خبر الأغوار جبهة مقاومة مفتوحة في وجه اقتلاع الوجود الفلسطيني

الساعة 05:31 ص|21 يونيو 2010

الأغوار جبهة مقاومة مفتوحة في وجه اقتلاع الوجود الفلسطيني

فلسطين اليوم : وكالات

كان المواطن عبد الرحيم حسين، يقف في اليوم الأول من حرب حزيران 1967، على ظهر هذه التلة الصغيرة التي تدعى تل الحديدية، المنطقة التي تشهد حياة هشة على نقيض اسمها.

في ذات المنطقة التي يسكن فيها اليوم، وخلال الـ43 سنة من الاحتلال، ظل الرجل شاهداً على ما يجري من تغييرات طالت المنطقة بكل مكوناتها.

كان حسين يحصد القمح، هو ورجال آخرون من بلدته، عندما وصلهم نبأ الحرب، واجتياح إسرائيل للضفة الغربية، ولكن بعد ايام من العدوان شاهدوا طلائع الدبابات الإسرائيلية تصل إلى المنطقة، وشاهدوا بأم أعينهم بداية سلب الأرض وإغلاقها من قبل المحتلين.

بانوراما التغيير

"دخلوا المنطقة، قتلوا ثلاثة رجال وهم في طريق عودتهم من المراعي"، وكان هذا بالنسبة لحسين، أولى إشارات التغيير التي تجري على حياته وحياة كل من سمع عن أو شاهد الدماء التي سالت في المراعي.

كانت أولى قطرات الدم، وأولى لحظات التغيير الفعلي في منطقة الأغوار، التي تسيطر عليها إسرائيل.

عندما تبدأ صفرة الجبال بالتعمق، شرق الضفة الغربية، ويسود حر غير مألوف في الصيف، يمكن تمييز الانتقال من المنطقة المرتفعة التي تشكل مدن وبلدات الضفة إلى المنخفضة التي تشكل الغور، وهو شريط غائر في الأرض ويشكل حدود فلسطين الشرقية.

يمكن تحديد جغرافية فريدة لها خصوصيتها الاستراتيجية والمناخية.

كان الناس هنا يزرعون الحبوب بكثرة، والآن ينتجون المحاصيل المروية، وبعضهم يربي الماشية في المضارب والقرى الزراعية القائمة، لكن قبل 43 عاماً كانت المنطقة كلها احتمالات معقولة لأنوية قرى صغيرة لم تنشأ بفعل قوة الاحتلال.

تبلغ مساحة الاغوار 1303 كم2، تسيطر إسرائيل على جزء كبير منها، وهي منطقة خالية من السكان، باستثناء مدينة أريحا والقرى المحيطة بها، وقرى شمال الغور على حدود العام 7691 ومحاطة من الغرب والجنوب بسلسلة من الجبال يمكن تمييزها بانحدارها نحو الشرق.

وتمتد الأغوار على مسافة 120 كيلومتراً، بعرض أحيانا يصل إلى 15 كيلومتراً، ينتهي شرقاً عند ضفاف نهر الأردن، الذي لا يسمح للمزارعين الفلسطينيين الاستفادة من مياهه منذ الاحتلال العام 1967.

تغيرات ديمغرافية

تخلو الكثير من الجبال من السكان والرعاة، الذين هجروا الكثير منها تحت وطأة الخوف من المناورات العسكرية الاسرائيلية، او بسبب تهديدهم بشكل مباشر بحجة انهم يسكنون في مناطق عسكرية مغلقة يحظر الدخول اليها، مثل مناطق العرقوب التي تطل على نهر الاردن.

المواطن حسين تعرض لذلك، لقد هدمت قوات الاحتلال مسكنه خلال السنوات القليلة الماضية 5 مرات.

وعلى امتداد الغور، هنا؛ عند كل مضرب رعوي هامشي، تظهر مكعبات اسمنتية، عند كل مدخل الى تلك المضارب، كتب عليها باللغة العربية: ممنوع الدخول، منطقة عسكرية مغلقة. وبوجود هذه المكعبات على الطرقات الترابية التي تقود الى المضارب، تكون كل المناطق المحتملة لسكان الرعاة مناطق محرمة، يحظر الدخول اليها تحت طائلة القوانين العسكرية الاسرائيلية.

من على بعد، تظهر مضارب الخيش مثل نقاط سوداء في خارطة ملونة. إنها حياة هامشية جافة في الصيف موحلة في الشتاء.

لكنّ هناك إصراراً على البقاء، والرعاة غير آبهين بـ"قوانين المكعبات".

"إنها قانونهم" في إشارة الى الأنظمة العسكرية الإسرائيلية، قال أحد الرعاة الذي يمر يومياً من جانب مكعبات وضعت في منطقة يطلق عليها وادي الفاو الذي يفيض شتاء عندما يكون المطر غزيراً، ويبعد عدة كيلومترات عن مسكن حسين نحو الشمال.

لكن الرعاة في بعض هذه المناطق يدخلون ويخرجون، ويتناسون امر هذه المكعبات التي صارت جزءاً لا يتجزأ من الجغرافية الغورية.

علامة على تهجير الفلسطينيين

يمكن رؤية مسارب ترابية تقود إلى مساكن الرعاة، ويمكن للزائر أول مرة تحسس ما تريد إسرائيل في المنطقة: تريد تفريغها من سكانها سنة بعد سنة.

لقد عملت على ذلك منذ اليوم الأول لاحتلالها الضفة الغربية فعلياً، عندما بدأت تطارد الرعاة، وكانت الدولة الأولى التي تبتدع سجوناً للمواشي بعد مصادرتها، لتقوم بعد بإجبار مالكيها الفلسطينيين على دفع مبالغ نقدية مقابل كل رأس من الماشية محتجز لديها.

كان ذلك إشارة إلى تعمق بداية التغيير في حياة الفلسطينيين في هذه المنطقة.

يقول بعض الرعاة كيف كانت مواشيهم تنقل الى تلك السجون، وكيف دفعوا أموالاً مقابل سجنها!. لقد دفع بعضهم ثمناً باهظاً لدخول الحمير الى المناطق الحدودية المغلقة. فتعرضت العائلات التي تملك تلك الحمير للضرب والتنكيل.

قال حسين، إن قوات الاحتلال احتجزت خلال تلك السنوات، ماشيته 4 مرات، وانه كان عليه، أن يدفع كل مرة 10 دنانير أردنية مقابل كل رأس عن كل ليلة تقضيها الماشية في سجن الاحتلال.

وأعاد الاحتلال الإسرائيلي خلال 43 عاماً من احتلاله للأرض تشكيل أنماط الحياة بكل مكوناتها: جغرافيا، تاريخ، آثار، ديمغرافيا، أحلام.

في الأغوار بين العامين 1967 و2010، بعد ثلاثة وأربعين عاماً من احتلال إسرائيل للضفة الغربية، بدا الفرق شاسعاً بين ذلك المشهد الذي كانت عليه هيئة الغور ذلك العام حين اصطفت ارتال الدبابات الإسرائيلية على التلال الصغيرة موجهة فوهات مدافعها كيفما شاءت، وبين المشهد الآن، الهيئة الجديدة التي تلاشت فيها الحياة الفلسطينية القائمة على تلك الهضاب الملونة الى أدنى حدودها، ونشأت في محطيها حياة اخرى تمثلها المستوطنات ومعسكرات الجيش المحتل، وكلها تمثل تطور حياة جديدة قائمة على إحلال مصطنع لشكل حياة بالقوة محل تلك الحياة الأصيلة.

في الغور يمكن مشاهدة كيف تعمل سياسة الاحلال: توفير كل أسباب هجرة الفلسطينيين، وفي المقابل توفير كل أسباب التوسع للاستيطان الزراعي الذي كان الشرارة الأولى للاستيطان بكل اشكاله في الأرض الفلسطينية.

تاريخ مفعم بالمرارة

مع نهاية 2006 بعد 6 سنوات على انطلاق انتفاضة الأقصى، أكثر سني الاحتلال الإسرائيلي سواداً، تيقن سكان الغور أن هذا العام كان أشد السنوات قسوة، عندما اكتمل العزل، في ظل تواصل الخطة الإسرائيلية المعلن منها والمستور "تعزيز السيطرة على غور الأردن"، وهو المصطلح الذي تناوبت وسائل الإعلام الإسرائيلية على استخدامه منذ السنوات الأولى لاحتلال الضفة الغربية.

وفي الوقت نفسه ضرب الاستعمار والحصار المنطقة بكل قوة، وأصابا اقتصادها في مقتل، وغيرت سلطات الاحتلال الوضع الجغرافي والديمغرافي في هذه المنطقة في سياق الخطة الإسرائيلية الرسمية التي أُطلق عليها اسم "تعزيز السيطرة على غور الأردن" التي كان لها مرادف محلي "تهويد الاغوار".

وهذه الخطة التي أخذت حينها مسميات كثيرة كـ "التجميع" و"الانطواء" و"الانزواء"، لم تكن في واقع الحال إلا ترجمة للأحلام الاستعمارية التي شغلت "أبو الاستعمار" رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ارئيل شارون.

وفي هذا العام، وضعت سلطات الاحتلال يدها على كامل منطقة الغور الغنية بمواردها وذات البعد الاستراتيجي، الممتد من جنوب أريحا حتى شمال شرقي طوباس عبر الحصار، وخسر السكان أراضيهم بسبب العزل، وقبل ذلك كان تحول الغور إلى منطقة استثمارية لصالح المجموعات الاستعمارية الممولة من قبل الحكومة الإسرائيلية التي دأبت منذ العام 1967على تسمية الغور كمنطقة منفصلة عن بقية انحاء الضفة الغربية.

وهذه المنطقة التي كانت سفوحها قواعد لانطلاق الفدائيين بزعامة الرئيس الراحل ياسر عرفات، تحولت بسبب العزل إلى "غيتو" مغلق يعاني سكانها التهجير، وطبغرافيا تقسم إلى ثلاث مناطق هي: الشمالية والوسطى والجنوبية.

شهدت السنوات الأولى من الانتفاضة عمليات ترحيل معلن من الأغوار، لكل شخص كانت بطاقة هويته لا تحمل في خانة مكان السكن، إحدى قرى الأغوار.

ومنذ العام 1967عمدت إسرائيل إلى السيطرة على أحواض المياه وعشرات الآبار الارتوازية، ودمرتها وسيطرت على أخصب الأراضي الزراعية التي تمتد على طول الضفة الشرقية لنهر الأردن وأحاطتها بسياج مكهرب وملغم.

وعلى طول سنوات الاحتلال، عبر أركان المستويين السياسي والعسكري الإسرائيليين عن معسكرات للاحتلال

وطوال السنوات الأولى من الانتفاضة، كان تطبيق النوايا مستمراً قولاً وفعلاً، حيث تم انتهاج سياسة العزل التي طبقتها سلطات الاحتلال على المنطقة، والتي مرت بعدة مراحل بدءاً من منع سكان المنطقة ومالكي الأراضي من دخولها، ووصولاً إلى منع كامل سكان الضفة الغربية من التوجه إلى منطقة الغور.

ويعتبر ما يطلق عليه المتنافسون في كل الانتخابات الإسرائيلية، بالحفاظ على منطقة غور الأردن، إشارة بسيطة من الإشارات الإسرائيلية الكثيرة التي صدرت وتشير إلى عدم نية إخلاء هذه المنطقة في المستقبل، لمنع إقامة دولة فلسطينية ذات حدود شرقية مفتوحة.

وكان زعيم "كاديما" أيهود أولمرت، رئيس حكومة الاحتلال السابق، قد تعهد بوضع حدود دائمة للدولة الإسرائيلية لا يكون فيها الغور تحت سيطرة الفلسطينيين.

وقبله تعهد رئيس الوزراء الأسبق الراقد في غيبوبته الطويلة ارئيل شارون بذات التعهد.

ونتنياهو الذي يقود حكومة يمينية تعمل على تعزيز الاستيطان، قال في آذار الماضي، ان "إسرائيل" لن تتنازل عن السيطرة على غور الأردن في إطار اي اتفاق محتمل للتسوية مع الفلسطينيين، وفقاً لما أوردته صحيفة "هآرتس" العبرية.

وذكر نتنياهو خلال اجتماع للجنة الشؤون الخارجية والأمن بالكنيست ــ وهي اكثر اللجان نفوذاً بالبرلمان الصهيوني ــ أن الأهمية الإستراتيجية لغور الأردن، الذي يسير بمحاذاة الحدود الشرقية للضفة الغربية ويفصل الأرض الفلسطينية وإسرائيل عن الأردن، تجعل من المحال بالنسبة لـ"الدولة اليهودي" أن تنسحب منه..

في العام 2006، عمدت سلطات الاحتلال إلى القيام بكل ما من شأنه ترسيخ عزل الغور عبر تطبيق العديد من الأنظمة العسكرية غير المعلنة، حيث هجرت سلطات الاحتلال في بداية العام العديد من المواطنين الذين يسكنون في قرى وتجمعات الأغوار، بحجة أنهم ليسوا من سكان المنطقة، وهو ما عرف لاحقاً بقانون الهوية.

وفي أوقات متفرقة، قامت سلطات الاحتلال بهدم عدد من منازل الرعاة، وطردتهم إلى المنطقة الواقعة على مشارف الغور بحجة أنهم يسكنون في مناطق عسكرية مغلفة يمنع دخولها.

حسين ذاته أخذ الى محكمة الاحتلال 3 مرات، لأنه دخل المناطق المحرمة. ومثله يروي كثيرون أنهم دفعوا غرامات لنفس السبب وحولوا الى المحاكم الصهيونية.

وفي هذا العام أيضاً، منعت سلطات الاحتلال وبشكل متقطع المواطنين الذين تقل أعمارهم عن 30 عاماً من الخروج من المنطقة، كما وضعت ما أُطلق عليه قائمة المالح، وهم مجموعة من الرعاة سجلت أسماؤهم على الحواجز العسكرية وأُعطوا أرقاماً للدخول والخروج عبر الحواجز.

نظام فصل عنصري

وكانت سلطات الاحتلال أقامت حاجزين في محيط المنطقة، يشبهان في هيكلهما الإنشائي نقاط التفتيش الموجودة على المعابر الحدودية التي يخضع المارون عبرها للفحص الإلكتروني الدقيق، أقيم الأول في منطقة الأغوار الوسطى في منطقة الحمرا، والثاني يقع على بعد 5 كيلو مترات من طوباس يدعى حاجز تياسير.

لقد طبق الاحتلال على الغور سياسة "المرور من ثقب الإبرة"، بحيث كان من الصعوبة بمكان على أحد الوصول إلى هذه المنطقة إلا عبر المرور من خلال حواجزه، وكان جنود الاحتلال اطلقوا النيران على شاب أثناء التفافه على حاجز الحمرا بينما كان يتسلل عبر بستان حمضيات محاذٍ لمنشآت الحاجز.

وقالت منظمة بتسيلم "الإسرائيلية" في تقريرها الأخير الذي نشرته منتصف الشهر الجاري، إن ما تسمى بـ"الإدارة المدنية الإسرائيلية" هدمت 44 منزلاً في الضفة الغربية، لا تشمل القدس، غالبيتها في منطقة الأغوار.

وأشارت المنظمة إلى أن الاحتلال لا يزال يقيد حركة الفلسطينيين في أجزاء واسعة من الضفة الغربية، بضمنها القدس المحتلة والأغوار والمناطق الواقعة غرب الجدار.

وبحسب التقرير، فإن الاحتلال يتعامل مع حرية تنقل الفلسطينيين كـ"امتياز" يحق له سحبه متى يشاء..

"إنهم يحبسوننا منذ 43 عاماً. لقد غيروا معالم الأرض وحفروا الخنادق"، قال حسين مستعرضاً بانوراما من صور التغيير التي جرت على مدار الثلاث والأربعين سنة الماضية.