خبر د.أسعد أبو شرخ يكتب..تركيا من أربكان إلى أروجان

الساعة 03:00 م|22 يوليو 2010

د.أسعد أبو شرخ يكتب..تركيا من أربكان إلى أروجان

التطورات الهامة وخاصة تلك التي تؤدي الى الانقلاب في الأفكار والمبادئ والقيم والمواقف وتغيير الاتجاه عملية تراكمية تأخذ مداها، بيد أنها ستصل إلى هدفها المنشود في نهاية الامر طالما كان هناك استمرارية في هذه العملية، وقد تتسارع الأمور وتتطور بطريقة  يصعب السيطرة عليها، فتختزل مرحلة النضوج وتحدث الطفرة فتنفجر الثورة بعنفوان وقوة وهذا التطور يسمى في علم الاجتماع  REVOLUTIONوهذا بالضبط ما حدث في إيران بقيادة الشخصّية الفذّة للإمام الخميني التي نقلت إيران من دولة تابعة للغرب إلى دولة صاحبة وصانعة القرار في مواجهة السياسات الغربية، وتعبر بصدق عن المصالح العليا للشعب الإيراني وعن مشروعها الحضاري الإسلامي النهضوي الذي يتصدى للهيمنة الامبريالية الغربية ومشروعها الاستعماري.

أما ما يحصل في تركيا فهو عملية تراكمية تسير ببطء، ولكن بطريقة مدروسة ومحسوبة نظرا لتعقيدات الموقف في تركيا وعلاقاتها مع الغرب والعوامل الداخلية والخارجية الكثيرة التي تتداخل في صناعة القرار في تركيا.

 

 وتعود جذور التغيير الحاصل الى المفكر نجم الدين اربكان صاحب ومؤسس المشروع الحضاري الإسلامي الحديث، الذي أسس حزبا إسلاميا وخاض به الانتخابات في ثمانينات القرن الماضي، وفاز بالانتخابات ورئاسة الوزراء وبدء بالتقارب مع الوطن العربي والعالم الإسلامي، حيث دشن عهده بزيارات إلى ليبيا وإيران وغيرها من الدول العربية والإسلامية وبدأ بتنفيذ برنامجه النهضوي المبني على القيم والعلم والتكنولوجيا، لوضع تركيا في مصافي الدول  المتقدمة صناعيا وكان برنامجه يغطي مناحي الحياة المختلفة وصولا إلى تحقيق الهدف المنشود لإدخال تركيا الى القرن الواحد والعشرين، لتكون لاعبا رئيسيا مؤثرا في السياسة الدولية بيد انه تبنى خطة التدريج المتسارع EVOLUTION الذي لم يرق للغرب ولا للمؤسسة العسكرية في تركيا، لأنها رأت في برنامجه انزياحا عن الغرب وقيم التغريب وتهديدا مباشرا لها وما تمثله، ومن هنا حصل الانقلاب الذي قاده الجنرال ايفرت كنعان الذي شدد قبضة العسكر على البلاد وافشل أو حاول مشروع اربكان النهضوي، ويبدو أن هذه العملية وتدخل العسكر في السياسة والحكم بطريقة فجة جعلت أصحاب المشروع من جيل الشباب من أمثال غول واردوجان وغيرهما يسيرون إلى نفس الهدف ولكن بطريقة هادئة بطيئة، تأخذ في الحسبان العوامل الداخلية والخارجية وتناور بذكاء وأحيانا تجمد المبادئ الى حين، مستفيدة من التغييرات الدولية وعلاقاتها الأوروبية وانفتاح تركيا على الديمقراطية وعلى الاتحاد الأوروبي، حتى لا يسقط المشروع مرة أخرى. البعض يرى إن هذه برجماتية فرضتها الظروف والتعلم من التجارب، اذ ليس في مقدور اى قيادة في تركيا ان تتصرف بأفضل مما فعل شباب اردوجان، من تحايل على الظروف للحفاظ على المشروع الاربكاني معدلا أو حتى بوتيرة أكثر حذرا وبطء، بينما يرى البعض الأخر عكس ذلك تماما، لكنه يمكن القول بحيادية وموضوعية انه طالما لم تحصل ثورة على الطريقة الخمينية لأكثر من سبب وسبب،  ونظرا للارتباطات المعقدة مع الغرب والإرث الثقيل الموجود بقوة العسكر، فإن ما يحدث من تغيرات في تركيا  يمكن أن  يؤدي في نهاية المطاف إلى تركيا جديدة، تربط الماضي بالحاضر وتستدعي كل عوامل القوة حضاريا وثقافيا، لتكون الدولة الأهم والأقوى في المنطقة ان سارت الأمور على ما يرام دون تدخل أو تآمر متوقع من الغرب والصهيونية وأتباعهما في المنطقة.

لقد بدأت بوادر التغيرات في السياسة الخارجية مع قدوم ما يمكن ان يطلق عليهم العثمانيون الجدد، الذين رفضوا أن يسمحوا للقوات الأمريكية الغازية من الهجوم على العراق او     التساوق  مع السياسة مع السياسة الامريكيية ضد ايران، وصوتوا ضد فرض عقوبات عليها واقاموا أفضل العلاقات مع سوريا،  ووقفوا ضد العدوان الصهيوني على لبنان 2006 وعلى فلسطين 2008-2009 وطوروا علاقاتهم بل وصفّروا كل مشاكلهم مع الدول العربية وحضروا قمة سرت العربية واجتماع مجلس وزراء خارجية الدول العربية الخاص بالمجزرة "الإسرائيلية" ضد أسطول الحرية الذي سيشكل نقطة هامة تؤثّر على شكل العلاقات التركيّة- الإسرائيلية المستقبليّة، لان المجزرة التي ارتكبتها إسرائيل ضد قافلة الحريّة وقتلها بدم بارد مع سبق الإصرار والترصد لمتضامنين أتراك يعني ان "إسرائيل" تريد ان تكون سيّدة المنطقة بلا منازع وهي على استعداد لاستخدام القوة العسكرية حتى مع من تربطهم بهم علاقات قويّة في جميع المجالات، فهل تقبل تركيّا هذه الاهانة وتسمح "لإسرائيل" بان تكون اللاعب الأقوى الذي يفرض سياساته على المنطقة، بما يعني ذالك من تهميش لتركيا ودورها ونفوذها وتأثيرها في المنطقة. لقد كانت ردة الفعل التركية على جريمة "إسرائيل" قوية ومدوية رسميا وشعبيا، فانطلقت المظاهرات الصاخبة في كل مكان في تركيا مطالبة بمعاقبة "إسرائيل" على جريمتها وكذالك فعل القادة الأتراك من اردوجان الذي وصف ما حصل بأنه إرهاب دولة وقرصنة صهيونية وطالب "إسرائيل" بالاعتذار ودفع الثمن لجريمتها، الى غول الذي قال ان العلاقات لن تعود الى سابق عهدها وحمّل "إسرائيل" المسؤولية  وما يترتب على ذالك من نتائج، الى اوغلو الذي اصّر على لجنة تحقيق دوليّة ورفع الحصار عن غزة  وترافق ذالك مع إلغاء مناورات عسكرية مشتركة، وإلغاء عقود تجارية وتخفيف العلاقات الدبلوماسية وتوتر وتوتير في العلاقات الدبلوماسية، مع إصرار تركي بتشكيل لجنة تحقيق دوليّة لمحاكمة القادة "الإسرائيليين" الذين شاركوا بطريقة او بأخرى في المذبحة البحرية.

والسؤال الذي يطرح نفسه هل يمكن للقيادة التركية أن تذهب إلى آخر المدى في التحدي، إذا ما أخذنا الظروف الدوليّة والموضوعية السائدة ؟ تركيا يمكن أن تقوم بما سمّاه الدكتور ابراهيم أبراش أقصى الممكن , بيد أن أقصى الممكن هذا هو في حد ذاته مهم على تطور الإحداث وتراكم العمل في الاتجاه الصحيح، ذلك أن الدول عند اتخاذ القرارات الإستراتيجية تأخذ كل العوامل الموضوعية والظروف المحلية والدولية وعناصر القوة والتأثير المتوفرة ومعسكر الأصدقاء وتحالف الأعداء والزمان والمكان والسلبيات والايجابيات، بما يحقق الهدف المنشود بنجاح ومن أهم عناصر النجاح في المواجهة هو إلتحام الشعب بالقيادة وان تكون القيادة  هي لسان شعبها والمعبر الحقيقي عما يريده حفاظا على تقدمه وازدهاره ودفاعا عن كرامته وعزته ودوره بين الأمم وهذا ما رأيناه في النموذج التركي إلى حد كبير، مما يعني أن تركيا تسير في الاتجاه السليم الذي سيفضي في نهاية الأمر إلى بروزها كقوة مهمة صاحبة قرار في المنطقة،  وربما تكون القوة الأهم وهذا سيكون بلا شك لصالح شعوبنا ونضالنا       ومقاومتنا وبالتالي انتزاع حقوقنا وتحرير أرضنا ووطننا .

*كاتب وأكاديمي فلسطيني