خبر الحاجة إلى سياسة ثقافية عربية ..علي عقلة عرسان

الساعة 09:05 ص|02 يوليو 2010

الحاجة إلى سياسة ثقافية عربية ..علي عقلة عرسان

 

نؤكد بداية أننا نحن العرب نقرأ، ولكن لدينا مشكلة ترقى إلى الأزمة في مجال القراءة والمتابعة، وإدراك عمق ما نقرأ، وتَمَثُّل ما نستحسنه مما نقرأ وجعله من حاكمات السلوك، ومحرضات تحويل المعارف والعلوم النظرية إلى إنجازات وتطبيقات عملية ومهارات فنية وتقنية، تصب في مجرى الصناعات والإنتاج المتقدم في كل المجالات، وتفتح أبواب آفاق حضارية، وتنقلنا من مساحات الجهل إلى ساحات المعرفة والعلم. نحن أمة "إقرأ" لا نقرأ بما فيه الكفاية، ولا نكاد نعانق الكتاب بما يتوافق مع حاجاتنا وعقيدتنا والأمر الإلهي الموجه إلى رسولنا وإلى كل منا: "إقرأ".. ومن ثم فنحن لا نقارب المعارف والعلوم والآداب العصرية بالشكل المناسب وبالكثافة المطلوبة، وبما تحتمه الضرورات الملحة وما يتطلبه واقعنا وعصرنا والتحديات المطروحة علينا، وأهمية تحقيق توازن بين المادي والروحي في حياتنا.. والأدلة والمؤشرات على ذلك حادة وقاسية، والاستثناءات الموجودة لا تشكل قاعدة يُستند إليها ويُبنى عليها.

القراءة تتراجع بشكل ملموس في الوطن العربي، أو أنها لا تنمو بمقدار الحاجة والضرورة، ونمو السكان على الأقل، ولذلك أسبابه وعلاجه. وما ينقصنا بالدرجة الأولى سياسة ثقافية شاملة، سياسة دولة أو سياسة أمة، تشمل الأسرة والمدرسة والمجتمع، ترسّخ التمكن من اللغة، وعادة القراءة، والتعلق بالكتاب، والاستفادة مما يُقرأ، وأهمية أن نقرأ، وتساهم في تنمية الوعي المعرفي، ومن ثم في تكوين التربة الملائمة للتنمية البشرية المستدامة ابتداء من التنمية الثقافية وثقافة التنمية التي تنقصنا بصورة مثيرة للقلق. ولا يفسر التحول الجزئي في مصادر المعرفة والعلم والمعلوماتية من الوعاء الورقي إلى الوعاء الإلكتروني تراجعَ مكانة الكتاب أو تراجع القراءة في مجتمعنا، فإقبال القراء على التعامل مع الكتاب في الوعائين الإلكتروني "الرقمي" والورقي، قليل جداً. ومع أن نسبة لا بأس بها من الأجيال الشابة تكتسب المهارات اللازمة للتعامل مع الأنترنت والمعلوماتية والحواسيب والتقنيات المتعلقة بالمعرفة المخزنة رقمياً وأدواتها، ومن ثم تستطيع أن تقرأ وفق التقنيات المتطورة،  إلا أن التعامل مع الكتاب في الوعاء الإلكتروني مازال محدوداً لأسباب تتعلق بأمية في مجال تقنية المعلومات مضافة إلى الأمية الألفبائية والثقافية المنتشرتين، كما تتعلق بحجم التخزين والإتاحة، وبالقارئ الذي يحتاج إلى توطّن عادات جديدة في التعامل والتواصل مع هذا النوع من المعرفة.. إضافة إلى حاجته إلى اقتناء حاسوب، واكتساب مهارات تقنية محددة، وشغف بالمعرفة والاطلاع. والجهود تتواصل من الأطراف المعنية لتذليل ما ينشأ من صعوبات جراء التعامل مع الجديد والمتطور في هذا المجال، ولكنها أضعف من أن ترتقي بمستوى القراءة من الأزمة الحادة إلى المشكلة المتدرجة نحو الحل.

والدولة العربية التي ينبغي/أو يجب/ أن تحرص على ثقافة الأمة حرصها على وجودها، وترفع شعار التنمية وتستشعر ضرورتها، لا تأخذ عملياً بحقيقة أن أساس التنمية في كل المجالات هو الوعي، وأن أساس الوعي هو المعرفة، وأن جزءاً كبيراً من المعرفة يحصل عليه المرء عن طريق الثقافة والمثاقفة والتعلّم، أي عن طريق القراءة والبحث. كما أنها لا تأخذ التنمية بأبعادها من منظور علمي جاد، حيث تنمي ملكات الإنسان ومعارفه ومهاراته، وتعلَّقه بالقراءة والتعلم، ليتابع التطور والجديد ويتجدد ويبدع، ومن ثم تصل بنا إلى المجتمع العربي القارئ. وعلى الرغم من أن قمة عربية ركَّزت على القضايا الثقافية، هي قمة الرياض التي صدر عنها " إعلان الرياض"، وقمم أخرى اتخذت قراراً حول تعزيز مكانة اللغة العربية وأكدته، إلا أن السياسة العربية تكاد تتغاضى عن حقيقة أن الاستثمار في المعرفة والعلم هو الاستثمار المستقبلي الأجدى، وأنه أساس الربح في كل استثمار، وأن الإنسان المثقف ثقافة عامة واسعة وتخصصية عميقة، هو حامل هذه المعرفة بأنواعها، والقائم بأعباء التنمية وحماية منجزاتها، وجعلها تستمر على الوجه الأسلم، والقادر على المثاقفة بمفهومها الشامل ومستواها الرفيع، من خلال سعة الاطلاع وحسن الأداء وصدق الانتماء وحضارية السلوك، والقدرة على الابتكار والإبداع. ونأمل أن تتمكن القمة الثقافية العربية التي تقرر عقدها، بناء على قرار القمة العربية الأخير في سرت، من وضع السياسات واتخاذ القرارات التي تنهض بالثقافة والمعرفة وتؤدي إلى مجتمع عربي قارئ وصناعات ثقافية عربية متقدمة تملأ السوق الثقافية عربياً، وتزاحم عالمياً.  

إن المؤلف يشكل أحد قطبي عملية الإبداع وإنتاج المعرفة، وهو أهم  أطرافها، وأشد تلك الأطراف معاناة من جهة، وأهمية في انطلاقها وتأثيرها وعمقها وكفايتها وتنوعها وأرفعها من حيث النوع والكم من جهة أخرى، ولكن القارئ يشكل القطب الثاني الذي تصب عنده الحصيلة النهائية للتأليف والترجمة والنشر، للإبداع والابتكار.. وتنعكس آثارها عليه سلباً وإيجاباً، ويتمكن تأثيرها فيه حيث يتجلى وعياً وتذوقاً وقدرة على الاستفادة والإصلاح والتغيير والتحديث والتطوير والتقدم، والعيش بثقة ومتعة وعمق شعور، ووضوح رؤية، ونديَّة مع الآخر. والقارئ في السوق الثقافية هو المستهلِك الذي يسوِّغ الإنتاج الثقافي ويسنده ويروجه ويدفعه قدماً، وهو القطب الذي تتجمع  لديه حصيلة جهود واجتهادات الأطراف المعنية بحركة النشر وصناعة الكتاب وكثير من الصناعات الثقافية الأخرى، ويتحمل نتائج عملها واجتهاداتها وطموحاتها وأطماعها وإخفاقاتها بشكل أو بآخر، ويدفع التكاليف والأرباح لمن تهمهم الجوانب المادية من الأرباح.

والقارئ العربي محكوم بكل معوقات الحياة العربية، ومحروم من كثير من زاد المعرفة وثمرات القرائح والمطابع ومصانع الأقراص المدمجة الحاملة للزاد المعرفي، لعدم قدرته في المحصلة على توفير مناخ العيش الذي يسمح للمعِدة والرأس بغذاء مادي وروحي متوازن أو متقارب، نتيجة للفقر، وضغط الحاجة، وفقدان الخدمات، وتراخي الإرادة، وتآكل التطلع والطموح، ولكثرة ترسبات القهر والإحباط ورصيد الجهل أو العنجهية في المجتمع.. هذا القارئ يبقى في النهاية هو المقصود بحركة النشر وهو أهم محركاتها، والمقصود أيضاً برسالتها النبيلة، إذ هو هدف أهدافها وأعلى تلك الأهداف، وهو جوهر ديناميتها.. إضافة إلى كونه المقصود بالتنمية وهو أداتها في الوقت ذاته.. فمن دون القارئ لا يروج الإنتاج الثقافي " لا سيما الكتاب بوعائيه الورقي والإلكتروني، والمجلة، والجريدة، والأقراص المدمجة ولا يتم التواصل مع شبكة العنكبوتية وعالمها الواسع."، ومن دون القارئ لا يوجد يتنوع ولا نمو، ومن دون القراءة لا يتم الإطلاع على ما يُكتب ولا يُستفاد منه. صحيح أن هناك علاقة جدلية بينهما، وأن المؤلف والناشر قد يكونا رائدين في ذلك الميدان، ولكن الكتاب يدخل ولو جزئياً سوق العرض والطلب، وهي سوق لها قواعدها وقوانينها وأحكامها، والعامل المؤثر فيها هو الإنسان القارئ.

فإذا استطاعت حركة النشر العربي أن توفر مائة ألف قارئ عربي لكل كتاب جيد، في حقول المعرفة العامة والآداب والعلوم الإنسانية، وعشرة آلاف قارئ على الأقل في حقول تخصصية " علمية وتقنية وسواهما"، فإنها ستنجح  في تحقيق مشاريع تجسد حلم الانتشار الأفقي للكتاب وتطور مضمونه في العمق، وتغذي تلك المشاريع وتنميها،  الأمر الذي سينعكس إيجابياً بدوره على ازدهارها، وينمي عدد القراء المحتملين، ويساهم في التنمية الثقافية العربية والتنمية المستمرة أو المستدامة، وفي التقدم العام للأمة العربية.

إن كسب معركة الثقة التي لا بد منها لبناء جسور اتصال تعمل بالاتجاهين، بين المؤلف  والقارئ، وهذا أمر في غاية الأهمية، ومن أجل الوصول إلى ذلك لا بد من تذليل صعوبات كثيرة، وخلق ظروف ملائمة لاقتناء الكتاب وتداوله وقراءته، وتسهيل وصوله إلى مرتبة الحاجة في البيت، وإقامة علاقة بين الطفل والكتاب في البيت والمدرسة، وبين الشاب والكتاب في الجامعة والمجتمع، وبين أفراد الأسرة والمكتبة المنزلية. وهذا يحتاج إلى توجيه وسياسة وبرامج وإمكانيات، ولا بد له من قيام تعاون شامل بين جميع المعنيين الذين يهمهم أن يكون قطاع النشر العربي قطاع خدمة متميزة، تلبي حاجة عليا متجددة للفرد والمجتمع. ومن شأن ذلك أن يضع الأمة العربية على طريق النهضة والمستقبل بكل مستلزماتهما واحتياجاتهما المادية والمعنوية، علمياً وعملياً وأخلاقياً وسلوكياً.

إن التطور المستقبلي المنتظر لقراء محتمَلين في الوطن العربي يربو عددهم على المئة ألف قارئ على الأقل كمرحلة أولى، يجعل إمكانية خفض تكلفة الكتاب والدورية أمراً ممكناً جداً، ومن ثم يخفض ثمنهما على المستهلك، ويساعد على اقتناء الكتاب، وهذا يتيح مداخل وفرصاً لتحرير المؤلف والمبدع اقتصادياً وتمكينه مادياً، ومن ثم تحرير قلمه وطاقته الإبداعية من القيود الخارجية والمعوقات الداخلية، المنظورة وغير المنظورة، ويمكِّنه من أن ينصرف بحرية وثقة إلى تحسين قدراته وأدائه وتطوير معارفه وإبداعه والمادة التي يقدمها للقارئ.. وهذا ينعكس على الكتاب جودة وعلى القارئ فائدة ومن ثم على المجتمع وعياً وتقدماً، فالقارئ يحتاج إلى الكتاب المتميز، فضلاً عن المردود المعرفي الذي لا يمكن التكهّن بمدى تأثيره الإيجابي في حركة الوعي عمقاً وشمولاً، وفي المد النهضوي والحضاري العربيين.

أما لماذا لا نقرأ أكثر.. فذلك يعود إلى أسباب كثيرة منها:

أ ـ عدم قيام البيت والمدرسة بتوطيد علاقة الطفل والتلميذ والطالب بالكتاب، وضعف التدريب على المطالعة والاستيعاب، من خلال كشف عوالم المعرفة والكتب المغرية والممتعة، وسبر عملية الفهم والاستخلاص.

ب ـ ضعف القدرة الشرائية عند شرائح واسعة من الجمهور، بسبب تدني الدخل، وارتفاع تكاليف المعيشة من جهة، وارتفاع ثمن الكتاب من جهة أخرى.

ج ـ عدم وجود الكتاب في منافذ بيع في مدن وبلدات وقرى كثيرة، وحتى في أحياء من مدن كبرى.. الأمر الذي يشكل صعوبة في التواصل مع الكتاب المنشور، وصعوبة في الحصول عليه.

د ـ قلة التعريف الموضوعي بالكتاب، وضعف الدعاية العامة للكتب، وشيوع أساليب غير صحية في الدعاية لهذا الكتاب أو ذاك، هذا المؤلف أو ذاك. وترويج أحكام " إيجابية أو سلبية" بوسائل عديدة منها الإعلام، حول كتب ومؤلفين، وهي في الأغلب الأعم أحكام لا تأتي نتيجة قراءة موضوعية وقراءة نقدية منصفة يقوم بها مختصون موضوعيون أكفاء، بل نتيجة عمل ميليشيات تعمل بوحي من تعصب أو تطرف أو جهل، وتتناقل الإشاعة سلباً وإيجاباً وتجعلها مصدر الرواج.. وفي هذا ما فيه من عيوب وآثار سلبية على المجتمع والكاتب والكتاب.

هـ ـ ضياع كثير من وقت المواطن العربي في البحث عن لقمة العيش، أو أشكال هدر الوقت وعدم استثمار الزمن، وقضاء ساعات في الفرجة على التلفاز، أو في المقاهي أو في أماكن تسلية أخرى.   

و ـ قصور كتب عن مجاراة التقدم المعرفي، لأسباب منها عدم المتابعة والقصور عن تقديم معرفة وعلم متقدمين، بأساليب مقنعة ومغرية وبسيطة، تغني عن مصادر أخرى أو تغري بتفضيلها على قنوات وأوعية معرفية وأساليب تحصيل مغايرة.. كتب تروي شغف المواطن إلى المعرفة وتشده إلى ينابيعها ولا سيما الكتاب، وتجعله لا يجد حاجته ومنفعته ومتعته وراحته في أية واحة أخرى مثلما يجدها في الكتب. وهذه مسؤولية مشتركة للمؤلفين والناشرين والقائمين على التخطيط وصناعة الكتاب في الوطن العربي.

ز ـ خلل السياق الاجتماعي والوظيفي والسياسي العام.. الذي لا يجعل تقدير الأشخاص وإسناد الأعمال والمهام إليهم على أساس من توافر المعرفة والثقافة والعلم والقيم والكفاءة العامة.. وذلك نتيجة فساد في المعايير وفوضى في الأحكام، وشيوع علاقات اجتماعية مريضة، وأمراض اجتماعية وسياسية التي لا تحترم تراتبيات المعرفة والثقافة والأداء الحسن والقدرة والتميز، بل تكيل بمكاييل أخرى.. الأمر الذي يجعل المعرفة والثقافة والعلم والقدرة على التحصيل.. إلخ ليست ذات قيمة مفصلية تفضيلية في تقويم الأعمال والأشخاص في كثير من المواقع والحالات.. وربما تساهم في إشاعة القول بأن المعرفة والثقافة توجهات لا تطعم خبزاً، كما يقال، ولا ترفع شأناً، فينصرف أشخاص كثر إلى أمور أخرى وأساليب ووسائل لكسب العيش، وتحقيق الذات، والحصول على متطلبات الحياة.. وذاك يدخل في تكوين أس البلاء ويشكل بعض مكامن الداء. ولا مخرج لنا من ذلك كله إلا بسياسة ثقافية عربية شاملة، تحقق نهضة معرفية وعلمية وتقنية، وترسخ معايير للعمل الحكم والاحتكام، وللتطور الاجتماعي والثقافي والاستفادة منهما، وللوعي والتنمية بكل أشكالها، وتخلق حالة وعي عام تفضي إلى أمة قوية تحمي الوطن والمصالح والإنسان، وتصون الكرامة، وتستعيد دورها في الحضارة البشرية. 

دمشق في 2/7/2010