خبر نقاط عربية.. فوق حروف تركية .. نبيل عمرو

الساعة 04:00 م|16 يونيو 2010

نقاط عربية.. فوق حروف تركية .. نبيل عمرو

بقلم: نبيل عمرو

احتفينا بما يكفي ويزيد بتركيا، وخلعنا على رئيس وزرائها ألقابا كنا قد خلعنا مثلها على الراحل صدام حسين، والزعيم جمال عبد الناصر، ووصلنا في سلسلة نسب المجد إلى مضاهاة الرجل بخالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي، أما في شأن فلسطين فاستذكرنا مأثرة السلطان عبد الحميد، وبشأن العروبة والإسلام، حولنا الدولة الأطلسية إلى عثمانية.. ولم يبق إلا أن نبدي ندما جماعيا على الثورة العربية الكبرى..

 

إن ما فعلته تركيا وواجهتها في الأمر رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ووزير خارجيته النشط أوغلو.. دون نسيان "متواضع الذكر" على صعيد الإعلام الرئيس عبدالله غل.. يستحق الثناء، ويستحق الوقوف أمامه بجدية، دون نكران أهمية العاطفة المضاعفة التي أملاها الفراغ وقلة الإنجاز وقصر ذيل التحدي العربي.

 

غير أن تركيا الشقيقة والجارة والصديقة، ينبغي أن تقدم للجمهور العربي كما هي حقيقة وبقدر من الدقة.. في أمر السياسات والمواقف والقدرات.

 

في أمر السياسات.. اختارت تركيا، ومنذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم، طريقا آمنا يفصل بين الإسلام كدين وجذور ثقافية، وبين الغرب كمكان تتجمع فيه نسبة كبيرة من المصالح التركية الأساسية، ومضت على هذا السبيل وكانت توزع إشارات المصداقية لكل من يحتاج.. فللغرب وأميركا، الإلحاح على العلمانية، وعدم الإخلال بالأطلسية والاستماتة في الحصول على مقعد في النادي الأوروبي الزاهر.

 

وللعرب والمسلمين نأي بالذات عن المشاركة في الحرب على العراق حيث وبقرار برلماني متقن امتنعت الدولة الإسلامية الأطلسية عن السماح بمرور القوات الأميركية لغزو العراق، وتم تفهم المنع ذي القالب الديمقراطي، والضروري أساسا لدور تركيا المتوازن في المنطقة كدولة جارة وإسلامية مع ذلك.

 

غير أن هذا الهامش العريض من المصداقيات المتعددة لكل الأطراف المتنافرة داخل صندوق الشرق الأوسط.. يحتاج إلى دور مركزي مميز.. وليس مجرد عمل على هيئة العلاقات العامة.. فاختارت الوساطة.. كأسلم الأدوار وأفعلها لتبرير المواقف وتحقيق ما يمكن تحقيقه من أهداف.. فما من خلاف عربي - عربي إلا وأعربت تركيا عن استعدادها للعمل لحله، وكذلك الأمر فيما يتصل بالخلاف الفلسطيني - الفلسطيني.. ثم النزاع السوري - الإسرائيلي.. وأخيرا الصفقة النووية مع إيران.. حيث المراوحة الآن بين كونها صفقة مستقلة ستجهز عليها الدول الكبرى التي لا تسمح لتركيا بالوقوف على رؤوس أصابعها نازعة منها دورا حيويا.. ومع من؟؟ البرازيل!!.. وبين تواضع الصفقة كخطوة نحو ترويض العناد الإيراني في ذات الوقت الذي تسن فيه الدول الكبرى سكين العقوبات المحققة والموجعة ضد إيران..

 

إن تركيا لا تزال تدير سياسة واقعية ضمن المساحات المتاحة فيما يتصل بالعلاقات مع القوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة.. وتلعب في مجالها الحيوي كدولة إقليمية عظمى لا يمكن تهميشها أو تجاهلها، إلا أن الأمر فيه قدر كبير من الاختلاف، حين تدخل تركيا النفق الإسرائيلي ليس كوسيط هذه المرة وإنما كمنازع.

 

إن تقديم ثمانية شهداء أتراك كقرابين مصداقية في عرض البحر، انطوى ومن خلال الاحتمالات على بعدين تكتيكيين نحو هدف استراتيجي.

 

البعد الأول: أن تكون تركيا توقعت دماء وقتلا وتصعيدا مجنونا من جانب إسرائيل، وهذا أمر مستبعد موضوعيا بحكم حرص الأتراك على الذهاب إلى البحر وهم عزل تماما من السلاح.

والبعد الثاني: أن يقتصر الأمر على أزمة قريبة إلى النحنحة التركية؛ تقول لإسرائيل المتمادية في إهانة التحالف القديم واعتصاره على حساب صورة وسمعة الدولة الأطلسية العثمانية: نحن هنا.. وليس كل الطير يؤكل لحمه!! ولو ظل الأمر في هذا النطاق والسياق لكسبت تركيا كثيرا ولما خسرت إسرائيل أكثر، ولأمكن إعادة صياغة العلاقة التركية - الإسرائيلية في بعض جوانبها بشكل أكثر موضوعية، وأقل إحراجا وتماديا..

 

لقد وقع الاحتمال الأفدح، وهو الأول، وتكفل مقاول نجاحات القوى المناوئة لإسرائيل إيهود باراك بتوفير مناخ موات لأزمة يصعب السيطرة على تفاعلاتها، مع منح تركيا وحماس وأميركا وأوروبا وحتى أيرلندا مزايا كي يضعوا أيديهم في مكان أعلى فوق اليد الإسرائيلية ولو إلى حين، لتجد إسرائيل نفسها وقد تحولت وهي لاعب الهجوم الدائم وسط الملعب، إلى حارس مرمى لا يعرف من أين يصد الكرات، ومعذرة لمعلقي المونديال.

 

إلى أين ستصل الأمور؟ هنالك مثل شعبي شديد البلاغة: "الحزن أو الغضب يبدأ كبيرا ثم يصغر"، لقد وصلت تركيا في أوج غضبها المشروع حد التهديد بتسيير قوات عسكرية نحو إسرائيل.. لحماية زوارق الإغاثة الإنسانية التي لا بد وأن تقرر تركيا تنظيمها تضامنا مع الأشقاء في غزة، ولقد سجل هذا القول تحت بند التداعيات العاطفية التلقائية، بين يدي تشييع جثامين الضحايا استباقا لوصولهم إلى بلدهم، وكلما عمل العقل أكثر كلما تواضعت اللغة وتناقص التهديد.. وظهر تدريجيا ذلك المرض العربي المزمن.. "المبالغة في رد الفعل الأول والإحباط المتنامي في الخلاصات".

 

إن الأزمة التركية - الإسرائيلية، مفتوحة على مدى واقعي لا مجال فيه للمبالغة، وكل الذين اختصروا الأمر الآن في لجنة تحقيق دولية بما حدث سيحاولون الاستفادة من الأزمة لعلها تضع أمام الإسرائيليين مشجعات لمرونة ضرورية في مرحلة السعي لإنقاذ السلام الفلسطيني – الإسرائيلي، والسوري – الإسرائيلي، واللبناني كذلك، قد يبقى الحصار بحده الأدنى قائما على غزة، بإرخاء القبضة الإسرائيلية الخشنة عن عنق القطاع، واستبدالها بقبضة لينة رخوة إلا أنها شديدة القوة في أمر السلاح والأمن، وستواصل إسرائيل ذات القيادة اللامبالية إلا باستطلاعات الرأي لدى ناخبيها، التفتيش عن فائدة مما يجري، لعله إنهاء التهديد الأمني المتواضع أصلا والقادم من غزة السجينة وليس مجرد المحاصرة، فتستبدل حربها المباشرة لإنهاء الخطر الماثل في غزة ليتولى العالم كله هذه المهمة نيابة عنها وإلى جانبها، تماما مثلما حدث على الجبهة اللبنانية. وستزهو حماس بنصر إنهاء الحصار أو تخفيفه بفعل الصمود تماما مثلما يزهو حزب الله بنصره وتغاضي إسرائيل عن تهديداته المهينة تاركة الرد لصمت قبور يهيمن على الجبهة الشمالية تحت حراسة دولية شديدة الفاعلية مع تحسب من ردع قد يحرق الأخضر واليابس في لبنان كله، إذا ما سارت تداعيات اللعبة المعقدة وغير المحسوبة إلى مسار من هذا النوع.

 

عودة إلى تركيا التي بدت شبيهة بنا خلال أزمة "مرمرة" وليبدأ صناع القرار العربي، إن وجدوا، عملية حساب أكثر واقعية لمدى ما تستطيع تركيا تقديمه، وهي لم ولن تخرج من شبكة تحالفاتها وعلاقاتها، والأفضل لنا حتما ألا تخرج.. لندرس هذا الأمر بعملية وواقعية ودقة، كي نستفيد من تركيا بلا أوهام، ومن الأزمات والتداعيات بلا ارتجال ومبالغات.