خبر مفاوضات عباس..عبد الحليم قنديل

الساعة 08:31 ص|12 يوليو 2010

مفاوضات عباس..عبد الحليم قنديل

7/12/2010

ليس من تفسير عقلاني مريح لاستمرار طاقم الرئيس عباس في قصة المفاوضات مع الإسرائيليين، مباشرة كانت ام غير مباشرة.

المقصود: أنه ليس ثمة مصلحة فلسطينية في القصة البائسة، بينما المصلحة الإسرائيلية ظاهرة، ومضمونها كسب الوقت لتغيير حقائق جغرافية وسكانية في القدس بالذات، والإسرائيليون ذاتهم يعلنونها بلا مواربة، أفيجدور ليبرمان ـ وزير الخارجية الإسرائيلي ـ قال إنه لا فرصة لإقامة دولة فلسطينية خلال عامين، ولم يقل ليبرمان ـ بالطبع ـ ماذا بعد العامين؟ فالباقي معروف، وهو أن ثمة مغامرات عسكرية تعد لها إسرائيل باتجاه إيران ولبنان أو باتجاه غزة، تأمل تل أبيب أن تعيد بعثرة الخرائط، وأن تعطي عباس ـ بعدها ـ إجازة مفتوحة.

الرئيس عباس بدا بائسا في حوار أخير أجراه مع صحفيين إسرائيليين دعاهم لمكتبه برام الله، قال عباس: لم أعد شابا، ولا أعرف من سيخلفني بالضبط، وقد سبق أن تفاوضت مع أولمرت، ووصلنا إلى مرحلة تبادل الخــــرائط، وقد أعطيت الخرائط لجورج ميتشل، لكن نتنياهو لا يعير الأمر اهتماما، وقد ضمنت لكم الأمن في الضفة الغربية، وهو من مصلحتي أيضا، لكن شيئا ما لا يتحرك، بدا عباس ـ في حواره العجيب ـ كأنه يتسول العطف من الإسرائيليين، بينما هم يتعاملون معه كخيال مآته، وكمفاوض تحت الطلب.

ولو لم يكن الرئيس عباس موجودا، ربما لاخترعته إسرائيل، فالرئيس الفلسطيني انتهت ولايته من زمن، ولا يوجد في الأفق ما يشير لإمكانية تجديد شرعيته الشكلية، وهو نفسه يقول إن الانتخابات الفلسطينية ستجري في يوم لا يعرفه، ورجل بهذا الضعف هو ما تريده إسرائيل بالضبط، ثم انه يزيد نفسه ضعفا على ضعف، فهو ضد المقاومة بالمطلق، وضد خيار الانتفاضة الشعبية، ويجرد حركة الشعب الفلسطيني من أي ورقة ضغط، ثم يتصور أن الأمريكيين ربما يعطفون عليه، ويفرح بالمعونات المالية التي يقدمها له الرئيس أوباما، ويحول القصة الفلسطينية كلها إلى خزانة مال يصرف منها على أنصاره، ويبني هياكل سلطة معلقة في هواء، ويحولها إلى إدارة مفاوضات من أجل المفاوضات، ويحصر العمل الدبلوماسي كله في التماس عطف الأمريكيين والإسرائيليين، وحين يسأله الصحفيون الإسرائيليون: ما هو العمل بعد الفشل؟ لا يحير الرجل جوابا، ويقول إن الجامعة العربية تفكر في اللجوء لمجلس الأمن، ثم يتابع: لكن هذا يطيح بالاتفاقات بيننا وبين الإسرائيليين.

والغريب أن عباس سبق أن أعلن يأسه من المفاوضات، وقال إنه سيستقيل، لكنه لم يفعل، لماذا؟ لأن إسرائيل لا تريد له أن يستقيل، ثم ان جهود إسرائيل لم تتوصل للآن إلى خليفة على المقاس المطلوب، وهكذا تبدو تعاسة أقدار الرجل، الذي حاكمه الصحفيون الإسرائيليون في المقابلة ذاتها، وسألوه عن رأي قديم له في المحرقة اليهودية، ورد الرجل في استسلام: أنتم تقولون إن ضحايا المحرقة ستة ملايين يهودي.. لا بأس، ولم يضف الرجل كلمة، ولا تحدث بحرف عن محارق الفلسطينيين واغتصاب وطنهم وطردهم بالجملة.

وبدا عباس كأنه يلفت نظر الإسرائيليين إلى أنه لا يزال موجودا، وأنه يستحق نظرة عطف، بينما كانت إسرائيل مشغولة بمفاوضات من نوع آخر في الذكرى الرابعة لأسر الجندي غلعاد شاليط، وبمسيرات بعشرات الألوف تضغط على حكومة نتنياهو، وبناعوم شاليط ـ والد الأسير ـ الذي تحول إلى نجم أغلفة في الميديا الإسرائيلية، وبموافقة أغلبية الإسرائيليين ـ في استطلاعات رأي ـ على إطلاق سراح ألف أسير فلسطيني مقابل شاليط الأسير لدى حماس، وعلى تضمين القائمة أسماء شاركت في عمليات فدائية قتالية ضد الإسرائيليين، بينما الحكومة الإسرائيلية تحاول امتصاص الغضب، الذي شارك في دعمه وزراء حرب سابقون، نصحوا بدفع الثمن الذي تطلبه حماس مقابل شاليط، ورد نتنياهو: ليس بأي ثمن، ثم جرى تسريب أنباء عن تجدد الوساطة الألمانية، وردت حماس بأن إسرائيل تعلم الثمن الذي يتوجب عليها دفعه، وأن الملف مغلق إلى أن ترضخ إسرائيل.

بدت المفارقة ذات مغزى، فحماس التي لا تتفاوض مع إسرائيل مباشرة، ولا يزورها جورج ميتشل، هي الطرف موضع الاهتمام والتحسب الإسرائيلي، بينما إسرائيل لا تكاد تبالي بعباس، تضعه على الرف، وتكتفي بمنحه وظيفة مفاوض، وهو لا يكاد يعرف وظيفة أخرى، ويختصر مهام الرئيس الفلسطيني في نوع من العلاقات العامة، يذهب للقاء مبارك في شرم الشيخ، أو ينتظر زيارات جــــورج ميتــــشل، أو يعرب عن تبرمه من توحش الاستيطان الإسرائيلي في القدس، ولكن من دون أن يعبر الخط الأحمر، أو يهدد بقلــــب المائدة، أو يسعى لحيازة ورقة ضغط، وعلى أمل زائف أن تخلصه أمريكا من مشكلاته، وأن ينجح أوباما في إقناع نتنياهو برمي أي فتات لعباس، بينما أوباما مشغول عن عباس، وعينه على انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، وكسب ود اللوبي اليهودي، وتأكيد التزام واشنطن بأمن إسرائيل، وبحث الملفات الأولى بالرعاية، والتركيز على الخطط الأمريكـــية الإسرائيلــــية المشتـــركة لمحاربة حماس وحزب الله والبرنامج النووي الإيراني، وقبل أن يلتقي أوباما بنتـــنياهو، كان الجنرال مايكل مولن ـ رئيس أركان الجيوش الأمريكية ـ قد زار تل أبيــــب للمرة الثالثة عشرة في غضون شهور قليلة، وتم بحث تفاصـــيل التفاصيل في خطط الحرب المقبلة، والتي لا مكان فيها لشيء اسمه عباس.

ولا يتصور أحد أن الرئيس عباس لا يعلم، لكن الرجل في محنة حقيقية، صنعها لنفسه وبنفسه، ومنذ أن دخل طرفا معاونا للإسرائيليين والأمريكيين في حصار الرئيس عرفات بمبنى المقاطعة، وخلفه في قيادة فتح ورئاسة السلطة، وأفرغ السلطة من أي محتوى وطني، وحولها إلى إطار معيشي يرفع عن الاحتلال أعباءه وتكاليفه، إضافة لوظائف الوكيل الأمني للإسرائيليين، ثم أجهز عباس على ما تبقى من حركة فتح، التي ينص ميثاقها على تحرير فلسطين من النهر للبحر، وعلى الحرب الشعبية المسلحة، وعلى رفض أي اتفاق ينتقص من الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، ثم تحولت فتح ـ بعد مؤتمر عباس الأخير ـ إلى شيء آخر، ينشغل قادتها بالنزاع مع سلام فياض موظف البنك الدولي السابق، ويتسابقون إلى الوظائف والرواتب والمخصصات، ويتفرغ الرئيس عباس لحل المنازعات بأوامر الصرف، واستبدال الوظائف بالعمل الفدائي، والتحكم في خزانة 'الصندوق القومي الفلسطيني'.

وكما كانت اتفاقات أوسلو مثالا للمتاهة بخرائطها المعقدة، وبمناطق (أ) و(ب) و(ج) فيها، وبالتباس سلطة الحكم الذاتي مع سلطة الحكم الوطني، فقد انتهى عباس ـ أبرز صناعها ـ هو الآخر إلى متاهة، كان الرئيس عرفات ـ رحمه الله ـ مناورا بامتياز، عاش بالمناورة ومات بها، وترك حركة فتح في مصيدة أوسلو، وانتهى بسيرتها إلى التقاعد قبل أن يجيء الأوان، وختم على قلبها بمصير عباس، الذي يبدو كارها لكل شيء يمت بصلة لفدائية فتح، وراغبا في 'فتح' الطريق للإسرائيليين، ومقابل ضمان وظيفة مفاوض، وإلى أن يقبض الله الروح وترث إسرائيل 'القدس'.

كاتب مصري