خبر أزمة النخبة الإستراتيجية « الإسرائيلية »! .. د. وحيد عبد المجيد

الساعة 03:59 م|16 يونيو 2010

أزمة النخبة الإستراتيجية "الإسرائيلية"! .. د. وحيد عبد المجيد

د. وحيد عبد المجيد

ليست أزمة أخلاقية فحسب تلك التي كشفها الأداء الإسرائيلي خلال الاعتداء على "قافلة الحرية"، بل أزمة النخبة الاستراتيجية أيضاً بسياسييها وعسكرييها. فلم تغط فداحة الجريمة التي ارتكبتها إسرائيل بحق مدنيين عزل على الضعف الشديد في التخطيط لعملية الاستيلاء على سفن القافلة وفي تنفيذها.

 

ولا تخفى العلاقة الوثيقة بين هذا الضعف وتلك الجريمة الفادحة. فلو أن مستوى الأداء في العملية التي أُطلق عليها "رياح السماء" كان أفضل حالا لاختلف المشهد كثيرا. فالفرق كبير بين إعاقة وصول قافلة الإغاثة الإنسانية إلى قطاع غزة عبر السيطرة على سفنها بطريقة احترافية لا تراق فيها دماء، والاستيلاء على هذه السفن بطريقة دموية وقتل 9 نشطاء مدنيين عزل وإصابة آخرين في عمل يندرج ضمن ممارسات إرهاب الدولة وينطوي على جريمة ضد الإنسانية.

 

ويعني ذلك أن إسرائيل فشلت في استغلال نصوص في القانون الدولي صيغت في العصر الاستعماري وما زالت سارية ويبيح بعضها فرض حصار بحري ومنع وصول السفن إلى المناطق الخاضعة لهذا الحصار بعد إبلاغ الدول المحاربة والمحايدة به. فقد كان بإمكانها القيام بعملية عسكرية "نظيفة" يمكن استنكارها من الناحية الإنسانية، لكن تصعب إدانتها قانونيا لأنها محمية بقاعدة دولية.

 

لكن تدهور مستوى الأداء العام في إسرائيل أدى إلى فشلها في تنفيذ "عملية عسكرية بسيطة وسهلة" لمنع وصول سفن الإغاثة إلى القطاع وفق ما تم الاتفاق عليه في المجلس الوزاري المصَّغر المختص بالشؤون الأمنية الذي يطلق عليه الآن "المنتدى الوزاري السباعي". فقد كشفت الاتهامات المتبادلة بين بعض المسؤولين الإسرائيليين أن وزير الدفاع باراك أكد في اجتماع لهذا المجلس أن "رياح السماء" ستكون بسيطة وستحقق هدفها بسهولة وسيتم اقتياد سفن القافلة إلى ميناء أسدود بيسر.

 

ويتبين من متابعة الاتهامات المتبادلة، والانتقادات التي حفل بها الإعلام الإسرائيلي، أن الفشل حدث على مستويين. أولهما تكنولوجي نتيجة العجز عن استخدام التقنيات المتقدمة للغاية التي يمتلكها الجيش بهدف تعطيل محركات سفن "قافلة الحرية" بدون إنزال قوات "كوماندوز"، ومن ثم سحبها إلى ميناء أسدود. وجرى تبرير هذا الفشل بأن حجم السفينة "مرمرة" ضخم، لذا كان سحبها صعبا ويستغرق فترة طويلة على نحو يمكن أن يسبب أزمة إنسانية لركابها ويجذب اهتماما إعلاميا واسعا طول هذه الفترة.

 

غير أن بعض الاتهامات التي طالت قيادة الجيش أشارت إلى أنه فشل أصلا في استخدام تكنولوجيا متقدمة متاحة لديه، وأن المشكلة كانت في ضعف القدرة على توظيف هذه التكنولوجيا وليست في مسألة سحب السفينة. ولهذا الاتهام منطقه، في غياب معلومات دقيقة عن حقيقة ما حدث، لأنه كان سهلا حل أية أزمة إنسانية تتعلق بنقص في طعام أو شراب عبر توفير إمداد للسفينة. كما أن أزمة من هذا النوع لا تقارن خسائرها وخسائر إسرائيل من جرائها بقتل تسعة مدنيين وهم يؤدون واجبا إنسانيا. كما أن الاهتمام الإعلامي بعملية تقنية لا يمكن أن يبلغ مبلغه في حال عملية عسكرية تراق فيها دماء مدنيين أو حتى عسكريين.

 

ويبدو أن وزير الدفاع وقيادة الجيش كانا يتوقعان أداء أفضل في تنفيذ العملية بدون خسائر بشرية. لذلك ربما لم يبالغ من كتبوا في صحف إسرائيلية أن قتل تسعة مدنيين يساوي هزيمة عسكرية، وليست فقط أخلاقية، لأنه يثير سؤالا عن نتيجة هذه العملية لو أن ركاب السفينة كانوا مسلحين ومستعدين لمواجهة الجنود الذين تم إنزالهم والاشتباك معهم.

 

فالفشل عظيم، إذن، إلى حد يدفع للاعتقاد بدقة معلومات "معاريف" التي قالت إن توترا شديدا حدث بين قادة عدد من أذرع المؤسسة العسكرية والأمنية، وأنهم يتحدثون في اجتماعاتهم وجلساتهم المغلقة لغة مغايرة لما يقولونه علناً.

 

ويعني ذلك أن نائب رئيس الوزراء موشي يعلون ليس هو الوحيد الذي يدرك أن عملية "رياح السماء" فشلت استراتيجياً، وإن كان هو وحده الذي قال ذلك علناً.

 

والمهم، هنا، هو تأكيد الفشل الذي تكرر، على المستوى العسكري والأمني، أربع مرات خلال نحو أربع سنوات منذ العدوان على لبنان عام 2006 ثم على قطاع غزة في نهاية 2008، ومرورا بعملية قتل القيادي في "حماس" محمود المبحوح في دبي فى بداية 2010، ووصولا إلى الاعتداء على "قافلة الحرية".

 

ودلالة ذلك أن تدهورا شديدا حدث في مستوى أداء النخبة الإسرائيلية، مقارنة بما كان عليه في جيل "الرواد" والجيل الذي تلاه. ومن شأن هذا التدهور أن يُفقد إسرائيل أحد أهم عوامل تفوقها على العرب ونجاحها في تثبيت أركان المشروع الصهيوني وتحقيق التوسع الذي بلغ ذروته مع نتائج حرب 1967. فقد تفوقت إسرائيل طوال هذه الفترة لأسباب من أهمها ارتفاع مستوى أداء نخبتها السياسية والعسكرية والأمنية.

 

ولم يكن الفشل في تحقيق أي من أهداف العدوان على لبنان وأهم أهداف العدوان على قطاع غزة هو المظهر الوحيد لتدهور أداء النخبة الإسرائيلية في السنوات الأخيرة. فمن آيات هذا التدهور أيضا أننا إزاء نخبة لم تنتج فكرة استراتيجية واحدة جديرة بالاعتبار على مدى سنوات طويلة، رغم أن التغيرات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وموازين القوى والتفاعلات السياسية فيها تجعل الحاجة ماسة إلى أفكار متجددة. فقد لجأت هذه النخبة إلى التقوقع في صورة جديدة من صور "الجيتو" التاريخي، عبر الإجهاز على "عملية أوسلو" مع الفلسطينيين ورفض مبادرة السلام العربية التي قدمت إليهم اعترافا لا يقدر بثمن.

 

وحين يؤدي تدهور مستوى الأداء العام في أوساط النخبة إلى إفلاس استراتيجي وفشل عملياتى متكرر، لا بد أن تكون إسرائيل في أزمة عميقة، وأن يتحول مشروعها الصهيوني إلى "جيتو" يحاصر نفسه بعد أن كان مؤسسوه طامحين إلى تحقيق أقصى توسع جغرافي وأوسع هيمنة سياسية وتكنولوجية في الشرق الأوسط. فشتَّان بين نخبة تطلعت ذات يوم لأن تكون هذه المنطقة طوع يديها، وأخرى اتهمها الأديب الإسرائيلي المعروف دوليا عاموس موز، في تعليقه على عملية "رياح السماء"، بأنها تضع البلاد تحت حصار أكثر خطرا عليها مما يعانيه الفلسطينيون من جراء الحصار على غزة.