خبر مفاوضات « الجرعة القاتلة »... حسين الزاوي

الساعة 09:10 م|11 يوليو 2010

مفاوضات "الجرعة القاتلة"... حسين الزاوي

 

كلما وصلت السياسة “الإسرائيلية” إلى قمة إفلاسها إلا وجدت من يعيدها إلى سكة وواجهة العلاقات الدولية بكل مساحيقها ونفاقها ودجلها المبني على الشرعية المأجورة، في الوقت الذي تدفع فيه دول أخرى أثماناً باهظة عن جرائم لم ترتكبها أصلاً . فمشكلة العالم العربي والإسلامي مع الغرب وفي مقدمه الولايات المتحدة، هو أن هذا الغرب الاستعماري يُصر على أن يُلهي دول المنطقة وشعوبها بالصراع مع كيان مصطنع يقضي جهاراً نهاراً على أي شيء يمكن أن نسميه شرعية دولية . ففي الوقت الذي يُعبر فيه زعيم أكبر دولة في العالم عن قلقه تجاه البرنامج النووي الإيراني، يصرح بكل ببرودة دم مخجلة أنه يدعم البرنامج النووي “الإسرائيلي” .

 

كما أنه وفي اللحظة التي كنا ننتظر فيها أن ينطلق مسلسل عالمي جدي من أجل العمل على عزل “إسرائيل” بشكل تدريجي عقاباً لها على جرائمها المقترفة في حق القانون الدولي والشرعية القانونية، بعد قيامها بقتل مواطنين أتراك مسالمين بوحشية بالغة وعن سبق إصرار وترصد في عرض المياه الدولية . ها هي “إسرائيل” تعود إلى معترك الساحة الدولية، عبر البوابة الأمريكية، بعد استقبال أوباما لرئيس وزراء كيان دولة أضحت الآن تمثل الدولة الأكثر اختراقاً للأعراف الدولية . وفي اللحظة التي لا يزال يَنتظِر فيها الشعب الفلسطيني أن تدفع ثمن حصارها لقطاع غزة، يطل علينا نتنياهو عبر اللقاء الصحافي المشترك مع الرئيس الأمريكي، ليتحدث للعالم عن سلام مُلطخ بدم الأبرياء الذين قتلهم الجيش “الإسرائيلي”، وليقول للفلسطينيين بكلمات لا تختلف كثيراً عن اللهجة الآمرة والمتوعدة بأنه يجب الانطلاق الآن في المفاوضات المباشرة ومن دون شروط مسبقة .

وكأن نتنياهو يريد أن يجعل من هذه المفاوضات المباشرة، في صورة حدوثها مفاوضات الجرعة القاتلة، بعد أن أسهمت المفاوضات السابقة بحقن جرعات مدمرة في جسد السلطة وفي أنسجة وخلايا اتفاق أوسلو، وفي مكونات الوحدة الوطنية الفلسطينية . ف”إسرائيل” تريد أن تقضي على ما تبقى من السلطة، بما يمكن أن نسميه، ضربة المفاوضات القاضية، وهي لا تريد بالتالي أن تتركها تحتفظ بما تبقى لها من مشروعية متهالكة داخل الشارع السياسي الفلسطيني . إذ لم يعد خافياً أن القيادة الحاكمة في “إسرائيل” تريد أن تقضي قضاء مبرماً على ما تبقى من وشائج الحب والتقدير بين السلطة والشعب الفلسطيني، لأن هدفها النهائي هو الاستفراد بعد ذلك بالمقاومة وبتيارات الممانعة التي تعدها “إسرائيل” غير قادرة على أن تكون شريكاً يمكن إنجاز عملية سلام معه، خاصة أن تهمة الإرهاب جاهزة ومبررات الحرب الدولية على هذه الظاهرة التي صنعها الغرب، كفيلة بإنجاز التصفية السياسية لأي بديل محتمل للسلطة الفلسطينية الحالية ولحركة فتح عموماً . ف”فاكهة” السلطة تم عصرُها مثل الليمون الطازج، طيلة سنوات عديدة من المفاوضات، وحان الوقت الآن لتجفيفها والتخلص منها بعد مفاوضات جديدة يعلم الجميع، وفي مقدمهم “إسرائيل” نفسها أنها لن تسفر عن أي شيء؛ ولكنها ستعطي في مقابل ذلك، كل الذرائع الكافية للكيان الصهيوني من أجل اتخاذ خطوات حاسمة أحادية الجانب، خصوصاً بعد أن يُبلِغ نظراءَه الغربيين أن الفلسطينيين ليسوا جادين في تحقيق "السلام"، وبعد أن تنتهي أشغال بناء الجدار الذي يفصل ما بقي من الضفة وأراضي "الخط الأخضر"؛ لتُحول “إسرائيل” النصف المتبقي من الضفة الغربية إلى غزة جديدة، في اللحظة التي يكون فيها الاستيطان قد حقق كل أهدافه، وقد يُطلب آنذاك من الأردن أن يضطلع بمواجهة الكارثة الإنسانية الجديدة في الضفة . ثم تدفع “إسرائيل” بالأوضاع في الضفة والقطاع إلى حالة التعفن السياسي إلى درجة لا يبقى فيها أمام كل من مصر والأردن، سوى التدخل في كلتا المنطقتين حفاظاً على “أمنهما” الإقليمي . وبذلك تفرض “إسرائيل” منطقها على الجميع، وتدفع دول الجوار إلى الاقتناع بأن التخلي عن حلم قيام دولة فلسطينية يمثل مصلحة قطرية لكل دولة من دول الطوق .

 

لا شك أن الأمور لن تسير كليةً، بحسب هذا السيناريو الكارثي، ولا وفق ما يشتهي الصهاينة، لكن تحويل الضفة الغربية إلى غزة جديدة سيفرض أعباء وتحديات جدية على الدول العربية، وسيتم من ثم استنفاد مبررات الوضعية الإنسانية حتى يخِف ويتلاشى تأثيرها في الرأي العام العالمي . خاصة أن “إسرائيل” تمتلك آباء وليس أبا ممثلةً في دول الغرب المتعدد، وفي الوقت الذي يضيق فيه الآباء الشرعيون ذرعاً بالتصرفات النزقة لأبنائهم، ويُصبحون غير قادرين على دفع التكلفة الأخلاقية الكبيرة المترتبة عن تصرفات هؤلاء الأبناء، فإن الآباء غير الشرعيين الذين تناوبوا على مضاجعة الفكر الصهيوني، لا يشعرون بأي حرج من أجل تبرير تصرفات هذا الولد النزق المدعو “إسرائيل”، وذلك كلما دعت الضرورة إلى ذلك، وبصرف النظر عن فداحة الجرم، وكأن أبناء الزنا يحق لهم ما لا يحق للأبناء الشرعيين .

 

لقد أضحى واضحاً أن القيادة “الإسرائيلية” تستحِث الخطى وتبذل قصارى جهودها من أجل استدراج السلطة الفلسطينية إلى مفاوضات، تعلم السلطة أنها لن تكون كمثيلاتها من المفاوضات السابقة، بحكم الإلحاح الصهيوني غير المسبوق . لأن “إسرائيل” تريدها مفاوضات من أجل دق آخر مسمار في نعش السلطة، حتى يكون سم اللحظة الأخيرة قاتلاً، يقضي على كل ما تبقى من النخبة السياسية الفلسطينية الموصوفة بالاعتدال، والتي تحظى بحد أدنى من القبول لدى النخب السياسية الغربية.