الأولى في الذاكرة.

-       كاتب من السودان

-عن القدس العربي